عد حصى الأرض : موريتانيان يحول بينهما أكثر من قرن ونصف يلتقيان

خميس, 2016-09-08 10:10

إني ابحث عن كتاب "دراسات في تاريخ التشريع الإسلامي في موريتانيا" الصادر بااللغة الفرنسية تحت العنوان الظاهر على الصورة. لقد طالعته في نهاية الثمانينات من القرن الماضي فورما عثرت عليه آنذاك في مكتبة قريب لي أسدي له جزيل الشكر. أعني الوزير السابق عبد العزيز ولد أحمد(*) المعروف عادة في المحيط العائلي بلقب "عزي" أطال الله بقاءه و متعه بوافر الصحة.

و لم يحالفني الحظ في الحصول على هذا المؤلف بعد ذلك  رغم محاولاتي المضنية، ورغم أن الكثير من قراءاتي تحيلني إليه باستمرار. فعلى سبيل المثال : كنت أقرأ مؤخرا أستنتاجات دراسة علمية لعالم فلكي امريكي أعادت اليومية الوطنية الموريانية" Horizons" (**) نشرها؛ وهي تتعلق بفرضيات -أو امكانية - الحياة على كوكب المريخ وبشكل أعم امكانية الحياة في الفضاء الخارجي البعيد نسبيا من الأرض، وخلال قراءتي وقعت على رقم يرصد عدد حصى كوكب الأرض حيث أفادت الدراسة أنه يساوي مليار المليارات (10أس17) حصية. 

و يعطي محمد المختار ولد باه الباحث الموريتاني الكبير في الأداب والأستاذ المرموق مؤلف الكتاب الذي أبحث عنه، يعطي هو الآخر تقديرا بالأرقام في هذا المؤلف الذي كتبه في "السبعينات" من القرن الماضي على شكل أطروحة دكتوراه في الآداب، و قد بين طريقة الحساب التي اعتمدها للحصول على العدد الذي خلص إليه بشان حصى الارض.

و يمكننا أن نتساءل  هنا ـ أو أن نتعجب حتى: ما العلاقة بين هذه الحسابات الرياضية ذات الطابع الجيوفيزيائي و الأدب؟

يدخل مسعى الباحث الموريتاني الذي كان يحضر للدكتوراه وقتها في إطار إعداد أطروحته. و قد قادته بحوثه إلى إنجاز هذه الدراسة الأدبية المعمقة (***) حول موضوع يتعلق بأعمال العديد من أفذاذ علماء هذه البلاد. و باستثناءات قليلة فإن المباحث المطروقة والرؤى والطرائق المتبعة من لدن هؤلاء العلماء تبقى بالأساس محصورة في الحيز المعروف تقليديا بالعلوم الشرعية. و بالطبع فإن عالم القرن الثامن عشر و التاسع عشر، الشيخ محمد الماي، كان ممن هم يصنفون ضمن هذا الحيز، ولكنه في نفس الوقت يشكل استثناء. ولم يفت هذا التناقض فضول ونفاذ بصيرة ولد اباه صياد مكامن المفارقات الفكرية ودقائق الاستدلالات.

وبما أنه درس الرجل من زاوية مختلفة مقارنة بالعلماء الآخرين، فإنه استطاع أن يبرز خصوصياته كعالم بلا شبه في عصره: مبينا نبوغه الفريد إذ ذاك و نظرته السياسية العميقة من خلال معالجات أعماله الأدبية و القانونية (****) و كذا بعده العلمي بالمعنى الحديث للمصطلح.

و لدعم استدلاله فيما يتعلق بالجانب العلمي، أشار ولد اباه إلى أن الشيخ محمد المامي كان ـ على سبيل المثال ـ أول رجل في العالم العربي.. و ربما في العالم كله.. تمكن بطريقته من عد الحصى المكونة للأرض.

و بالفعل فإن الشيخ محمد المامي قام بنظم ذلك بالشعر الحساني في القطعة التالية :

" أَلَفَ حْصَيَّ حَبَّتْ بَشْنَّ +++ وَلَفْ احْبَيْبَ كَلْبَ اهْبِيلَ

وَلَفَ امْنَ اهْبِيلَ فَطْرَتْنَ +++ والْفَ الْفَطْرَ خنْطَرْ فِيلَ

والْفَ اخْناطَرْ هُومَ مَدْنَ +++ وَلْفَ أمْنَ الُمَدْنَاتْ اعْكَيْلَ

 و الْفَ اعْكَلْ دُونِ ذَرْعَتْنَ +++ وَ الْفَ امْنَ الذَّرْعَ لَكْبَيْلَ

والْفَ امْنَ الْكَبْلَ يَمَنَّ +++ والْفَ امْنَ الْيُمُونْ ادْخِيلَ

و اخْمَسْ طَعْشَرْ (15) دَخْلَ جُبْنَ +++  فِيهَ حَمْلَ ثَّوْرْ اعْدِيلَ".

و باختياره النظم كطريقة للتعبير ولشرح استنتاجاته ، سار الشيخ محمد المامي  في سياق النسق السائد يومها ؛ لأن التعبير شعرا في هذه الأمصار ظل إلى حد قريب يعتبر وسيلة تعليمية مثلى : جذابة و سهلة الحفظ زيادة على طلاوة جرسها الموسيقي ونوادر الألفاظ التي تحمل أسرار اللغة الشعرية و تعطي قيمة مضافة للدلالات التي تحملها الكلمات.

و من أجل إستغلال أمثل لفواذد الشعر، عكف الشيخ محمد المامي على تقديم عرض ليس سهل المنال يرتكز على توطيف الاستعارة والتشبيه ـ في قطعته الشعرية الآنفة الذكرـ بوصف الكلمات اعدادا تعبر عن مقادير كمية.

لذلك صارت لغته مشحونة بصوركثيرة استلهمها من الجغرافيا و الزراعة، حيث اتخذ من حبة القمح معياره الذي يوظفه كوحدة قياس. كما استخدم مسميات التضاريس الجغرافية والإيحاءات المنبثقة من الأشكال الأرضية للتعبير عن الكتل والمقادير الكبيرة المختلفة.. ولم يكن ينظر إلي الأشكال كاجسام مادية، و لكن بوصفها احجام ومقادير مجردة قاسها تبغا لسلم أسي.

وباستثناء  الشطرين (تافلويتين) الأخيرين، فإنه يقوم بعمليات ضرب على التوالي في الألف (x 1000)  ل"الأشياء/الكتل" المنتقاة حسب سلم تصاعدي حدده باستخام الصور والإستعارات..

و من الواضح أن اللغة العددية التي يستخدمها الشيخ محمد إلمامي للتعبير عن الكم بعيدة كل البعد عن ما هو متداول في الرياضيات اليوم؛ الأمر الذي لا يسهل كثيرا إدراك شروحه.

كما يجب أيضا على القارئ أن يستحضر دائما في ذهنه أن أداة القياس المستخدمة منذ بداية مسلسل الاستدلال هي حبة الزرع التي تساوي 1000 حصية. و بالطبع فإن هذا التذكر المطلوب باستمرار لوحدة قياس غير مالوفة لا يساعد كثيرا هو الأخر كذلك على  تبسيط الامور.

لبقد جربته شخصيا مرات عديدة، وأعترف ـ رغم الشروح التي قدمت إلي مرارا ـ بأن "قراءة" الطريقة بقيت دائما  أمرا عسيرا علي وعلى الكثيرين من الأشخاص العاديين مثلي. لأن قلةََ فقط من الناس يمتلكون الوسائل والمؤهلات الفكرية التي تمكنهم من الولوج الفعلي إلى ذلك البعد العلمي العميق الخاص بالشيخ محمد المامي، ذلك البعد الذي يجعله البعض في إطار "غيبيات" تحول دون ادراكه عقليا.

و بالتأكيد فإن  محمد المختار ولد اباه كان من الاوائل الذين تجاوزوا ذلك العائق الغيبي. ونعتقد أنه أول باحث معاصر نجح  حقيقة في النفاذ إلى أغوار ذلك البعد العلمي وبيانه بصورة عقلانية لا تشوبها خرافات. حيث تمكن من أن يشرح بلغة وأسلوب عصريين يستوعبهما الجميع النهج الرياضي الذي اعتمده الشيخ محمد المامي. بل إنه استطاع أن يبين بالبراهين والادلة الناصعة وجاهة ما اعلنه هذا الأخير من خلال عمليات حسابية اجراها شخصيا للوقوف على عدد حصى الأرض مطبقا المناهج الرياضية الحديثة. وتتفق النتائج التي خلص إليها محمد المختار ولد اباه مع "الكميات" التي ذكرها الشيخ محمد المامي. وهنا التقى الرجلان.

ونِعْمَ اللقاء بين قامتين علميتين يفصلهما ما يزيد على قرن و نصف من الزمن !

البخاري محمد مؤمل

للاطلاع على النسخة الفرنسية من هذا النص، اضغط على هذا الرابط هنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (*): حفيد الشيخ محمد المامي الذي سنذكره مرارا في هذه الورقة

HORIZONS : (**)   - نسخة "الشعب" باللغة الفرنسية – العدد 6622 الأربعاء 21 أكتوبر 2015

(***): يوجد العديد من شهادات نقاد و جامعيين حول الموضوع و منهم الباحث و الكاتب و الدبلوماسي عبد القادر ولد أحمد : "الآداب القانونية و تطور المالكية في موريتانيا" بقلم عبد القادر ولد محمد (مقالات)، الأربعاء 2 مايو 2012، 02:59"

(****): إذا لم تخني الذاكرة فإنه يذكر ضربا للمثل عن العقلانية الفكرية في هذا المجال عملين للشيخ محمد المامي مكتوبين على التوالي شعرا و نثرا:

1.      "على من ساد " :  قصيدة طويلة ذات طابع محاربي جدالي شكل بالفعل برنامجا سياسيا و رؤية استراتيجية و مطالبة بسليم السلطة للزوايا.

2.      "كتاب البادية" : مؤلف في التشريع الإسلامي (فقه) مطبق على المجتمعات البدوية كما يتضح من العنوان. و يعكف  في الكتاب على البحث عن حلول من خلال استصدار قواعد لتسيير المسائل الخاصة بالمجتمع البدوي في الساحل الصحراوي الذي هو الوسط البيئي للشيخ محمد المامي. و يشكل هذا الكتاب في حقيقة الامر الوسيلة الفنية و التشريعية و التنظيمية، المكملة لرؤيته السياسية و الاستراتيجية المذكورة أعلاه.

للقراءة من المصدر اضغط هنا