لم أتشرف بمعرفة الأستاذ عبد الله سيديا أبنو ولا أذكر أنني التقيت به.. ومع ذلك فقد تمتعت كثيراً بقراءة مذكراته التي عنونها بأربعة عقود في خدمة الدولة الموريتانية. من يطالع هذا الكتاب الذي طبع على حساب مؤلفه وقدمه عالم السوسيولوجيا الشهير البروفيسور عبد الودود ولد الشيخ سيوافق –دون تردد- على مقترح البروفيسور ولد الشيخ القاضي بأهمية إدراج هذا الكتاب في مقرر المدرسة الوطنية للإدارة وسبب ذلك يعود -دون شك- لكمية المعلومات ،ولقيمة التحليلات الاجتماعية المعمقة، التي يزخر بها الكتاب.
اتبع المؤلف أكثر طرائق الكتابة صراحة وضراوة.. وهي صراحة تحمل علائم الصدق والوضوح وتلك صفات نادرة في فضاء الببروقراطية المتميز بالتحايل على الحقيقة لأنه بطبعه عالم من المجاملات المعسولة ويستمد طاقته من مقارضة الخصال والتشاكر.. لكن الكاتب هنا لا يولي كبير اعتبار لتلك العادات، وأظنه بفطرته من النوع الذي لا يتحرج عند قول الحقيقة رغم ضغوطات عالمنا الذي تسوده الأكاذيب.
يسرد الكاتب في صفحات جميلة الكثير من تفاصيل طفولته البدوية النقية ، ثم ينقلنا على وقع يتمه المبكر إلى مدرسة بوتلميت التي كانت ومازالت مشتلة الأطر الأولى بموريتانيا ويصف لنا انتقاله إلى المرحلة الإعدادية بخمسينيات القرن المنصرم في القوارب ثم كيف انضم للإضراب ولماذا رفض العودة لكراسي المدرسة بعد أن عاد جل التلاميذ وتقبلوا طرد زميلهم حسني ولد ديدي فواصل الإضراب لوحده.. وخسر الفرصة الوحيدة المتاحة ساعتها لمواصلة دراساته بسبب تضامنه مع زميل الصف سالف الذكر.
ثم ننتقل معه لنواكشوط الهزيلة التي ولدت للتو ولادة قيصرية ، في ظروف مشحونة وقلقة، وكيف وجد نفسه سكرتيرا لحاكم لكصر؟ ثم كيف وبمحض الصدفة أصبح مفتشا للشغل مكلفاً برقابة قوانين العمل على نصف الرقعة الموريتانية.
في هذه الصفحات من الكتاب جعلنا نشاهد كيف تمكن قلة من الشباب الهواة الذين لم يجدوا الوقت الكافي لإكمال تعليمهم الجامعي من تمثل علوم معقدة ورفع تحديات عظيمة في إنشاء الدولة الموريتانية الوليدة عبر خليط عجيب من الحماس والتطوعية والسباق مع الزمن!
بكل صراحة القانوني -في داخلي- يقول لي ان من يستطيع تحويل تلميذ مطرود من التعليم الإعدادي إلى مفتش شغل محترم وقادر على استيعاب قوانين العمل وفرضها سيكون بمقدوره القيام بأي معجزة إنمائية أرادها !
يبتسم الحظ لصاحبنا ويجد نفسه في باريس طالباً بالمعهد العالي للدراسات الإدارية وهو ما كان يعرف سابقا بمعهد إدارة ما وراء البحار الذي زود إفريقيا الفرانكوفونية بجل المهارات البشرية التي اضطلعت بمسؤوليات إدارة الدول الحديثة. وبعد عودته سيعيش صاحبنا تجارب جميلة كمدير لمؤسسات اقتصادية.. وكمدير لدوواوين وزارية عديدة لكن طباع الرجل ستقف له بالمرصاد وستجعله يتضامن مع السفير احمد بابا مسكة الذي أودع السجن بسبب وشاية تافهة ..وسينسحب جل أعضاء لجنة التضامن مع أحمدبابا مسكة من المواجهة مع النظام وسيبقى عبد الله سيديا ابنو واقفاً عند موقفه.. وسيعزل من مهامه.. ثم سيطرد من الوظيفة العمومية وستضيق الدنيا في وجهه وسيغادر إلى داكار ليمارس حياة صعبة ومقترة لطالب بكلية الحقوق بعد أن كان وكيل وزارة !
هنا استوقفني عرضه الدقيق لموقف الأستاذ أحمد ولد داداه المتضامن معه ومحاولته البحث له عن وظيفة لائقة في القطاع الخاص وتحديداً مع شركة بريتش بتروليوم لكن الحكومة الموريتانية ستعبر للشركة عن امتعاضها من محاولة اكتتابه وكيف قال رئيس الشركة له ان على الأخوين مختار واحمد أن يوحدا العزف لأن عدم التناغم بينهما جر له خسائر غير ضرورية !
أجمل ما في هذا الأمر تعارض مفهوم الولاء القبلي عند صاحبنا مع ضميره الإنساني..وتعارض الولاء العائلي عند صديقه مع الضمير الإنساني أيضاً ..فالحكم عابر بطبعه والباقيات الصالحات خير وأبقى.
سينتهي الأستاذ عبد الله سيديا ابنو من معارضة نظام مختار ولد داداه فور انتهاج ذلك النظام سياسة تقدمية مناوئة للنفوذ الفرنسي وسيعود لحضن الرئيس-الأب محتفظا بكل قناعاته ومواقفه ، سيعود للمشاركة في كتابة صفحات جميلة من كتاب تأسيس موريتانيا.
بشكل مكتوم أقرب ما يكون للكفاح السري ستقرر موريتانيا تأميم قطاع التأمين وإعادة التأمين.. وبعد عراك عنيد مع القدر سيتمكن الرجل من إنشاء الشركة الموريتانية للتأمين وسيكتتب لها ومن الشارع مباشرة بعض الشباب وسيسهر معهم على استيعاب علم التأمين وفي شهور قليلة سيتمكنوا من رفع التحدي وبمهارة تستحق التنويه..وستتحقق أرباح هامة وستتوفر بموريتانيا خدمات تأمين بالمستوى العالمي.
استثمارات سمار ستدخل في عجلة الاقتصاد الموريتاني وستحركه بشكل لافت وستنتصب أملاكها العقارية في أماكن عديدة من العاصمة. إنها تجربة ناجحة تثبت نضج وقدرة الإنسان الموريتاني على صنع الحضارة.
سيغادر قيادة قطاع التأمين ، بعيد انقلاب العسكر ، وسيجد نفسه حاكما لمقاطعة مقطع لحجار !
هنا نجده يتقبل الوضع الجديد بروح رياضية.. ونجد أنفسنا معه في غرفة طينية بائسة سيدير منها شؤون مقاطعة منكوبة بالقحط والفقر البنيوي وسنتعرف معه على تفاصيل حياة أهل الريف ومشاغلهم اليومية....وتتسلسل تجربته في الإدارة الترابية في ولايات البراكنة والحوض الشرقي وداخلة نواذيبو وغيرها من المهام المشابهة ولقد استوقفني في تجربته بوزارة الداخلية قصة الجاسوس الغريب الأطوار الذي راح يحرضه على الوزير احمد ولد محمد صالح المعتقل في الإقامة الجبرية خصوصاً حين قال له:"..انتبهوا لهذا الرجل الخطير الذي يتمتع بتمور الغيطنة.. مازال يعيش برفاهية كوزير.. انه رجل خطير ويفكر في قلب نظام الحكم !!"
لقد استوقفني المشهد العبثي خصوصا إذا عرفنا أن الجاسوس الرقيع ينتمي لقبيلة الوزير المعتقل.
نسبية الولاء القبلي تعود لتذكرنا بحقيقة سوسيولوجية ثابتة مفادها أن لا خير في القبلية.. وساذج هو ومغفل من يعول على أبناء العمومة في مواجهة الجور الحكومي !
اقتربت شركة سمار من الإفلاس فعاد إليها عبد الله سيديا ابنو وتمكن من انتشالها في ظرف وجيز من نهاية محدقة ووشيكة ..بعبارة أخرى تمكن من تأجيل سقوطها لسنوات عديدة لكن النظام السياسي فضل لاحقاً التنازل عنها لأسباب عديدة منها الشخصي ومنها انتهاجه لسياسة الخوصصة التي دمرت كل البنى الإنتاجية العمومية وعلى كل حال لقد قدمت تلك التجربة الرائدة خدمات جليلة للأمة الموريتانية ونقلت الاقتصاد الموريتاني إلى وضعية أخرى وذلك أمر لا ينكره إلا مكابر.
بضراوة وحنق يسرد علينا عبد الله سيديا ابنو تجربته القيمة في مؤسسات اقتصادية عديدة منها مؤسسات الصيد ومنها شركة سونيميكس التي كان مقامه بها نهاية مشواره المهني ويقدم الوثائق تلو الوثائق ليظهر بشكل محاسبي وقانوني حجم المظلمة التي تعرض لها وكيف وجد نفسه وحيداً في مواجهة الثيران!
ويخلص إلى نتيجة بليغة حول حقيقة ممارسة الحكم في هذه الربوع قائلا: إذا خير رئيس دولة بين موظف نزيه لا يمثل أحداً وليست له شعبية ولا توجد خلفه عصبيات قبلية وبين أشخاص توجد ورائهم قبائل ومجموعات ضغط سيكون الموظف النزيه هو الضحية!!
هنا لا أملك نفسي من القول ان الانتخابية قد قتلت روح التوثب والتحدي التي سكنت عقول النخب الإفريقية طويلا.. حيث تناسينا أن أصوات الغوغاء لا تقدم ولا تؤخر.. وان الحضارة بطبعها نتاج العقول النظيفة والهادئة ولا تخرج أبداً من لغط الدهماء والعامة.
محزن هو مآل تلك الأدمغة حين تشاهد ثمرة السنين الطوال تتعرض للسلب والإهدار.. وكل من وضع ذلك قيد الاهتمام سيتفهم لا محالة ضراوة أسلوب هذا الكتاب الخارج من حاضنة مفجعة وكارثية.. وهي وبكل صراحة نتيجة طبيعية لسيطرة الفكر "الدكاكيني" على مقاليد الحكم في بلد فقير ويحتاج لكل أبناءه ولكل رصيد التحدي والإيثار المتراكم عندهم.
نعم نسينا الإيثار الذي لولاه ما وجد هذا الكيان أصلا.. ولما صمد في وجه ظروفه الإقليمية والبيئية القاسية.
أنصكم بقراءة ذلك الكتاب المبكي ...لمعرفة حجم المأساة الموريتانية.
من صفحة المحامي محمد ولد أمين على الفيس بوك