صناديق الثروة السيادية العـربية
أمام إشكال الزكاة وتحدي الشفافية
يتميز عصرنا بطفرات وكبوات مفاجئة تطال الحالة الصحية والإقتصادية لأي كان فقد تنتعش الظروف ولكنها كثيرا ما انتكست دون سابق إنذار.. والنفط، ذخر العرب المعاصر، خير مثال على ذلك فقد رأينا أسعاره ترتفع أضعافا مضاعفة قبل أن تهبط إلى درجة توقع البعض أن يصبح أرخص من الماء.. وما جاز على البترول والموارد الطبيعية الأخرى ينطبق على سائر القيم من عملات وسندات وأسهم نشاهد قيمها تتذبذب لدرجة أننا، بينما نحتسي كأس شاي أو قهوة وقبل أن نرتشف ثمالته، يرتفع بعض العملات بينما تترنح السندات ويهبط بعض الأسهم ولا تنفك لوحات المؤشرات تخضر وتحمر على الشاشات التي تخطف أبصارنا في كل مكان.
لقد جرب العرب الشدة والرخاء من قبل مع انحباس الغيث وهطوله ولكن النفط سبب نقلة نوعية ورخاء مزمنا في حياة أغلب بلدان الجزيرة العربية وخاصة المنضوية منها الآن في إطار مجلس التعاون الخليجي وعندما تكاثرت عائدات الذهب الأسود ارتأت بعض الدول استثمار فائضها منها بإنشاء "صناديق الثروة السيادية" وهي هيئات تسير أصولا ضخمة في شكل عملات وعقارات وأسهم وسندات يتتبع بها العرب، المجبولون على الإنتجاع، وغيرهم منابت الأمان والربح على ظهر البسيطة.. وبالنظر للأهمية الإستراتيجية لصناديق الثروة السيادية العربية لما يمكن أن تدره من نفع عام وفي ضوء ما يتربص بها من مخاطر ويواجهها من تحديات ارتأيت في هذه المعالجة التمهيدية تناول ماهيتها (1) والتعقيب على ما يثار من إشكال متعلق بزكاة أصولها (2) قبل التعريج على لغط الغربيين حول تحديها للشفافية وتمردها على قواعد الحوكمة (3) وأخلص لوصفة تربط بين حل إشكال الزكاة ورفع تحدي الشفافية (4).
1. ماهية صناديق الثروة السيادية العربية:
صناديق الثروة السيادية Sovereign Wealth Fund هيئات تدير أموالا عمومية معتبرة تباشر استثمارها باتباع خطة طويلة المدى وقد نشأت من ثمن المواد البترولية الذي يروق للبعض تسميته ب"البترو – دولار" فارتأت الدول التي تملك فائضا منه استثماره لتوطيد مركزها المالي وضمان مستقبل أجيالها وتحصين بلدانها من لعنة المواد الأولية المعرفة ب"المتلازمة الهولندية" Syndrome Hollandais ولدعم استقرار أسعار المواد الأولية وكانت الكويت سباقة إلى إنشاء صندوق الثروة السيادي الأول في العالم إذ أحدثت سنة 1953 الهيئة العامة للإستثمار بالكويت KIA (Kuwait Investment Authority) التي تأتي حاليا في المرتبة الخامسة دوليا، في ترتيب الصناديق السيادية، من حيث حجم الثروة لأنها تستثمر أصولا تبلغ قيمتها 592 مليار دولار آمريكي (بحسب معطيات معهد صناديق الثروة السيادية SWFI (Sovereign Wealth Fund Institute) في نشرته لشهر يونيو 2015 - التي تعتبر المرجع الحصري للمعطيات الرقمية المذكورة في هذه الفقرة) أما المرتبة الثانية عالميا، من حيث قيمة الأصول، فيحتلها جهاز أبو ظبي للإستثمار ADIA (Abu Dhabi Investment Authority) الذي أنشئ سنة 1976 ويدير أصولا تبلغ قيمتها 773 مليار دولار آمريكي وفي الرتبة الرابعة عالميا الأصول الأجنبية لمؤسسة النقد العربي السعودي SAMA Foreign Holdings التي تبلغ 685,6 مليار دولار آمريكي وفي الرتبة التاسعة دوليا جهاز قطر للإستثمار QIA (Qatar Investment Authority) الذي، أنشئ سنة 2005، ويدير أصولا بقيمة 256 مليار دولار آمريكي. هذه الصناديق الأربعة التي اقتطعت مواردها من عائدات البترول والغاز تصنف اليوم في قائمة صناديق الثروة السيادية العشرة الأغنى دوليا وبالنظر لمكانتها في الإقتصاد الدولي وأهميتها الإستراتيجية للعرب فإننا نقتصر على عمومياتها قبل أن يتأتى توسيع البحث في واقعها ويتيسر تناول الصناديق العربية الأصغـر حجما.
وبعملية جمع بسيطة للأرقام يتبين أن صناديق الثروة السيادية العربية الأربعة الأكبر، المذكورة في الفقرة أعلاه، كانت في منتصف سنة 2015 المنصرمة، تدير أصولا بقيمة اتريليونين وثلاثمائة وستة فاصل ستة مليار دولار آمريكي (2.306,6 مليار دولار آمريكي) وإذا ما اعتبرنا أن هذه الأصول ربما تتضاعف قريبا على ضوء ما صرح به ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في ابريل 2016، من نية السعودية رفع حجم صندوقها ليصل إلى اتريليوني دولار آمريكي (ألفي مليار دولار)، يمكن أن نخلص إلى أن قدم العرب توشك أن تترسخ في الإستحواذ على الحصة الكبرى من الصناديق السيادية في العالم ولذلك يتعين الإجتهاد لتجنب الإنزلاق كي لا تغوص الأموال في وحل يعسر انتشالها منه.
وبتتبع نشاط صناديق الثروة السيادية المذكورة نجد أن استثماراتها تتركز أساسا في أسواق الولايات المتحدة الآمريكية وبريطانيا ودول الإتحاد الأوروبي حيث لعبت دورا هاما في إسعاف الشركات متعددة الجنسيات إبان الأزمة المالية العالمية وأنها تكبدت جراء أزمة العقارات التي شهدتها الولايات المتحدة الآمريكية خسارة قدرها الخبراء بمئات مليارات الدولارات.. مما يوجب الإجتهاد للحد من الخسارة المتوقعة بفعل الأزمة الناشئة في المملكة المتحدة إثر انسحابها الحديث من الإتحاد الأوروبي.. يتعين على من يهمهم الأمر أن يضعوا في الحسبان أن أصول صناديق الثروة السيادية ليست في حرم آمن حيثما كانت وأن ضمان ربحها غير محقق الإضطراد كما أنها لا تشكل ادخارا ناجعا لصعوبة تسييل أصولها فتجميد 90 % من الإستثمارات في شكل ممتلكات عقارية وأسهم غالبا ما يجعل الصناديق السيادية بحاجة للسيولة النقدية لمواجهة الظروف الطارئة لها وللدول المالكة التي تقلصت مداخيلها بفعل انخفاض أسعار موادها الأولية مما فرض الإستدانة من جهات تمويل خارجية وأنها تواجه مخاطر جدية يتعين تعميق البحث لتلافيها.
ولأن تذبذب القيم أصبح واقعا يسترعي اهتمام الكثيرين وربما أثر على الصحة النفسية للبعض لدرجة الإنتحار واعتبارا لكون الظروف الإقتصادية العامة فيما يبدو لا تعدو أن تكون مسلسلا من الأزمات المتتالية التي تتخللها فترات رخاء محدودة تتباعد أكثر فأكثر وبالنظر لما تتضمنه معادلات حياتنا من مجاهيل لذلك كله يتوجب أن نفكر مليا وأن نغتنم الفرص قبل فواتها مما يتطلب دراسة الموقف من حولنا بما يكفي لأن نمسك بما تيسر من زمام أمورنا ولن نمسك بالزمام كله. ولعل من المتعين على المتصرفين في الصناديق السيادية انتهاز فرصة المراجعة الإستراتيجية الملحة لإدراج ضريبة الرحمن "الزكاة" في خانة المصاريف ابتغاء لوجه الله ومساهمة في تخفيف معاناة الكثيرين.
2. إشكال زكاة أموال صناديق الثروة السيادية العربية:
الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة الواجبة على كل مسلم بنص الكتاب والسنة وقد وردت مقرونة بالصلاة في ثمانية وعشرين موضعا من كتاب الله ومما ورد فيها قوله تعالى: {وأقيموا الصَّلاةَ وآتوا الزَّكاة وارْكَعوا مع الراكعِين} - الآية 43 من سورة البقرة، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} - الآية 103 من سورة التوبة. وفي الحديث الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" (الحديث رقم 1313 في صحيح البخاري). وحكم الشريعة الإسلامية أن من أنكر وجوب الزكاة عد خارجا عن الإسلام ومن أقر بوجوبها وامتنع عن أدائها من المسلمين قوتل حتى تستخلص منه.
وقد أفتى بعض الفقهاء المتأخرين بعدم وجوب زكاة المال العام واستند على دليلين حصريين: أولهما أن المال العام ليس له مالك معين ولا قدرة لأفراد الناس على التصرف فيه ولا حيازة لهم عليه وثانيهما أن مصرفه منفعة عـموم المسلمين التي تقوم عليها الدولة.
وبعد دراسة هذا الموضوع والتأمل فيه خلصت إلى تعين مراجعة الفتوى بعدم وجوب زكاة الأموال العامة لأنها، علاوة على تحملها مسؤولية حرمان المحتاجين من أموال إسلامية وافرة، لا تساير الواقع ذلك أن فقه الزكاة أصبح يتطلب اليوم بالإضافة للدراية بالحكم الشرعي الإحاطة بالواقع الإقتصادي وأدواته وقيمه التي تغيرت طبيعتها جذريا مما يحتم تحيين مفهوم المال في منظور الفقهاء الذين لا غنى لهم اليوم عن إدراك ماهية الدولة وطبيعة الفاعلين الجدد من شركات وصناديق وغيرها من الكيانات التي يعدها القانون أشخاصا اعتبارية وتكتسي أهمية خاصة لذمتها وما يمكن أن تتملكه من ثروة يحتاجها الفقراء والغارمون وأبناء السبيل.. الثروة التي نعتقد كمسلمين بأنها من مال الله الذي كلف أغنياء المسلمين بتوصيل نسبة يسيرة منه لا تعدو 2,5 % مقابل أجرة توصيل قدرها 97,5 % على حد تعبير د. عبد الفتاح محمد صلاح.
ففيما يتعلق بالرد على الدليل الأول القائل بأن المال العام مال بغير مالك معين.. نقول: إن الدولة شخص اعتباري له ثروة تعد ملكا للشعب يحوزها ويتصرف فيها من يمثلونه وليس من الوجيه السكوت عن صرف أموال الأمة في مختلف وجوه الإنفاق والتحجج بانعدام صفة الأمر بالصرف عندما يتعلق الأمر بالزكاة لما في ذلك من تجسيد لشح الأنفس ومخالفة لأوامر الله سبحانه وتعالى.. وما دام وصي اليتامى مأمورا، شرعا، بزكاة أموالهم فكيف لا يكون ولي الأمر - المتصرف في أمواله وأموال أغنياء المسلمين – مسؤولا عن زكاتها! مع أن من نتائج اعتماد هذا الدليل عدم إمكانية مساءلة من يغيب على هذه الأموال بحجة أنه لا مالك لها وهو ما يعرضها لخطر أكبر.
أما فيما يتعلق بالرد على الدليل الثاني القائل بأن مصرف المال العام منفعة عموم المسلمين التي تقوم عليها الدولة، فنقول: إنه يبدو ضعيفا لسببين أولهما، من عندي، وهو أنه لا يوجد اليوم بيت مال موحد يقوم على منفعة عموم المسلمين لزوال الدولة الإسلامية الجامعة فعدد الدول الإسلامية يفوق الخمسين دولة يتفرق بينها أغلب المسلمين دون أن تتكفل أي منها بكافة متطلبات مواطنيها بينما تعتبر كل دولة غير مواطنيها أجانب لا تسمح بدخولهم لإقليمها إلا بشروط لا تمييز فيها غالبا بين أهل الملة وغيرهم وثانيهما، من آراء الإمام الشيباني رحمه الله، وهو أن الدولة ومصالح المنفعة العامة ليستا مصرفين للزكاة التي حصر الخالق مصارفها في الثمانية المذكورة في الآية 60 من سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.. ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عن زِيَادَ بْنَ الْحَارِثِ الصُّدَائِيَّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلا قَالَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ" رواه أبو داوود. ولتسهيل ضبط مصارف الزكاة الثمانية، ضمنت الحرف الأول من كل مصرف في عبارة "غراس مفعـم": غارمون، رقاب، ابن السبيل، سبيل الله، مساكين، فقراء، عاملون وَمُؤَلَّفَون.
وخلافا للقول بعدم وجوب زكاة المال العام ذهب الإمام محمد بن الحسن الشيباني - المتوفى سنة 189 للهجرة، تلميذ الإمامين أبي حنيفة ومالك وشيخ الإمام الشافعي - إلى وجوب الزكاة في الأموال العامة التي تسهم بها الدولة في مشاريع ذات ريع حيث قال: "فإن اشترى بمال الخراج غنما سائمة للتجارة وحال عليها الحول، فعليه فيه الزكاة.. واستدل بثلاثة أدلة، أولها: أن مصرف الخراج الذي تجب فيه الزكاة غير مصرف الزكاة، فمصرف الخراج عمارة الدين وصلاح المسلمين، وهو رزق الولاة والقضاة وأهل الفتاوى من العلماء والمقاتلة ورصف الطرق وعمارة المساجد والرباطات والقناطر والجسور وسد الثغور وإصلاح الأنهار التي لا ملك لأحد فيها وأما مصرف الزكاة فهو الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل وفي سبيل الله وغير ذلك. وثانيها: أن سبب وجوب الزكاة المال النامي، فإذا اتخذ المال للنماء والإستثمار تعلقت الزكاة به، ولا تأثير لكونه عاما أو خاصا. وثالثها: الإستئناس بالحديث الذي يوجب الزكاة في أموال الأيتام سواء استثمرت أو لم تستثمر بدليل قوله: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة" فالحديث يطلب من الأوصياء إخراج الزكاة من أموال الأيتام، فيجب على الإمام أن يخرج الزكاة من أموال بيت المال." انتهى الإستشهاد (راجع الدكتور محمد ربيع صباهي، زكاة الأموال العامة المستثمرة في القطاع العام، مجلة جامعة دمشق للعلوم الإقتصادية والقانونية، المجلد 25، العدد الثاني- 2009، متاح على الشبكة).
وفيما يتعلق بالمقدار المستحق يرى البعض أن الدول النفطيية المسلمة مدينة لمحتاجي المسلمين بخمس مداخيلها (20 %) باعتبار البترول والغاز ركازا.. وبغض النظر عن ذلك الرأي يمكن، على كل حال، قياس أموال صناديق الثروة السيادية والبنوك الإسلامية على عروض التجارة التي يجب على مالكها أن يخرج منها زكاة بقدر ربع العشر (2,5 %) يتم إخراجه بعد الجرد السنوي للممتلكات طبقا للتقويم الهجري ويدفع للفقراء والمساكين والعاملين والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وأبناء السبيل. وبالرجوع إلى أموال الصناديق الأربعة، المذكورة في المبحث الأول من هذه المعالجة، نجد أن زكاتها السنوية تقدر بمبلغ 57,665 مليار دولار آمريكي (2306,6 مليار دولار مضروبة في 2,5 %) وهو مبلغ يضاهي ثروة أكبر أغنياء العالم وبالتالي فإنه كفيل، إذا ما أحسن صرفه، بتخفيف معاناة الكثيرين دون أن يضر دافعيه الذين تكبدوا أضعافه في إسعاف شركات الأغنياء خاصة وأن أصحاب الصناديق يشاهدون مثل هذه النسبة اليسيرة يتبخر يوميا عندما تهبط البورصات ويرفع إليهم المسيرون تقارير بصرف أضعافها رسوما وضرائب لمصالح الجباية في الدول التي يستثمرون بها.
وربما يكون سبب رأي الإمام الشيباني، قاضي قضاة الرشيد - الذي يعده الباحثون من أصحاب البصمات الأولى في القانون الدولي - في قصر الوجوب على أموال الدولة المخصصة للإستثمار راجعا إلى تأثير الزمان فلقد عاصر الإمام الدولة الإسلامية الجامعة التي تقوم على شؤون جميع المسلمين ولم يعرف مفهوم الدول الوطنية التي يكون الولاء لها بالمواطنة لا بالدين.. ومن الوارد، في نظري، بعد أن تعددت الدول الإسلامية واكتنز بعضها أموالا طائلة، التطلع إلى أن تقر ميزانيات الدول الإسلامية الغنية - التي يبلغ مالها نصابا يمكن الإجتهاد في تحديده باعتبار متوسط دخل الفرد بحساب كافة أموال الدولة – مقدار زكاة أموالها وأن تقسمه أو تدفعه للدول الإسلامية الفقيرة الغارمة لتساعد في صرفه على مستحقيه وأن تسخر جزءا منه لإسعاف عاجل لأبناء السبل من المسلمين المتهافتين في الشمال ولباقي المحتاجين كي لا يكون المال دولة بين الأغنياء وكي يكون ثمة مستوى من التكافل بين المسلمين الذين تتعين عليهم مساعدة غيرهم لأن الشريعة تأمر حتى بصلة غير المسلمين ما دامت تقرر نصيبا من الزكاة لتأليف القلوب ولا شك في أن مواجهة تحدي الشفافية والأخذ بقواعد الحوكمة يعد من أسباب مسايرة العصر المعينة على تحقيق الأهداف.
3. شفافية صناديق الثروة السيادية العربية ومدى تقيدها بقواعد الحوكمة:
تثير صناديق الثروة السيادية ريبة لدى الغربيين بسبب تكتمها ويحتدم الجدل حول طبيعتها القانونية وفيما إذا كانت - هيئات عمومية يجب عليها التقيد بمبادئ الشفافية تحسبا للمساءلة من طرف شعب البلد المالك الدائن لها بالإسهام في تنميته ونخبة البلد المضيف الحريص على سيادته والفزع من العمليات الإرهابية التي أصبحت ترتبط في ذهن الكثير منهم بالعرب والمسلمين - أو ما إذا كانت هيئات مالية خصوصية خاضعة للنظام الخاص مع ما يستوجبه ذلك من احترام قواعد الحوكمة المعتمدة في أسواق المال ويلاحظ غياب شبه تام للرأي العربي الرسمي وغير الرسمي بهذا الشأن.. ولضمان شفافية صناديق الثروة السيادية بادر صندوق النقد الدولي بالتعاون مع صناديق الثروة السيادية بتشكيل فريق عمل أسفرت لقاءاته، في شهر أكتوبر سنة 2008، عن إقرار "المبادئ العامة والممارسات المقبولة عموما" المعروفة بقواعد سانتياغـو (في اتشيلي) والشائعة بتسميتها الإنجليزية المختصرة GAPP (Generally Accepted Principles and Practices).
وبالرجوع لمؤشر الإذعان لقواعد سانتياغـو SCI (Santiago Compliance Index) - الذي يصدر عن شركة تدبير المخاطر السياسية Geoeconomica - في نشرته، لشهر أكتوبر 2014، نجد أن المؤشر أغفل تصنيف الأصول الأجنبية لمؤسسة النقد العربي السعودي (ربما لعـدم تميزها عن المصرف المركزي) ولم يصنف أي صندوق عربي ضمن الخانة الممتثلة كليا A (Fully Compliant) ولا في الخانة الثانية المتسعة الصدر للإمتثال B (Broadly Compliant) وإنما صنف جهاز أبو ظبي للإستثمار ADIA والهيئة الكويتية العامة للإستثمار KIA في الفئة الثالثة الممتثلة جزئيا C (Partially Compliant) وأضاف لهما، في ذات الخانة، المؤسسة الليبية للإستثمار LIA (Libya Investment Authority) بينما حشر جهاز قطر للإستثمار QIA وحيدا في الفئة الرابعة والأخيرة غير الممتثلة D (Non-compliant).
وقد علل السيد Afshin Mehrpouya الباحث في المدرسة التجارية العليا HEC بباريس، والمهتم بمسؤولية المستثمرين، عدم إلزاميتها بنفور مسؤولي صناديق الثروة السيادية من الإفصاح وخشيتهم من الشفافية لأسباب متعددة (مقال: “وضع نظام مسؤولية عابر للحدود: حالة صناديق الثروة السيادية ومبادئ GAPP"، بالإنجليزية:
Instituting a transnational accountability regime: The case of Sovereign Wealth Fund and GAPP. المنشور في شهر يوليو 2015).
ونتيجة لشح المعلومات حول صناديق الثروة السيادية يندفع الباحثون الغربيون إلى التنقيب في منشورات موقع WikiLeaks وما تضمنته المراسلات الرسمية الآمريكية المنشورة على الموقع المثير للجدل من معلومات بخصوصها وإلى الإتصال بالمسؤولين في مختلف الهيئات لاستخلاص المعلومات التي يعسر حجبها في عصرنا المضاف إليها.
لقد نشطت الصناديق السيادية إبان الأزمة المالية العالمية وأسهمت "دلافين الأموال العربية" في إيصال بعض الشركات متعددة الجنسيات إلى بر الأمان مما دفع الدول الغربية للتودد لأصحاب الصناديق السيادية لا حبا في سواد عيونهم وإنما رغبة في أموالهم كما صرح وزير المالية النرويجي آنذاك (الذي تملك بلاده صندوق الثروة السيادي الأغنى عالميا Government Pension Fund - Global) وعلى الرغم من انجذاب الدول الغربية للأموال العربية إلا أنها لم تستطع إخفاء التخوف من العرب الذي تجلى، قبل الأزمة، من خلال الضغط الذي تعرضت له شركة موانئ دبي العالمية، سنة 2006، ودفعها للتراجع عن صفقة شراء شركة P&O البريطانية التي كانت تدير عشرات الموانئ حول العالم من ضمنها ستة موانئ كبرى في الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة الآمريكية، بعد أن أثارت الصفـقـة ضجة كبرى وكادت النخبتان الجمهورية والديمقراطية تجمعان على التمييز السلبي ضد العرب والمسلمين عندما أعلنتا الكفر بمبدأ شخصية الجرم كما عكسته الخلاصة بأن "تولى ادارة عربية مسلمة لشئون الموانئ يعرض الموانئ لكوارث تفجيرية أو ارهابية من أى نوع" دون اعتبار لكون الإدارة غير معنية بالجوانب الأمنية.. وخلال الأزمة المالية العالمية انهمكت المؤسسات النقدية الدولية والمصالح المالية للدول في التشاور الكيس لوضع ضوابط لعمل صناديق الثروة السيادية كما بينا ولكن ما إن بدأت حدة الأزمة تخف حتى "عادت حليمة لعادتها القديمة" وعاد الإعلام الغربي إلى التشكيك وظهرت العراقيل مجددا وتجسدت فيما تنشره الصحافة الفرنسية من استياء، يعبر عنه تارة بنبرة نابية، من شراء القطريين لفريق Paris-Saint-Germain لكرة القدم ولبعض الممتلكات العقارية في باريس وضواحيها.. وكانت الرؤية أوضح من خلال الأزمة السعودية الآمريكية التي نشأت عن تطبيع الأخيرة لعلاقاتها مع إيران، الأزمة التي أججها تمرير اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ لمشروع قانون يجرد الحكومات الأجنبية من الحصانة في القضايا «الناجمة عن هجوم إرهابي يقتل فيه أمريكيون على أراض أمريكية» ووصلت ردة فعل السعودية حد تلويح وزير خارجيتها عادل الجبير، في نهاية الفصل الأول من السنة الجارية (2016)، بإمكانية بيع بلاده لأصول موجودة في الولايات المتحدة تصل قيمتها إلى 750 مليار دولار آمريكي، فيما إذا أقر الكونغرس مشروع القانون المتعلق بأحداث شتنبر 2001.. ولم تسلم الكويت من الحملة الغربية فلطالما كان قانونها، الذي يذكرون بأنه، يحظر إفشاء معلومات الصناديق السيادية موضوعا للتهكم الغربي.
وأمام الضغوط والعراقيل، التي لا تطفو كلها على السطح، يتعين على العرب والمسلمين من ملاك صناديق الثروة السيادية التفكير في التقيد بالزكاة طبقا لماتقدم وفي مراجعة استراتيجياتهم الإستثمارية لإدراج الشفافية التي تعتبر ضمانة ناجعة لحماية الممتلكات فالتكتم والتصامم عن النقد عقيم وقد قالت العرب قديما "أبت الدراهم إلا أن تمد أعناقها" فكيف ندفن رأسها في عصر المعلومات الذي يتيح للشخص أن يقلب بين كفيه نافذة إلكترونية يطالع من خلالها الكثير مما يحسبه البعض أسرارا مكنونة. ولذلك كله فمن الملح التفكير في تبني خطة كفيلة بحل إشكال الزكاة ورفع تحدي الشفافية.
4. حل إشكال الزكاة ورفع تحدي الشفافية:
من المألوف أن يتضمن المبحث الختامي وصفة تعين على التغلب على الإشكالات المثارة قبله فبغض النظر عن الجدل الفقهي المذكور في المبحث الثاني من هذه المعالجة وإن افترضنا جدلا أن زكاة المال العام تحتمل الوجوب وعدمه، فمن المناسب الوقوف عند ناتج كلا الإحتمالين: فإذا كانت زكاته واجبة فيكون منعها معصية لأوامر الله تعالى وربما خروجا عن الملة لعدم التقيد بالركن اللازم، أما إن لم تكن واجبة فإن بذل المال في المعروف يدخل في نطاق أعمال البر المحمودة التي تحتسب لصاحبها ويثاب عليها وفي هذا المفترق يكون من مسؤولية المسلم أن يختار سلوك أحد السبيلين قبل أن يتخطفه الموت أو تصبح جنته كالصريم.
ونذكر بهذا الخصوص أنه عندما ظهرت النقود الورقية القانونية وشاع التعامل بها ذهب بعض الفقهاء، عندنا في موريتانيا، إلى عدم وجوب زكاتها مستندا لكونها لا تصنف ضمن النقدين (الذهب والفضة) ولا تدخل في أصول الزكاة المحددة أصلا بينما ذهب الرأي الغالب إلى وجوب زكاتها مطلقا لأن من يملكها يمكن أن يشتري بها الذهب والفضة وسائر الأصناف التي تجب فيها الزكاة ولأن القول بعدم وجوب زكاة وسائل الأداء العصرية يحرم الفقراء.. وقد حدثني أحد الثقات (م. ع. م. م) أن علما من أغنياء موريتانيا (ب. ب. ل) لما سمع بخلاف الفريقين ومذهبيهما آنذاك علق قائلا: أفضل أن أدفع زكاتها لأن جواب سؤال الملكين عن سبب دفعها أسهل علي من الجواب عن الإستفسار حول سبب منعها.
لقد غير الزمان طبيعة الممتلكات جذريا خاصة بعد أن أصبح اقتصاد المعرفة يحتل الصدارة في عالم اليوم الذي لم يعد كبار أغنيائه يعرفون بما يكنزون من الدنانير الذهبية ولا بما يملكون من الأنعام وإنما بمحافظهم من العملات والأسهم والسندات وأصبحت الثروة غير المحسوسة أهم من الممتلكات العقارية ومن البضائع التي تضيق بها المخازن وبعد أن أصبح من المألوف عند أحدنا أن يدخل السوق بشريحة رقيقة تختزن رصيده وتخوله شراء حوائجه وقضاء مصاريفه لا يجوز أن نغفل عن حقوق الفقراء فما دامت بأيدينا وسائل أداء يجب أن نبرئ ذممنا من الحقوق التي افترض الله علينا للمحتاجين.
ولا غنى عن إسهام المجتمع المسلم في تشجيع الحكام على زكاة أموال المسلمين ودفعهم لتهيئة الظروف الملائمة لمساعدة المحتاجين فإن تبنى أولو الأمر مبادرة الزكاة سهل الأمر ليسر اتباع إجراءات تخول تكييف الطقس العربي الحار بإطلاق حنفيات البذل في جوانبه.. وإن هم تقاعسوا فبمتناول المجتمع المسلم، بل من واجبه، أن يجرب وسائل متحضرة لانتزاع الحقوق ومن دواعي نجاح السعي أن تكون الوسائل نابعة من الدين والقيم علها تسهم في الحد من العنف الذي يهز كيان الشعوب وتشتد وطأته في منطقتنا وسيكون من المحرج للممتنعين عن الزكاة مواجهة تيار مسالم ينتظم في جمعيات ترصد مخالفي الزكاة وتستخدم الأساليب المدنية والمنابر الإعلامية ضدهم وتحرك، عند الإقتضاء، الدعاوى القضائية دفاعا عن حقوق الفقراء.. على أنه توجد بأيدي المسلمين وسائل معنوية لردع مانعي الزكاة لا تتوفر لدى الحقوقيين الآخرين. فما هي فائدة الأموال المؤقتة، إذا كان بعض الإخوة في الرحم والدين يموتون هاربين عن بلاد المسلمين بحثا عن مكان آمن وكسرة يسدون بها رمقهم؟ وما سر كون أغلب اللاجئين اليوم من المسلمين الذين يتساكن في بلادهم الثراء الفاحش والفقر المدقع؟
إن من الخليق بأغنياء المسلمين - في زمن تدفق عابري السبيل وانتشار الفقر وكثرة الغارمين - التعاون على تفعيل الزكاة التي تقع مسؤولية تحصيلها وصرفها أولا على أولي الأمر فإن تقاصروا عن ذلك تعينت على عامة المسلمين باعتبارها أحد أركان الدين فقد رفع الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه السيف في وجه من منعها وقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال". ولا شك أن أنجع خطوة في سبيل أداء الزكاة هي أن تطيب نفوس أولياء أمور الدول الإسلامية بدفعها من أموالهم الخاصة ومن الأموال العامة التي يتصرفون فيها وأن يلزموا بها الآخرين.
وباعتبار الزكاة جزءا من النظام العام في الإسلام يجب على كل دولة مسلمة إنشاء هيئة خاصة بشؤون الفريضة تعمل على تحصيل وصرف الصدقات طبقا للضوابط المقررة شرعا مع التعفف عن استخدامها في مصالح الدولة الدافعة وتجنب صرف زكاة مال الدولة العام لمواطنيها تطبيقا لقاعدة عدم جواز دفع الغني زكاته لمن تجب عليه نفقته، لمظنة أن يكون في ذلك سعي للتخفف من أعباء البذل، على أن تعطى، في المقابل، أولوية زكاة الأغنياء الخصوصيين لفقراء البلد عملا بقاعدة محليتها وكراهة نقلها إن لم يوجد من هو أشد حاجة في بلاد إسلامية أخرى. ومن الوارد أن يدقق المعنيون في تكييف المركز القانوني للدولة في الزكاة فهي وكيل وعامل وبهذه الصفة يمكن أن تكون دافعا أو مصرفا بالنيابة عن مواطنيها (لا أصالة عن نفسها) مع ما يترتب على ذلك من آثار يبدو أنها غير جلية لدرجة أنها التبست على بعض الدول كما تعكسه تشريعاتها.
وتقع مسؤولية تنسيق العمل بين مختلف الدول الإسلامية على رابطة العالم الإسلامي التي يتعين عليها انتداب فريق متخصص تعهد إليه بوضع عهد إسلامي يتم بموجبه إنشاء ركن للزكاة، على غـرار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (undp) يسهر على تحصيل الحق والتعهد بالدراسات ذات الصلة وبسهر على قسمة إيرادها إلى ثمانية أقساط: الثمن لتسيير الركن (العامل عليها) الذي يتعين أن يتكفل بالبحوث حولها وبتحصيلها وتسييرها وقسمتها، الربع للفقراء والمساكين، الثمن للاجئين (أبناء السبل)، الثمن للعمل الخيري خارج بلاد الإسلام (تأليفا للقلوب)، الثمن لمحاربة الإسترقاق وآثاره (في الرقاب)، الثمن لسداد أو تخفيف ديون (الغارمين) والثمن لإقامة الدين (جهادا في سبيل الله). ويمكن للركن جمع ذوي الإستنباط من الفقهاء العارفين بمقتضيات الواقع الإقتصادي وبالمحيط القانوني لتدارس مدى وجاهة مراجعة مفاتيح التوزيع بتقليص ما زال سببه من مصارف وإضافته لعنوان آخر باجتهاد معلل ومؤقت (يتم تجديده دوريا). مع أن من الوارد النظر في إقامة هيئات قضائية، ذات اختصاص إسلامي، تبت في النزاعات المتعلقة بالزكاة التي يتعين أن تخول جمعيات العاملين عليها الصفة في رفع الدعاوى المتعلقة بها.
ويجدر هنا أن نلاحظ أن حملات "تجفيف منابع الإرهاب" حاصرت العمل الخيري الإسلامي غير الرسمي وهلك وتشرد جراء ذلك الكثير من فقراء المسلمين بينما وجد المستهدفون سبلا وموارد وسعت دائرة الحرب وتوغل القتال في عقر ديار دول كانت تحسب نفسها في منأى عنه.. لذلك فمن واجب الدول الإسلامية أن تقنع شركاءها الغربيين بأنه لا قائل بتعطيل بئر أو ردم ساقية لمجرد التضييق على خصم متنقل لما يترتب على تعطيلها من هلاك محقق لمخلوقات بريئة ومحتاجة وأن توفر الوسائل المادية والبشرية لتأهيل العمل الخيري وإطلاقه بوتيرة جادة مع الحرص على رقابته وعلنيته بما يضمن تعاون الجميع لإيصال الصدقات لكل المحتاجين في بلاد الإسلام.
كما يتوجب سن قوانين تواجه التملص من فريضة الزكاة التي تعد، في دول الإسلام، من النظام العام الذي يجب التقيد به فالتهرب الزكوي ترب التهرب الضريبي الذي دأب عليه الأغنياء في كل البلدان وأنبأ عنه الخالق في قوله تعالى: {.. وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ.. } الآية 128 من سورة النساء.. وحديثا لاحظ الدكتور جيم يونغ كيم، رئيس مجموعة البنك الدولي أنه: ".. في الكثير من البلدان، يتهرَّب الأغنياء من دفع حصتهم العادلة. وبعض الشركات تستخدم إستراتيجيات متقنة لكيلا تدفع الضرائب في البلدان التي تعمل فيها، وهو شكل من أشكال الفساد الذي يضر الفقراء.".
ومن النافع العمل على وضع قواعد ومعايير تكفل تحقيق المقاصد الشرعية كتوسيع الوعاء الزكوي لمصلحة المحتاجين عن طريق تأويل الأحكام باتباع ضوابط سخية تعتمد عند الشك كالأخذ بالتأويل الأكثر فائدة للطرف الضعيف الذي تسعى الشريعة والفطرة السليمة إلى مساعدته.. وعندما تشيع الزكاة في المجتمع المسلم سيتراجع العنف ويتراءى الأفق وربما ألهمت التجربة المجتمع الدولي الباحث عن أساليب لتوزيع الثروة دوريا بين سكان الأرض لأن إسعاف الفقراء وتمكينهم من وسائل لشراء حاجاتهم يسهم في حل مشاكل دولية إذ يحد من الإرهاب ومن تدفق المهاجرين الذين يضيق بهم العالم ذرعا ويمكن أن ينعش الإقتصاد الدولي الراكد.. وكما تدرج غير المسلمين في سبيل التنازل عن الفائدة المحرمة وبعد أن غدت بعض الدول الغربية رائدة في التمويل الإسلامي لذلك لا يستبعد أن تقتدي الدول المتمدنة بالمسلمين عن طريق اقتطاع نسبة سنوية يسيرة (2,5 %) من مواردها لمن لا يجدون ما ينفقون.
ومن أجل سياسة زكوية ناجعة يتعين انتهاج الشفافية بأن يعلن أغنياء المسلمين ما يزكون ولمن يدفعون زكواتهم وأن يحرصوا على متابعة صرفها جهارا لأن الفشو يمكن من رقابة مدى التقيد بالواجب ويشجع الكثيرين على الأداء ويتيح التشهير بمن يمتنع عن الوفاء بالشعيرة والشريعة عندما أجازت قتال الممتنع عن أداء الزكاة رفعت الحصانة عن عرضه على الأقل في حدود انتهاك حرمات الله كما أن العلنية تسهم في سد الطريق أمام "القطاع" الذين كثيرا ما حولوا وجهة أموال الزكاة عن سبيل مستحقيها فعلى الرغم من أن بعض المسلمين يدفعون الزكاة كما يجب إلا أن عدم رقابتها غالبا ما يؤدي لتحويل وجهتها بما يمنع من استفادة المستحقين وهو ما يوجب اليقظة حذرا من التفريط.
وجملة القول أن من واجب أغنياء المسلمين الإمتثال لفريضة الزكاة بادخار جزء يسير من المال المتبخر في حساب الآخرة فينالون به الأجر ويؤمنون به ثروتهم في الدنيا فلا شك أن الفقراء مستعدون لتأمين مصادر قوتهم لأنهم يشكلون قوة ودرعا بشرية قادرة على تطويق العالم بأسره.. فبحسب تقرير نشره تكتل جمعيات OXFAM، في يناير 2015، مستند على معطيات رقمية صادرة عن تجمع Crédit Suisse المالي فإنه، خلال سنة 2014، كانت نسبة 1 % من سكان الكرة الأرضية تملك حصة تبلغ 48 % من الثروة العالمية، أما حصة 52 % المتبقية للتسعة والتسعين بالمائة (99 %) فتملك نسبة 20 % منها نصيب الأسد.. مما قاد OXFAM إلى استنتاج أن الواقع يفرض على نسبة 80 % من سكان الكرة الأرضية أن تكتفي بحصة لا تعدو 5,5 % من ثروات العالم وأن هذه الحصة آخذة في التقلص (راجع تقرير: جشع الثروة: الزيادة أكثر فأكثر لمن تملكوا كل شيء. المتاح على الشبكة تحت عنوان:
(Insatiable richesse : Toujours plus pour ceux qui ont déjà tout) ).
كما أن من مصلحة أغنياء العرب انتهاج علنية معقلنة فلطالما كان المتكتم عرضة للتشهير والإبتزاز ومحلا للإستضعاف.. ولمعاينة عواقب الإرتجال يمكن لمسؤولي صناديق الثروة السيادية العربية القائمة أخذ العبر من واقع المؤسسة الليبية للإستثمار LIA (Libya Investment Authority) التي تتنازع تمثيلها اليوم طرابلس وطبرق مما دفع القضاء الإنجليزي إلى أن يعين شركة BDO LLP كحارس قضائي مكلف بإدارة دعاوى المؤسسة المرفوعة ضد مصرفي Société Générale S.A الفرنسي وGoldman Sachs الآمريكي، اللذين يطالبهما الإخوة الليبيون بمليارات الدولارات.. إثر إبرام صفقات أقل ما يقال عنها أنها معتمة.
المحامي/ الأستاذ محمد سيدي عبد الرحمن ابراهيم
نواذيبو بتاريخ 26 ذو القعدة 1437
الموافق 29 أغشت 2016.