لماذا تذكر المغرب لكويرة بعد 40 سنة و لماذا هذه الحملة المسعورة ؟
منذ أسابيع إن لم تكن أشهر والجدل الإعلامي محتدم على خلفية ما تناقلته وسائل إعلام مغربية خصوصا عن تعزيز الجيش الموريتاني وجوده في بلدة الكويرة ورفعه للعلم الموريتاني، ويبدو إشكال الكويرة هذا أبرز سمات أزمة دبلوماسية تفاقمت في السنوات الأخيرة لأسباب متعددة أغلبها وأهمها غير معروف أو غير معلن.
بيد أن علاج الموضوع يتطلب أولا إلقاء نظرة تاريخية على السيادة على بلدة الكويرة التي ارتبطت في وجدان المواطن المغربي بإحدى أشهر إنشائيات الخطاب الرسمي المغربي المتعلقة بقضية الصحراء؛ الوحدة الترابية من طنجة إلى الكويرة.
والواقع أن بلدة الكويرة بلدة صغيرة تقع إلى الجنوب الغربي من مدينة نواذيبو وفي أقصى شبه جزيرة نواذيبو وتقع تحديدا بين مدينة نواذيبو والميناء المعدني وكانت مزدهرة أيام الاحتلال الاسباني لمنطقة الصحراء وكانت نقطة تبادل مع مدينة نواذيبو تنشط فيها حركة تهريب السلع والبضائع بين منطقتي النفوذ الاسبانية والفرنسية.
وبموجب اتفاقية مدريد الموقعة سنة 1975 آلت بلدة الكوريرة إلى موريتانيا كجزء من منطقة وادي الذهب في حين آلت الساقية الحمراء إلى المغرب، وظل الأمر على حاله إلى أن وقعت موريتانيا مع البوليساريو اتفاقية الجزائر للسلام في غشت 1979.
تضمنت تلك الاتفاقية بندين أولهما انسحاب موريتانيا من وادي الذهب وثانيهما إحلال السلام بين الجانبين.
منذ ذلك الحين تراجعت القوات الموريتانية من جميع مواقعها من وادي الذهب إلى نواذيبو وبولنوار وشوم واحتفظت بحامية ببلدة الكويرة مع إعلانها منطقة عسكرية محظورة على السكان المدنيين إلى اليوم.
إثر انسحاب موريتانيا من وادي الذهب وخروجها من نزاع الصحراء، ولدت لدى الإعلام المغربي عبارة من طنجة إلى الكويرة وقد كانت متعذرة قبل ذلك نظرا لالتزام المغرب في إطار اتفاقية مدريد التي بموجبها حصلت موريتانيا على منطقة وادي الذهب.
اليوم يشكل موضوع بلدة الكويرة جزءا مهما من الخلاف الدبلوماسي بين الرباط ونواكشوط، وهو ما عكسه وفد مغربي رفيع يضم وزير الخارجية ومدير الدارسات والمستندات وقائد المنطقة الجنوبية.
لم ترشح كثير من المعلومات التي دارت في ذلك اللقاء وإن كان المؤكد أنه لم ينته إلى نتيجة مع أن الوفد المغربي نقل طلبا للقيادة الموريتانية بعدم رفع العلم الموريتاني ببلدة الكويرة.
والحقيقة أن هذا الطلب في غير محله فالوحدات العسكرية المرابطة في بلدة الكويرة تواظب، حالها حال أي حامية عسكرية في العالم، على رفع العلم يوميا منذ عام 1975. والمحير كيف جاء الطلب المغربي أو على الأصح الإنذار المغربي، بعد نحو أربعة عقود من الوجود الموريتاني في الكويرة.
نجد أيضا جانب من عدم الوجاهة في الطلب المغربي إذا ما أخذنا في الحسبان أن الكويرة منطقة عسكرية خالصة محرمة على المدنيين وبالتالي رفع العلم فيها ليست له أي أهمية رمزية أو دلالة سياسية أو سيادية بحكم الوجود العسكري الذي هو أبرز تجليات السيطرة.
صحيح أنه بخروج موريتانيا من الصراع أصبحت منطقة الكويرة جزءا خالصا من منطقة وادي الذهب الخاضعة حاليا للمغرب، لكن يجب أن لا نغفل حقيقة أن الكويرة تقع على بعد 70 كيلومتر جنوب المنطقة العازلة التي أقامتها الأمم المتحدة بعد انسحاب موريتانيا من وادي الذهب وهي المنطقة التي تشكل اليوم الحدود البرية الفعلية بين موريتانيا والمغرب ويوجد عليها المركز الحدودي الكركرات.
وبالتالي يحق التساؤل عن جدوى إثارة موضوع الكويرة لتبعاته السلبية المحتملة على الموقف الموريتاني من قضية الصحراء التي التزم فيها الحياد مند سنة 1979.
والحديث عن الحياد الموريتاني يقودنا إلى إثارة مستوى آخر من التوتر الحالي بين المغرب وموريتانيا، فكثير من المنابر الإعلامية المغربية يرجع الحالة الراهنة إلى ما يراه تبدلا في الموقف الموريتاني من القضية لصالح البوليساريو والجزائر. والواقع أن لا شيء يزكي هذا الافتراض، فموريتانيا لم تقدم على أي خطوة دبلوماسية ذات دلالة في اتجاه تغيير موقفها، وما تثيره هذه المنابر لا يتجاوز حدود التخمينات والاستنتاجات، والمعطى الوحيد الملموس هو حضور وزير الشؤون الإسلامية الموريتاني مراسيم تشييع جنازة زعيم الانفصاليين محمد عبد العزيز المراكشي شهر يونيو الماضي.
تجد هذه الخطوة تفسيرها في كون موريتانيا تعترف بالجمهورية الصحراوية المعلنة من جانب البوليساريو منذ فترة حكم محمد خونه ولد هيدالة سنة 1984، هذا فضلا عن الصلات الاجتماعية والقبلية التي تجمع الموريتانيين والصحراويين وهي صلات زكاها وأكد عليها الحكم الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في عام 1975 والذي جاء فيه أنَّ سكان الصحراء يرتبطون اجتماعيا بموريتانيا ارتباط الجزء بالكل، ووفق هذا المنطق الاجتماعي والإنساني يجدر التذكير بأنَّ قناة العيون في نهاية نشرتها الرئيسة، يوم وفاة عبد العزيز، أوردت تعزية لأهله بحكم انتمائه إلى الإقليم ووجود والده وإخوته وأبناء عمومته وقبيلته في كل أنحاء المغرب.
النقطة الأخرى التي تثيرها بعض المنابر الإعلامية كدليل على تبدل الموقف الموريتاني هي توقيع اتفاقيات مع الجزائر وتكثيف نسبي للتعاون بين البلدين في السنوات الأخيرة، وهذا التدليل لا يستقيم لأن موريتانيا دولة مستقلة لها كامل الحق في تنمية علاقتها مع الجزائر والمغرب وكل دول الجوار، وهنا يؤثر عن الرئيس الراحل المختار ولد داداه قوله للرئيس الراحل هواري بومدين، حين استقبله في بشار، حين كانت موريتانيا تستعد للتوقيع على اتفاقيات مدريد، وخيره بين المغرب والجزائر بنبرة تهديدية حادة؛ أنا اخترت موريتانيا.
على صعيد آخر من هذا التوتر المفترض، تُبرز بعض المنابر الإعلامية المغربية عدم تعيين موريتانيا لسفير لها في الرباط منذ خمس سنوات وتعتبر الأمر دليلا على تحول في الموقف الموريتاني، والحقيقة أن دافع السلطات الموريتانية الذي عبرت عنه أكثر من مرة في اجتماعات مع الجانب المغربي هو استضافة المملكة لاثنين من أبرز معارضي النظام؛ رجلي الأعمال محمد ولد بوعماتو ومصطفى ولد لمام الشافعي (وهو مستشار للعدد من الرؤساء الأفارقة وقدم إلى المغرب إثر الإطاحة برئيس بوركينا فاصو بليز كومباوري).
وقد حضر وجهاء ومسؤولون مغاربة سامون حفل زفاف إحدى كريمات ولد الشافعي في الرباط السنة الماضية في خطوة ساءت السلطات الموريتانية واعتبرتها تحديا سافرا لها.
خلال مساعي المغرب الأخيرة للعودة إلى الاتحاد الإفريقي أثارت منابر إعلامية مغربية عدم توقيع موريتانيا على لائحة الدول الثماني والعشرين المطالبة بطرد البوليساريو وعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي واعتبرت الأمر موقفا عدائيا من سلطات نواكشوط. وهنا لابد من الإشارة إلى أنَّ المغرب لم يدمج موريتانيا ضمن إستراتيجيته للعودة إلى الاتحاد الإفريقي، وهي خطوة ذكية من جانب الرباط المدركة لحساسية الموضوع بالنسبة لنواكشوط سيما أن المغرب ربط هذه العودة بطرد البوليساريو، ومحاولة والتوفيق بين هذين النقيضين تضرب في الصميم مبدأ الحياد الذي آثرته موريتانيا بعد أن جربت الحرب وويلاتها لخمس سنوات عجاف، ثم إن الوفد المغربي الذي حمل الرسالة إلى نواكشوط وصلها في نفس الوقت تقريبا الذي كانت تفتتح فيه أشغال القمة الإفريقية في كيغالي وبالتالي ليس منصفا أن ننتظر جوابا حاسما بهذه السرعة من بلد له موقف بالغ الحساسية من هذه القضية.
وهنا أيضا يجدر التذكير باللغط الذي أثير لعدم استقبال الرئيس الموريتاني للوفد المغربي، فاستقبال وفد وزاري من قبل رئيس أي دولة مسألة تقديرية وهنا يمكن ذكر عدم استقبال وزير الخارجية الموريتاني من قبل جلالة الملك محمد السادس حين قدم مرتين إلى الرباط لتسليم دعوة حضور القمة العربية.
من أوجه التجييش الإعلامي كذلك إبراز استقبال الرئيس الموريتاني لبعض موفدي جبهة البوليساريو كان آخرهم محمد خداد، مسؤول التنسيق مع المينورسو، والواقع أن هذه اللقاءات لا تحمل جديدا فكل الرؤساء الموريتانيين المتعاقبين منذ 1979 كانوا يستقبلون مبعوثين من البوليساريو وبالتالي فإن مثل هذه الاستقبالات لا يجب أن تكون مدعاة للتوتر ما لم تثمر قرارات معادية.
الخلاصة:
رغم التجييش الإعلامي المتبادل، فإنَّ الوقائع تنفي حدوث أي تطور سلبي في علاقات البلدين كل منهما اتجاه الآخر خاصة في موضوع الصحراء، فموريتانيا تؤكد، إلى الآن، تمسكها بمسار التسوية الأممي وتدعم حلا سياسيا متفاوضا بشأنه على قاعدة لا غالب ولا مغلوب وهو نفس الموقف الذي عبر عنه المغرب في مرات عديدة.
صحيح أنَّ موريتانيا لم تدعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي، ولم تعتبرها حلا وحيدا وإنْ ثمنتها لكنها في المقابل لم تدعم طرح البوليساريو والجزائر الداعي إلى استفتاء تقرير المصير، والمفارقة أنَّ المغرب يقيم علاقات طبيعية خالية من التوتر والتجييش الإعلامي مع بلدان تدعم طرح البوليساريو وتصرح بذلك وتعتمد سفراء للجبهة مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا ، مع العلم أن موقف موريتانيا ادعى إلى التفهم والفهم نظرا لحساسية القضية بالنسبة لها وهو معطى تعيه السلطات الموريتانية، وفي ضوءه ظلت تمتنع عن فتح سفارة للبوليساريو في نواكشوط.
وخلاصة القول أن موريتانيا تحاول التمسك، قدر المستطاع، بالحياد وبالتالي فإن مسؤولية المغرب في إطار الدفاع عن قضيته الوطنية أن لا يحاول دفعها إلى الخروج عن هذا الحياد بهذه الحملة الإعلامية المسعورة لأن ذلك ليس في صالح لا موريتانيا ولا المغرب ولا المنطقة برمتها.
عبد الله حافيظي