الأمومة مقاومة أيضا .. / الشاعرة الصحراوية النانة لبات الرشيد

ثلاثاء, 2016-09-06 19:38
الشاعرة الصحراوية النانه لبات الرشيد

بمشقة استطاعت منينة إفلات يدي ولديها ، بينما كانت أيادي مجموعة رجال تجذب الصغار نحو صحن شاحنة عتيقة عملاقة . خليط من بكاء و ضحك يعم المكان ، و نسوة يتحلقن حول الشاحنة الصاهلة بدخان ببطن ربوة شرق المخيم . على الصِبية الذين وصلوا المخيمات لاجئين ، مبعدين دون جريرة عن وطنهم، مزاولة تعليمهم ، و على القيمين بشؤون المخيم تأمين أماكن للتعليم المناسب ، و على الأمهات اللاجئات ، البدويات معظمهن تقبل قرار سلطة "التنظيم " .
بكت منينة بحرقة ، ترجت أحد المشرفين المرافق للأطفال ترك ولديها ، فهي تفضلهما أُمْيين على أن يبتعدا عنها ردحا من الزمن ، منينة التي لم تَر مدرسة في حياتها و لم تجالس متعلمين او مثقفين ، لا تعرف من ضرورات العلم غير حفظ سُوَر قرآنية يحسّن المرء بها صلاته ، لا يمكنها استيعاب بعاد ولديها بمبرر الدراسة .
كان القرار حازما ، بل إجباريا ، فأسلمت الأم الصغيرين ، و ظلت ترقب عيونهما المتوارية بزحام صبياني برئ، تنبلج لها بين الفينة و الأخرى ، و عندما أقلعت الشاحنة " اللعينة " ركضت خلفها نائحة حالها حال أمهات كثر غيرها .
توارت الشاحنة خلف غبار كثيف حجب رؤيتها، و عادت منينة تجرها قدمان أثقلهما الحزن، كانت ساعة الأصيل الأَمَر في عمرها، بلغت موطن توقف الشاحنة و حوله أثار أقدام الصِبْية و أمهاتهن ، اتكأت حيث توقفت ، وضعت يدها تحت رأسها و اتجهت ناحية القِبلة و صاحت : أيها الموت ، أيها الموت ، هرول إلي .
صور الأمومة المغموسة بوجع المنافي و التشريد تتكرر بمخيمنا كل يوم ، تختلف بعض تفاصيلها لكن جوهرها متجذر ، وما بين يد منينة المبسوطة برجاء نحو ولديها المغادرين و يدي الممسكة بولدي السالكين الدرب ذاته مسافة أربعة عقود .
بيني و بين منينة فرق بسيط ، فقد حَمدتْ الله أن لم يستجب لها أي من الذين ترجتهم بقاء ولديها دون تعلم ، فقد عادا و قد اعتادت غيابهما السنوي ، و نعمت بتميزهما الثقافي و العلمي و حصدت بذر الصبر بتخرج أحدهما طبيبا و الآخر معلما، بينما كنت راضية ساعية في تعليمهما و إن ابتعدا ، لكننا نلتقي بجوهر إحساس فؤاد الأم ، فقدت عدت ليلة أمس بقلب مكسور ، بعد أن أودعت طفلي حافلة ضاجة بصخب الأطفال ، تأخذهما و أترابهما الى حيث يمكنهم مواصلة التمدرس بعيدا عن مخيمنا الذي يعجز عن استيفاء شروط أطوار الدراسة الممنهجة .
انتظرت كذلك إقلاع الحافلة ، و انتظار تواريها خلف ظلام المخيم الصامد، لم أكن الأم الوحيدة هناك ، فقد جئن من أطراف المخيم مثلي يحملن مع أولادهن صناديق الأمتعة المتواضعة و يلهجن بالتعاويذ و الأدعية ، و اذ ركنت الى جانب الحافلة حيث استشعرت مقعديهما، كانت جارتي مريم تقف قبالتها، وجها لوجه مع السائق المنتظر إشارة الإنطلاق، كأنما تحاول فرض فترة مكوث إضافية ، فوحيدها مغادر حضنها أيضا .
قررت و إياها الرجوع لمنزلينا سيرًا على الأقدام، رغم بعد المسافة و توفر سيارات عديدة بالمكان، بإمكان مٌلاكها إصطحابنا لوجهتنا، حجة مريم بسيرنا العسير ذاك ، نشق مخيما مظلما؛ ممارسة بعض الرياضة ، و تقبلي الأمر بذات الحجة علانية، لكن ما كتمته كل واحدة منا عن الأخرى هو رغبة كلتانا في البقاء معا لأطول وقت متاح ، حديثه مؤنس و فيه بعض السلوى ، أبطاله فلذات الأكباد ، و عزم على احراز تعب جسدي يفرض نوما مستعصي بأسبابه .
دعواتكم .

من صفحة الشاعر النانة لبات الرشيد على الفيس بوك

.......................................