كتب أحد مشاهير المدونين هو صاحب المعالي عبد القادر بن أحمدو تدوينة بعنوان "التدين السياسي و التسييس الديني " . جاء فيها ما نصه: "اختلاف الفقهاء في حكم السياسة رحمة للسياسيين وللمهتمين بالشأن السياسي فقد ذهب الاستاذ محمد المهدي الي القول بان " التدين السياسي نقيض لدين الله الحق" فرد عليه الاستاذ الرباني بان "التسييس الديني واجب و فطرة " ...و الاكيد ان السياسة .. من زاوية الدين ...ليست فرض عين. و لا تعد فطريا من الأركان الخمس التي بني عليها الدين الاسلامي ... و ان الحياة الدنيا ليست كلها سياسة و لكن السياسية .. علي مذهب مكيافيل -فقيه السياسين - .. قد توظف الدين. .. لانها تهتم بالدنيا كلها ..."
هذه التدوينة رآها الطرف الآخر شاهدا شاركها على صفحته ولأن صاحب التدوينة من بيت يحسم الخلافات الفقهية لم يكن أمامي غير بيان أن هذا الحكم غير مسلم رغم احترامي للمدون كشخص جامع للمعالي ولمحتده الكريم ولما بيننا من علاقة لا يكون بين أصحابها عادة إلا أكل الكسكس في مثلنا الشعبي (ما بين أولاد الخالات ماه اكيل كسكس) وإنما استوجب هذا الحكم النقض بعدة أوجه:
الوجه الأول: أن الدين ليس قاصرا على فرض العين ولا الأركان الخمسة فقوله: "الاكيد بأن السياسة من زاوية الدين ليست فرض عين و لا تعد فطريا من الأركان الخمس التي بني عليها الدين الاسلامي" ينقض بأن الفقهاء قسموا الواجبات الدينية إلى عينية وكفائية، والسياسة بدخولها في كل شيء تدخل في الواجبات الكفائية، كالامامة والقضاء وتنظيم الحج والجهاد والفتيا والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وجميع الحرف الهمة... وحقيقة فرض الكفاية انه: "ما يخاطب به جميع الناس فاذا قام به من يحصل بهم الغرض سقط الخطاب به عن الباقين فاذا لم يحصل الغرض اثم جميع من يمكنهم العمل على تحصيله" .ومن العلماء من نص على ان فرض الكفاية أفضل من فرض العين: لان صاحبه يدفع الاثم عن جميع الامة بقيامه به، اما الفرض العيني فان من قام به لا يدفع الإثم إلا عن نفسه قال الشيخ سيدي عبد الله في المراقي:
ما طلب الشارع ان يحصلا ** دون اعتبار ذات من قد فعلا
وهو مفضل على ذي العين ** في راي الاستاذ مع الجويني
مزه من العيني بأن قد حظلا ** تكرير مصلحته إن حصلا
وهو على الجميع عند الاكثر ** لاثمهم بالترك والتعذر
وفعل من به يقوم مسقط ** وقيل بالبعض فقط يرتبط
ومن أراد التفصيل في ذلك فليراجع كتب الأصول كا المستصفى للغزالي أو شروح خليل عند قوله: "الجهاد في أهم جهة كل سنة وإن خاف محاربا: كزيارة الكعبة: فرض كفاية ولو مع وال جائر: على كل حر ذكر مكلف قادر: كالقيام بعلوم الشرع والفتوى ودفع الضرر عن المسلمين والقضاء والشهادة والإمامة والأمر بالمعروف والحرف المهمة ورد السلام وتجهيز الميت وفك الأسير.."
الوجه الثااني أن الذي أنزل " قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا " (سورة الشمس)_والذي انزل "اوَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) "(سورة الفرقان )وأنزل غيرها من الايات التزكوية التربوية هو الإله الذي انزل: " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (المائدة:38) وهو الذي أنزل : "وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ" المائدة 49 وهو الذي انزل: " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) ." وهو الذي جعل الشورى في الشأن العام تتخلل الصلاة والزكاة "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (سورة الشورى38)" فباي حق نعتبر بعض ما امر به هذا الكتاب دينا ولا نعتبر بعض ما امر به دينا؟ "افتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحياة الدنيا ..."
الوجه الثالث: أن منهج علماء المسلمين في تناول أحكام السياسة والحكم في أبواب العقائد مشعر بعلو شأنها ومومئ إلى ارتباطها بها، وهنا أسوق بعض كلام علماء الأشاعرة المالكيين ممن يفترض أن بكلامهم تقوم الحجة في هذه البلاد من ذلك قول المقري في إضاءة الدجنة:
والنصب للإمام بالشروط ** فرض بشرع بالهدى منوط
والسمع مفروض على الأعيان ** لأمره فيما سوى العصيان
وقول عبد القادر بن محمد بن محمد سالم في الواضح المبين في تعريف الإمامة:
خلافة الرسول للحـــــراسة ** لما اتى به وللسياســــــــة
لهذه الدنيــــــــا هي الامامة ** وربها ان كان ذا استقامة
فانه يظـــــــــــــــــــله الاله ** حين انعدام ظل من سواه
وقوله في حكمها:
والنصب للامام ان وجد من ** فيه شروطه ففرضه زكن
لانه به قــــــــــــــــوام الدين ** وهذه الدنيا بدون مين.
الوجه الرابع: أن فضل الأعمال السياسية معروف مشهور من ذلك:ما ثبت في الصحيحين من أن الإمام العادل من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله،ومنه ما أخرجه مسلم والنسائي من أن " المُقْسِطِينَ عند الله على مَنَابِرَ من نُورٍ عن يَمينِ الرَّحْمنِ - وكلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وأَهْلِيهمْ وَمَا وَلُوا". وقد قال عبد الله ابن المبارك (مجاهد) مخاطبا الفضيل ابن عياض (عابد):
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْـَنا ... لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ
مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه ... فنحورنُـا بدمـائِنا تَتَخْضَبُ
أوكان يتعبُ خيله في بـاطل ... فخيـولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبـيرُنا ... رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد أتـانا مـن مقالِ نبيِنا ... قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ
لا يستوي غبـارُ أهلِ الله في ... أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ
هذا كتابُ الله ينـطقُ بيننا ... ليسَ الشهيدُ بميـتٍ لا يكذبُ
قد يقول قائل هذا الجهاد فما بال السياسة؟ فأحيل الجواب إلى الشيخ مخنض بابه بن اعبيد:
فرض الجهاد على العباد فريضة ** يعصي إذا تركت جميع الانام
كيف الجهاد وكيف كف محارب ** من معشر فوضى بغير إمـــام؟
فاغدوا على تصب الإمام بقرعة ** وابغوا بذاك نصيـــحة الإسلام
الوجه الخامس: ما سطره العلماء في كتب السياسة الشرعية كابن تيمية الحنبلي وقواعد الأحكام لابن عبد السلام الشافعي وسراج الملوك للطرطوشي المالكي والأحكام السلطانية الماوردي مما هو في صميم المباحث السياسية المعاصرة كواجبات الحاكم وصلاحياته وطرق اختياره.
ومن باب عروض الأمر للأمر أذكر أنني استغربت من تدوينة للدكتور محمد المهدي محمد البشير يقول فيها: " السياســـة الشرعية عند فقهاء المسلمين لا تعني ما يعنيه الباحثون في العلوم السياسية بكلمة Politics ، فقد قال ابن نجيم الحنفي: " وظاهر كلامهم هاهنا أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي" ، وقال ابن عابدين "والظاهر أن السياسة والتعزير مترادفان؛ ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير" وقال إن "السياسة تجوز في كل جناية " ، وعد تغريب الزاني البكر من السياسة، وأن اللوطي والسارق والخناق: إذا تكرر منهم ذلك حل قتلهم سياسة، ....ومن ذلك أن بعض علماء بلاد شنقيط كحمى الله التشيتي، وصالح بن عبد الوهاب وغيرهم افتوا بسقوط القصاص في زمن السيبة من باب "السياسة الشرعية"، وفي هذا يتنزل قول العلامة الشيخ بداه ولد البوصيري "دين بلا سياسة لا يستقيم"، فأين هذا من السياسة بمفهومها المعاصر سواء قلنا إنها تعني " علم الدولة " أو "علم السلطة" أو "علم صناعة القرار" واين هو من موضوعات علم السياسة المتنوعة ؟
ويرجع استغرابي لسببين:أحدهما: أن السياسة الشرعية تطلق عند العلماء على معنيين:
- معنى عاما: وهو كل ما له علاقة بإصلاح الشأن العام مما تقتضيه المصلحة ولو لم يرد فيه دليل خاص ومن ذلك تعريف ابن عقيل الحنبلي: بأنها :ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه رسوله صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي" نقلا عن ابن القيم في كتاب الطرق الحكمية.
فما يصلح به الناس ويبعدهم عن الفساد تدخل فيه علوم السياسة دخولا بينا لا يفتقر إلى تنبيه.
- معنى خاصا وهو ما يتعلق بالاجتهاد في مجال العقوبات والتعزير إيقاعا وإسقاطا، وفيه تندرج التعاريف التي ساق الكاتب محمد المهدي. فالجزم بأن المعنى الذي أراده الإمام بداه المعنى الخاص وهو الذي عاش في عصر صارت السياسة أظهر في المعنى العام وهو الذي عرف عنه تجييش "الكتائب الشرعية لصد القوانين الوضعية" (كتاب للإمام) جزم فيه تسرع ومجازفة .
الوجه السادس: أن أمرا قدم الصحابة رضوان الله عليهم نقاشه والحسم فيه على دفن النبي صلى الله عليه وسلم وتجهيزه لربه -وهم من هم في درجات الكمال- لجدير به أن يكون ذؤابة الدين، إلا على مذهب من يرى أن دوافعهم في ذلك كانت دنيوية محضة كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في قتاله وممارسته السياسة فليس ذلك من صميم الرسالة كما يعتقد الشيخ علي عبد الرازق والمعجبون به هداني الله وإياهم إلى ما اختلف فيه من الحق.
تلك بعض أهم الأدلة الشرعية لمبدأ التسيس الدديني أما الممارسة الواقعية فتخضع لقوانين المصالح والمفاسد والممتنع والمتاح حسب الزمان والمكان وذلك أمر خارج عن مبدأ التشريع.