الشباب (1)
يأتي المرسوم الوزاري القاضي بتنظيم أسلاك الشباب والرياضة؛ تجسيدا للتوجهات الأساسية للرئيس محمد ولد عبد العزيز حول الشباب وقضاياه, وهو ما أعرب عنه مرارا بضرورة تجديد الطبقة السياسية.. ليس بالتوجيه النظري فحسب، بل بالدمج في المسيرة التنموية عن طريق التموقع في دوائر اتخاذ القرار، وكذلك في الإدارة والتسيير.
كانت أول حكومة شكلها مثالا لذلك: وجوه شابة على واجهة الوزارات: محمد ولد محمدو، بمب ولد درمان، محمد الأمين ول الداده، إسماعيل ولد الشيخ سيديا، ومحمد الأمين ولد آبي وغيرهم... والمدير ولد بونه على التلفزة، وولد أداعة على اسنيم والقائمة تطول.
ثم جاء لقاء الشباب لتتبلور وجهة النظر السياسية من خلال آراء الشباب أنفسهم, هذا الحوار الفريد والرائد من نوعه أعطى الشباب دفعا، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على المستوى المعنوي، وهو ما مكنهم من العمل بصدق وجدية حتى أسسوا مجلسهم الأعلى.
إن دمج الخريجين من حملة الشهادات المقاولين، وحملة الشهادات المعاقين، وحملة الشهادات المنتجين، وحملة الشهادات العاطلين وغيرهم من الجمعيات والمنظمات والروابط بالتوظيف في الجهاز الرسمي، والدعم والتمويل، والتكوين تحت إشراف الوكالة الوطنية لترقية الشباب، والصندوق الوطني للإيداع والتنمية؛ هو النتيجة الفعلية لتوجهات الرئيس ونظرته لهموم الشباب وتطلعاته، وهو كذلك تفعيلٌ لنظرية (الاقتصاد الأخلاقي) و(الحركة الاجتماعية الداعمة).. إنه إيمان بحيوية الشباب، وتأكيد لكونه الركيزة الأساسية للبناء وقوة وأمل المستقبل..
هكذا يرى الرئيس الشباب.. وهكذا يلبي طموحاتهم؛ عن طريق المشاركة في الفعل السياسي، والفعل الاقتصادي، والفعل الاجتماعي، والفعل الثقافي.
وللاستفادة من الطاقة الذهنية لهؤلاء جاء تعيينهم، حيث يجدون مجالا لتوظيف أفكارهم الخلاقة، وإبداعاتهم الذهنية والعملية، وتنمية مهاراتهم المحبوسة؛ بتنزيلها على واقع الحياة، في وزارات مثل: الطاقة والمعادن, الإسكان والاستصلاح الترابي, المياه والصرف الصحي, العلاقات المغاربية والإفريقة والجاليات... وكذلك في إدارات حيوية مثل الوكالة الموريتانية للأنباء, الإذاعة الوطنية, قناة المحظرة, التلفزة الوطنية.
ولربط الحاضر بالماضي - وبما أن السياسةَ تراكمٌ - نلقي نظرة سريعة على الاهتمام العالمي والمحلي بالشباب: في 8-12 1998 في لشبونه أوصى المؤتمر العالمي لوزراء الشباب بتخصيص يوم سنوي للشباب؛ يحتفلون فيه ويناقشون قضاياهم. وتبنت الأمم المتحدة التوصية يوم 17/12/1999، وصدر القرار رقم 54/120 القاضي باعتبار 12 أغسطس من كل سنة يوما عالميا للشباب.
ومن العجيب والغريب أن أول من دعا لفكرة هذا اليوم هو الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، لكن الاهتمام بالشباب وقضاياه ظهر قبل ذلك بكثير، فقد فرضته في منتصف القرن التاسع عشر ظاهرة التشرد في المدن الصناعية الغربية.
وكان الاهتمام بداية من الجهات والهيئات الدينية على شكل أندية سنة 1844 للأطفال المحرومين ليأخذ، في سنة 1855 وما بعدها، شكل جمعيات ومعاهد.
في سنة 1916 كونت الحكومة البريطانية لجنة المنظمات الصغيرة، وفى سنة 1944 صدر قانون إلزام السلطات المحلية بتهيئة الخدمات للشباب.
وقبل هذا بثماني سنوات أنشأت الحكومة الأسترالية 1937 المجلس القومي للياقة، وهو مجلس يغطى جميع أشكال التنشئة والدعم والتحفيز للشباب، لتنتشر بعد ذلك في أوروبا جمعيات ومنظمات للشباب، تابعة للدولة أو مستقلة، مثل: "إيطاليا الفتاة" ومثيلاتها في ألمانيا وبولندا وغيرها..
لكن الحدث الأكبر الذي غيّر من صورة الشباب ودوره والعناية به؛ هو حركة الشباب الفرنسي 1968، والتي كانت لها ارتداداتها القوية والمؤثرة في أوروبا والغرب بصفة خاصة والعالم بصفة عامة, حيث لم تبق عاصمة في العالم إلا وتحركت...
وكانت استجابة الحكومات الغربية لتطلعات شبابها فورية، ومنسجمة مع واقع ما بعد الأحداث، عكس بقية العالم، وهو ما يميز ركائز التنمية في دول الغرب عن الآخر، التابع نظريا والمتخلف تطبيقيا.
يقول عالم الاجتماع الانكليزي توماس بوتيمور في كتابه "علم الاجتماع والنقد الاجتماعي" (1): فرضت علينا أحداث 68 أن نراجع بشكل أساسي نظريات ونماذج وطرق بحث علم الاجتماع السياسي, لقد كانت صدمة هائلة للغاية؛ بحيث دفعت العلوم الاجتماعية نحو حالة من الفوضى العقلية ما زالت باقية. لقد نسفت نظرية نهاية الإيديولوجيا واكتمال التجربة الديمقراطية ومتانة دولة الرفاه. إن أحداث 68 فرضت تشكيلا جديدا لعلاقات القوة لم تفرضه المؤسسات التقليدية القائمة، بل هو تجربة جديدة تجري من خلف النظام الاجتماعي القائم... لقد كانت الحركات الشبابية هي المعجزة التي غيرت وجه الفكر والسوسيولوجيا السياسية في المجتمع الأوربي.
تأثرت موريتانيا - كغيرها - بهذه الأحداث فانتهزت حكومة المختار ولد داداه ما يعرف سياسيا بـ(الفرصة السياسية)، وأطلقت بداية السبعينيات مبادرتها: "السياسة الجديدة للشباب"، وتمثلت في حوارات شاملة وعميقة معهم، حول رؤاهم الثقافية والسياسية والاقتصادية والتنموية.
وهي مبادرة جريئة من الحكومة وقتها - ونشازا في محيطها الجهوي والقاري - كانت نتيجتها تأسيس المجلس الأعلى للشباب.
لكن أول انقلاب عسكري على الحكومة المدنية؛ ألغى هذا المجلس، كما ألغى المجلس الأعلى للنساء؛ ضمن إلغائه لجميع ما يمت للسياسة التشاركية بصلة، وبالتالي إلغاء الدولة كمؤسسات وفكرة...
وإذا كان لنا أن نتأثر بنظرية الأجيال القائلة: إن كل جيل ينجح في نقل خبراته ومهاراته إلى جيل آخر؛ فإن الدولة المدنية الثانية بقيادة محمد ولد عبد العزيز - أو ما يمكن أن نسميه "إعادة التأسيس" - تعيد للشباب دوره، وتفتح له الأفق الواسع ليقود وينتج ويشارك، خصوصا مع وجود مشاريع تنموية واعدة قيد التشييد، تتماشى وتطلعاته، تحتاج لشباب يحدوه الأمل، ويثق في نفسه ليفجر فيها طاقاته الإبداعية.
لكننا وإن كنا لا نرفض نظرية الأجيال نؤكد أن "المتأخر أتم نظرا".. إنها المسيرة إلى الأمام إن شاء الله.
هوامش:
(1) الترجمة العربية 1981.
*متخصص في إدارة الأعمال والمعلوماتية، مهتم بقضايا الشباب.