(قصة متخيلة عن وصول سيدي ولد الشيخ عبد الله إلى قرية "لمدن" بعد الإفراج عنه، كتبتها بعد الانقلاب عام 2008)
لمدن".. وما أدراك ما "لمدن".. تلك القرية الهادئة الوديعة، كانت حتى يوم أمس الخميس تنعم بالسكينة والطمأنينة في أحضان الطبيعة البكر.. تنام وتصحوا آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا بين الكثبان الرملية التي تحفها من كل الجهات، وعيون ساكنتها ترقب عن بعد قصري العاصمة نواكشوط (القصر الرئاسي، وقصر المؤتمرات)، حيث كان ابن القرية سيدي محمد لود الشيخ عبد الله، يقم سيدا مطاعا في الأول، ثم نزيلا سجينا في الثاني..
وفي الناشئة الأخيرة من الليل.. وحينما كان شيوخ القرية وكبار السن فيها يستعدون لأذان الفجر، انتظارا لأن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، والأطفال ينامون ملأ أجفانهم، فاليوم خميس لا لوح فيه ولا "سمغة".. فجأة تراءت في أفق الجنوب أضواء سيارات قادمة باتجاه القرية، بدأت تقترب رويدا رويدا.. حتى دخلت مشارف القرية وجاست خلال الديار مثيرة فزع المواشي، التي كانت يومها الوحيدة في تلك القرية، التي لا يؤرقها الهم السياسي وتداعياته.
دخلت السيارات الثلاث "لمدن" وتوجهت صوب منزل أسرة أهل الشيخ عبد الله، فاستيقظ أغلب سكان القرية الصغيرة وخرجوا من مساكنهم يتطلعون نحو القادم الجديد.. كانوا يدركون أنهم "أهل الرئيس المعتقل" وأن كل المفاجآت محتملة..
نزل أشخاص بلباس مدني، وبمعيتهم عسكريون، أثارت قعقعة سلاحهم وهم يقفزون من إحدى السيارة فزع القريبين من المنزل والمقيمين فيه.. ترى من القادمون في الهزيع ألأخيرة من الليل؟؟ وما ذا يريدون؟.. "ما شأن السلطات الجديدة بنا؟.. ألا يكفيها أنها سلبتنا ملكا لم يبلغ الفطام بعد، وحكما لم نصدق بعد أنه صار إلينا..؟ ما لنا ولهؤلاء الجنود.. فنحن قرية من المدنيين والمدنيين فقط؟.."أسئلة ترددت في صدور الكثيرين وعلى شفاههم همسا ونجوى.. لكن المفاجأة أخرست الألسن.. وبلغت من وقعها القلوب الحناجر.. ومسح البعض بظهور أيديهم على أعينهم وأرجعوا البصر كرتين.. ليتأكدوا هل الأمر حقيقة أم خيال؟.. إن القادم في"وقت استجابة الدعاء" ـ كما تقول ثقافة القرية ـ هو ابن "لمدن" الذي كان سيد البلد الأول، قبل أن يصبح سجينه الأشهر.. إنه الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله .. أبن هذه الرمال.. وهذه الأعرشة والبيوت المتواضعة، ذلك الذي كان رئيس القصر.. ثم سجين القصر.. عائد إلى بلدته وموطنه.. خارجا من غياهب السجن في إحدى فلل قصر المؤتمرات بالعاصمة نواكشوط، إلى وميض حرية الإقامة الجبرية في لمدن.. لكن بمعية الأهل والأحبة، وفي ذلك ما يزيل من النفس بعض أدران وحشة الحبس الانفرادي التي عانها مائة يوم أو تنقص قليلا،.. نزل "الرئيس" من السيارة ونظر ذات اليمين وذات الشمال وقد بدأت مساكن المدينة تظهر بخفوت في عتمة الظلام الذي بدأ يودع استعدادا لإشراقة يوم لا كأيام القرية.. إنها قرية "لمدن" التي عهدها ساكنا يغدو ويروح كيف شاء وأنى شاء.. واليوم يدخلها مقيما بإرادة غيره لا يبرح المكان حتى يأذن له "وريث العرش" أو يحكم الله وهو خير الحاكمين.. نزل برجله من السيارة فغاصت نعله وقدمه في الرمل الرخو البارد.. أحس أنه فعلا غادر قصر المؤتمرات.. كما غادر من قبل القصر الرئاسي.. تنفس الصعداء وقال: "بلدة طيبة ورب غفور".
استيقظت القرية عن بكرة أبيها.. حتى الشباب الذين ناموا في وقت متأخر من الليل بعد سهر عابث وشاي منعنع.. هجر النعاس أجفانهم.. وتدفقت الدماء في الدورة الدموية بسرعة.. وتضاعفت نبضات القلب.. ونسي الجميع أن صبيحة ذلك اليوم كانت زمهريرا.. تزيد الرمال الزاحفة وصفير الرياح بين منازل القرية المتناثرة من وطأة بردها، فخرجوا فرادى ومثنى وثلاث ورباع وجماعات..أغلبهم بثياب نومهم.. لا يشعرون بلسع البرد القارس.. فقد شغلهم هول المفاجأة وأخذ منهم اللب وشغل النفوس.. البعض يرون أن "الرئيس" عاد لقريته... وأفراد الأسرة وبعض القريبات يرون أن "سيدي" عاد سالما معافى.. وكفى.. إنه البون الشاسع بين المطامح والعواطف.
ها هو "الرئيس" " سيدي" يعود إلى قريته التي غادرها قبل الانتخابات الرئاسية... وتابعت أخباره عن بعد.. ودعا له عجائزها بالنصر والتمكين.. قبل أن أن ينقلب إلى دعاء له بالفرج والتسريح..أي قدر هذا الذي رفع "لمدن" من بين أحقاف رمال لبراكنة الزاحفة، إلى هضاب السياسة العالية.. وحولها فجأة من مزار لبعض المريدين وطلاب العلم..إلى محط أنظار كل الموريتانيين.. وجل المتابعين عبر العالم.
أشرقت شمس ذلك الخميس على "لمدن".. لكنها ليست كشمس أيام القرية العادية.. حركية ونشاط أنست بعضهم تعهد مواشيهم، وأغفلت آخرين عن تعويذ صبيانهم، وربما ذهل قوم عن إكمال الورد و"الوظيفة".
طار الخبر بسرعة ليشق أصقاع الدنيا.. ويومها رفعت شركات الاتصال في نواكشوط من مداخلها، لكنها لن تبوح بمشاعر "التاجر الرابح"، لأن في ذلك خلط للسياسة بالتجارة.. بدأت وفود المهنئين والمؤيدين والصحفيين والفضوليين وقوم آخرين.. تتقاطر على طريق الأمل صوب القرية التي ودعت هدوءها وسكينتها..
نسيت القرية في غفلة من الزمن.. أنها قرية "لمدن" الصوفية المحافظة.. واختلط حابلها بنابلها رقصا وغناء وزغاريدا.. إلا بعضا من كبار السن أعرضوا عن الغفلة رغم فرحهم ومشاعرهم الجياشة.. ورفع الشباب والنسوة الصور المكبرة للعائد إلى بيته.. وعلت الأصوات رخيمها وخشينها تهتف باسمه وتغني لمقدمه.. وحسر عن رؤوس طالما ألفت الستر والثوب.. لكنها لحظات اختلطت فيها دموع الفرح بعودة "الغائب المنتظر".. مع عبرات الأسى والحسرة لمشهد عسكريين يحرسونه بأوامر سيدهم.. لا بأوامر "سيدي".
وتحول الطريق الرملي الوعر الرابط بين قرية "لمدن" وطريق الأمل إلى حركة دائبة لا انقطاع لها.. سيارات عابرة للصحاري تنهش الأرض، وأخرى صغيرة تحاول أن تعبر الصحراء وما خلقت لذلك.. فسرعان ما تغوص في ألسنة الرمال الزاحفة.. فكلٌ ميسر لما خلق له.. تاركة السائق طالبا العون لإخراجها من الورطة التي أوقعته فيها.. أو مستوقفا عابرين ليحملوه إلى "لمدن".. فالمهم يومها هو أن يصل الجميع إلى لمدن "كعبة" السياسيين والمهنئين والزائرين، التي ينظر إليها الجميع تشوقا لمن فيها.. أو مراقبة لمن قدم عليها.. أو تأييدا لمن أ‘يد إليها، لا فرق فالجميع يريد أن يصل "لمدن"..
خلا الجو طيلة ساعات النهار الأولى للأقارب وسكان القرية.. والمهنئين القادمين من قريب.. أو الذين أدلجوا آخر الليل.. لكن مع تقدم عقارب الساعة باتجاه الظهيرة.. كانت رائحة السياسة تغشى المكان.. فالسياسيون قادمون.. بل قدموا.. إنهم هنا في "لمدن".. وتعالت الزغاريد والهتافات مرحبة بهم.. وخطفت الكاميرات وعدسات المصورين سكون القرية وغرق الجميع في ثنايا الحدث، إلا ثلاثة شيوخ من أبناء "لمدن" كانوا ذات يوم أصدقاء طفولة للرئيس العائد إلى مسقط رأسه.. قاسموه اللعب واللوح والورود إلى البئر زالغدير.. انتبذوا مكانا قصيا، وهم يراقبون تلك الحركة لتي لم يألفوها في قريتهم من قبل..
قال أوسطهم.. وهو ينظر إلى موكب سيارات قادة "الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية" الذين وصلوا للتو: ها قد وصل الأوفياء.. إنهم فعلا الأصدقاء الأجدر بالترحيب.. الذين يقلون عند الطمع ويكثرون عند الفزع.. قال له صاحبه وهو يحاوره: لعنة الله على السياسة.. وهل فيها وفاء أو إخلاص.. إنها مصالح ومطامع تفرق شيعا وتجمع شتاتا.. ألا تتذكر من هم قادة الانقلاب على "سيدي".. أليسوا ألائك الذين كنا نسأل الله لهم قبل سنة ونيف النصر والقوة والثبات.. أليسوا الجنرالات الذين دعت لهم عجائز "لمدن" في الثلث الأخير من الليل ودبر كل صلاة، بطول العمر والرفعة والجزاء الحسن، لأنهم مكنوا لـ"ولد الشيخ عبد الله" وآزروه وعزروه ونصروه.. أو ليس الوافدون اليوم علينا من قادة "الجبهة".. هم من كنا نعدهم من الأعداء عيشة الانتخابات الرئاسية.. أو لم نتضرع إلى الله يوما أن يخذل ظهيرهم ويكسر خاطرهم ويهزمهم شر هزيمة.. واليوم نستقبلهم بالأحضان والزغاريد ونصفهم بالأوفياء الخلص.. إنها السياسية لا عهد لها ولا وعد، أما الثالث فقد أنهى دورة سبحته، وقال بزفرة تتنازعها الحسرة والموعظة وقد هز رأسه "سبحان مقلب القلوب..ومغير الأحوال.. يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء"..
لمدن".. وما أدراك ما "لمدن".. تلك القرية الهادئة الوديعة، كانت حتى يوم أمس الخميس تنعم بالسكينة والطمأنينة في أحضان الطبيعة البكر.. تنام وتصحوا آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا بين الكثبان الرملية التي تحفها من كل الجهات، وعيون ساكنتها ترقب عن بعد قصري العاصمة نواكشوط (القصر الرئاسي، وقصر المؤتمرات)، حيث كان ابن القرية سيدي محمد لود الشيخ عبد الله، يقم سيدا مطاعا في الأول، ثم نزيلا سجينا في الثاني..
وفي الناشئة الأخيرة من الليل.. وحينما كان شيوخ القرية وكبار السن فيها يستعدون لأذان الفجر، انتظارا لأن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، والأطفال ينامون ملأ أجفانهم، فاليوم خميس لا لوح فيه ولا "سمغة".. فجأة تراءت في أفق الجنوب أضواء سيارات قادمة باتجاه القرية، بدأت تقترب رويدا رويدا.. حتى دخلت مشارف القرية وجاست خلال الديار مثيرة فزع المواشي، التي كانت يومها الوحيدة في تلك القرية، التي لا يؤرقها الهم السياسي وتداعياته.
دخلت السيارات الثلاث "لمدن" وتوجهت صوب منزل أسرة أهل الشيخ عبد الله، فاستيقظ أغلب سكان القرية الصغيرة وخرجوا من مساكنهم يتطلعون نحو القادم الجديد.. كانوا يدركون أنهم "أهل الرئيس المعتقل" وأن كل المفاجآت محتملة..
نزل أشخاص بلباس مدني، وبمعيتهم عسكريون، أثارت قعقعة سلاحهم وهم يقفزون من إحدى السيارة فزع القريبين من المنزل والمقيمين فيه.. ترى من القادمون في الهزيع ألأخيرة من الليل؟؟ وما ذا يريدون؟.. "ما شأن السلطات الجديدة بنا؟.. ألا يكفيها أنها سلبتنا ملكا لم يبلغ الفطام بعد، وحكما لم نصدق بعد أنه صار إلينا..؟ ما لنا ولهؤلاء الجنود.. فنحن قرية من المدنيين والمدنيين فقط؟.."أسئلة ترددت في صدور الكثيرين وعلى شفاههم همسا ونجوى.. لكن المفاجأة أخرست الألسن.. وبلغت من وقعها القلوب الحناجر.. ومسح البعض بظهور أيديهم على أعينهم وأرجعوا البصر كرتين.. ليتأكدوا هل الأمر حقيقة أم خيال؟.. إن القادم في"وقت استجابة الدعاء" ـ كما تقول ثقافة القرية ـ هو ابن "لمدن" الذي كان سيد البلد الأول، قبل أن يصبح سجينه الأشهر.. إنه الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله .. أبن هذه الرمال.. وهذه الأعرشة والبيوت المتواضعة، ذلك الذي كان رئيس القصر.. ثم سجين القصر.. عائد إلى بلدته وموطنه.. خارجا من غياهب السجن في إحدى فلل قصر المؤتمرات بالعاصمة نواكشوط، إلى وميض حرية الإقامة الجبرية في لمدن.. لكن بمعية الأهل والأحبة، وفي ذلك ما يزيل من النفس بعض أدران وحشة الحبس الانفرادي التي عانها مائة يوم أو تنقص قليلا،.. نزل "الرئيس" من السيارة ونظر ذات اليمين وذات الشمال وقد بدأت مساكن المدينة تظهر بخفوت في عتمة الظلام الذي بدأ يودع استعدادا لإشراقة يوم لا كأيام القرية.. إنها قرية "لمدن" التي عهدها ساكنا يغدو ويروح كيف شاء وأنى شاء.. واليوم يدخلها مقيما بإرادة غيره لا يبرح المكان حتى يأذن له "وريث العرش" أو يحكم الله وهو خير الحاكمين.. نزل برجله من السيارة فغاصت نعله وقدمه في الرمل الرخو البارد.. أحس أنه فعلا غادر قصر المؤتمرات.. كما غادر من قبل القصر الرئاسي.. تنفس الصعداء وقال: "بلدة طيبة ورب غفور".
استيقظت القرية عن بكرة أبيها.. حتى الشباب الذين ناموا في وقت متأخر من الليل بعد سهر عابث وشاي منعنع.. هجر النعاس أجفانهم.. وتدفقت الدماء في الدورة الدموية بسرعة.. وتضاعفت نبضات القلب.. ونسي الجميع أن صبيحة ذلك اليوم كانت زمهريرا.. تزيد الرمال الزاحفة وصفير الرياح بين منازل القرية المتناثرة من وطأة بردها، فخرجوا فرادى ومثنى وثلاث ورباع وجماعات..أغلبهم بثياب نومهم.. لا يشعرون بلسع البرد القارس.. فقد شغلهم هول المفاجأة وأخذ منهم اللب وشغل النفوس.. البعض يرون أن "الرئيس" عاد لقريته... وأفراد الأسرة وبعض القريبات يرون أن "سيدي" عاد سالما معافى.. وكفى.. إنه البون الشاسع بين المطامح والعواطف.
ها هو "الرئيس" " سيدي" يعود إلى قريته التي غادرها قبل الانتخابات الرئاسية... وتابعت أخباره عن بعد.. ودعا له عجائزها بالنصر والتمكين.. قبل أن أن ينقلب إلى دعاء له بالفرج والتسريح..أي قدر هذا الذي رفع "لمدن" من بين أحقاف رمال لبراكنة الزاحفة، إلى هضاب السياسة العالية.. وحولها فجأة من مزار لبعض المريدين وطلاب العلم..إلى محط أنظار كل الموريتانيين.. وجل المتابعين عبر العالم.
أشرقت شمس ذلك الخميس على "لمدن".. لكنها ليست كشمس أيام القرية العادية.. حركية ونشاط أنست بعضهم تعهد مواشيهم، وأغفلت آخرين عن تعويذ صبيانهم، وربما ذهل قوم عن إكمال الورد و"الوظيفة".
طار الخبر بسرعة ليشق أصقاع الدنيا.. ويومها رفعت شركات الاتصال في نواكشوط من مداخلها، لكنها لن تبوح بمشاعر "التاجر الرابح"، لأن في ذلك خلط للسياسة بالتجارة.. بدأت وفود المهنئين والمؤيدين والصحفيين والفضوليين وقوم آخرين.. تتقاطر على طريق الأمل صوب القرية التي ودعت هدوءها وسكينتها..
نسيت القرية في غفلة من الزمن.. أنها قرية "لمدن" الصوفية المحافظة.. واختلط حابلها بنابلها رقصا وغناء وزغاريدا.. إلا بعضا من كبار السن أعرضوا عن الغفلة رغم فرحهم ومشاعرهم الجياشة.. ورفع الشباب والنسوة الصور المكبرة للعائد إلى بيته.. وعلت الأصوات رخيمها وخشينها تهتف باسمه وتغني لمقدمه.. وحسر عن رؤوس طالما ألفت الستر والثوب.. لكنها لحظات اختلطت فيها دموع الفرح بعودة "الغائب المنتظر".. مع عبرات الأسى والحسرة لمشهد عسكريين يحرسونه بأوامر سيدهم.. لا بأوامر "سيدي".
وتحول الطريق الرملي الوعر الرابط بين قرية "لمدن" وطريق الأمل إلى حركة دائبة لا انقطاع لها.. سيارات عابرة للصحاري تنهش الأرض، وأخرى صغيرة تحاول أن تعبر الصحراء وما خلقت لذلك.. فسرعان ما تغوص في ألسنة الرمال الزاحفة.. فكلٌ ميسر لما خلق له.. تاركة السائق طالبا العون لإخراجها من الورطة التي أوقعته فيها.. أو مستوقفا عابرين ليحملوه إلى "لمدن".. فالمهم يومها هو أن يصل الجميع إلى لمدن "كعبة" السياسيين والمهنئين والزائرين، التي ينظر إليها الجميع تشوقا لمن فيها.. أو مراقبة لمن قدم عليها.. أو تأييدا لمن أ‘يد إليها، لا فرق فالجميع يريد أن يصل "لمدن"..
خلا الجو طيلة ساعات النهار الأولى للأقارب وسكان القرية.. والمهنئين القادمين من قريب.. أو الذين أدلجوا آخر الليل.. لكن مع تقدم عقارب الساعة باتجاه الظهيرة.. كانت رائحة السياسة تغشى المكان.. فالسياسيون قادمون.. بل قدموا.. إنهم هنا في "لمدن".. وتعالت الزغاريد والهتافات مرحبة بهم.. وخطفت الكاميرات وعدسات المصورين سكون القرية وغرق الجميع في ثنايا الحدث، إلا ثلاثة شيوخ من أبناء "لمدن" كانوا ذات يوم أصدقاء طفولة للرئيس العائد إلى مسقط رأسه.. قاسموه اللعب واللوح والورود إلى البئر زالغدير.. انتبذوا مكانا قصيا، وهم يراقبون تلك الحركة لتي لم يألفوها في قريتهم من قبل..
قال أوسطهم.. وهو ينظر إلى موكب سيارات قادة "الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية" الذين وصلوا للتو: ها قد وصل الأوفياء.. إنهم فعلا الأصدقاء الأجدر بالترحيب.. الذين يقلون عند الطمع ويكثرون عند الفزع.. قال له صاحبه وهو يحاوره: لعنة الله على السياسة.. وهل فيها وفاء أو إخلاص.. إنها مصالح ومطامع تفرق شيعا وتجمع شتاتا.. ألا تتذكر من هم قادة الانقلاب على "سيدي".. أليسوا ألائك الذين كنا نسأل الله لهم قبل سنة ونيف النصر والقوة والثبات.. أليسوا الجنرالات الذين دعت لهم عجائز "لمدن" في الثلث الأخير من الليل ودبر كل صلاة، بطول العمر والرفعة والجزاء الحسن، لأنهم مكنوا لـ"ولد الشيخ عبد الله" وآزروه وعزروه ونصروه.. أو ليس الوافدون اليوم علينا من قادة "الجبهة".. هم من كنا نعدهم من الأعداء عيشة الانتخابات الرئاسية.. أو لم نتضرع إلى الله يوما أن يخذل ظهيرهم ويكسر خاطرهم ويهزمهم شر هزيمة.. واليوم نستقبلهم بالأحضان والزغاريد ونصفهم بالأوفياء الخلص.. إنها السياسية لا عهد لها ولا وعد، أما الثالث فقد أنهى دورة سبحته، وقال بزفرة تتنازعها الحسرة والموعظة وقد هز رأسه "سبحان مقلب القلوب..ومغير الأحوال.. يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء"..