كنت طالعت مقالا بعنوان "التدين الشكلي والتدين السياسي" للدكتور محمد مختار جمعة وزير أوقاف حكومة السيسي شن فيه هجوما لاذعا على المظاهر الدينية التي عبر عنها بالتدين الشكلي ثم أردف بهجوم أقسى وأمر على الجماعات الإسلامية خاصة جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية حسب توصيف المقال، ثم طالعت اليوم تدوينة للدكتور محمد المهدي بن محمد البشير وهي تدوينة تتناص مع الشق السياسي من مقال محمد جمعة إلى مستوى يكاد يصل حد التماهي المعنوي رغم اختلاف العبارات.
تأتلف التدوينة والمقال في إصدار أحكام متشابهة دون استدلال من وقائع تاريخية أو توثيقات علمية، وتختلفان في أن الدكتور محمد جمعة ترفع عن محاكمة القلوب ووكل أمرها إلى الله، أما الدكتور المهدي فنفذت أحكامه إلى القلوب.
تختلفان كذلك في أن محمد جمعة استحضر أن يقول إن التجربة أثبتت ما يقول مكتفيا بلفظ (التجربة) دون تقديم شواهد مدعمة أما الدكتور المهدي فلا يبدو مستندا إلى غير الانطباع والتأثر إن لم يكن مستندا إلى مقال جمعة من وراء حجاب.
وبالرغم من أن محمد جمعة بدا أقرب إلى الموضوعية المفقودة فإن سأتعمد إهمال كلامه لأن كلامه في هذا المجال وهو وزير في حكومة السيسي ساقط بكل المقاييس، وسأعلق على تدوينة الدكتور محمد المهدي الذي أعده باحثا ذا حظ من الفكر والعلم والاستقلالية يفترض أن يحجبه عن صدور مثل هذه الغرائب منه خاصة بعد أن طلب ذلك بعض الإخوة، وقبل أن أدلف إلى ملحوظاتي على الدكتور المهدي أضع بين يدي القارئ رابط مقال علي جمعة:
http://www.ahram.org.eg/…/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D9%8A%D9…
كانت تدوينة الدكتور مستغربة من وجوه:
الأول: أن تعبير التدين السياسي وإن درج عليه بعض محدثي الكتاب غير دقيق، فلا يوجد ما يسمى التدين السياسي. فالمناسب أن يقصد بالتركيب الوصفي في مثل هذا المحل نوعا من العلاقة السببية، فإذا قلنا التدين السياسي بدا المنعوت (التدين) مسببا للنعت (السياسي)، بمعنى أن التدين ناشئ من السياسية، وليس الأمر كذلك فليس من شأن الرؤية السياسية (نعني تصور إدارة الشأن لعام الدنيوي في مختلف صوره وتجلياته) أن تبعث على التدين (التصور الاعتقادي أو الممارسة الشعائرية ) بل العكس هو الحاصل، أي أن الدين هو الذي يحمل من ضمن ما يحمل رؤية سياسية، مما يعني أن التعبير الدقيق هو التسيس الديني أي التصور والممارسة السياسية المنبثقة من الرؤية الدينية.
الثاني: أن القول بأن الجماعات الإسلامية خاصة الوسطية تعتبر نفسها وحدها من يمثل الدين غير صحيح فلا هو في أدبياتها ومناهجها ولا هو في واقع ممارستها، صحيح أنها تعتبر فهمها الفهم الأصح والأقرب إلى الحق، وما أعظم الفرق بين من يظن نفسه الأقرب إلى الحق وبين من يظن أنه يحتكر الحق!! فالقول بأن هذه الجماعات تفكر "بمنطق الاحتكار والاستحواذ، فالدين لهم، والدنيا لهم، والجنة لهم، لا يشاركهم فيها إلا أفراد جماعتهم" قول يحمل اتهاما أعمق وأخطر من أن يلقى عبر كلام إنشائي انفعالي غير مدعوم بالأدلة العلمية المثبتة.
الثالث: أن الحركات الإسلامية فعلا تربط المسلم "بالأمور الاجتماعية: الحزب، والجماعة، والسوق، والمؤسسة، فتشده بذلك إلى أمور الدنيا أو الموجود" لا باعتبارها مرادفة للدين أو المنشود بل باعتبارها جزء من ذلك الدين كما تشده إلى المسجد وتربيه على الصدق والعدل والإحسان وتزكية النفس والسمو بها، وهذا الشمول فرق ما بين الحركات الإسلامية والعلمانية من جهة، وبين الحركات الإسلامية وبعض الحركات التربوية الصوفية من جهة أخرى.
ولقد تفاجأت من هذه الصوفية الرومانسية الوديعة الحالمة ممن كتب في الثورة والسلطة، وصار من الوارد عندي أن يرفع الكاتب اللبس بالجواب على سؤال هو: هل في الإسلام معان غير ربط المؤمن بالله، وبالجانب الروحي تتعلق بالدنيا؟
فإن قال: لا، قلنا ما تقول في آيات تحريم الربا وإيجاب القصاص وحد الزاني وأحاديث البيوع الفاسدة وتنصيب النبي صلى الله عليه وسلم للقضاة وتجنيد خلفائه للجنود وتنظيم بيت المال جباية وإنفاقا وغير ذلك مما هو من صميم تسيير الشأن العام وكثيرا مما أوردتم في بعض كتبكم؟ فإن اعترف -وهو معترف لا محالة- بأن كل تلك المجالات من صميم الإسلام، لم يبق انتقاد الجماعات الإسلامية الساعية إلى إقامة تلك المجالات كما تقام الصلوات انتقادا مقصديا وإنما يصير انتقادا وسائل والخلاف في ذلك واسع لا ينبغي أن يضيق به منتسب للفكر.
بعبارة أخرى إما أن نعتبر الإسلام تعاليم روحية لا تمت للشأن العام بصلة، وإما أن نعترف بأن الإسلام تدخل في سائر شؤون الدنيا ولتجسيد التصور الإسلامي في شؤون الحياة على الواقع لا مناص من العمل في صفوف جماعة تشترك في المقصد والوسائل لتحقيق ذلك، فالانفراديون الأنانيون المجانفون للفطرة التي فطر الله الانسان عليها من العمل في إطار الجماعة، هم من يرون العمل الجماعي اختزالا للوطن، وتبعية وخضوعا، بل سيرا في القطيع، في حين أن شؤون الحياة لا تصلح إلا بالعمل الجماعي المنظم المتمتع بآليات حسم الخلافات، وهو ما يملي على الفرد التنازل عن بعض الأنا في عقد مصغر من العقد الاجتماعي، وهما أمران (الوطن والتنظيم الجماعي) متداعمان، وهذه التجربة الحديثة في الغرب أثبتت أن التنظيمات الجماعية هي الآليات الطبيعية لالتئام مجموعة من المواطنين تتقارب رؤاهم في مجال ما للتعاون على خدمة الوطن، معتقدين أنهم الأخلص له، والأقدر على خدمته، والأدرى بما يصلحه، منسجمين مع قرار من اختاروهم قيادة وافق أو خالف القرار رؤاهم الشخصية، لكنهم في ذات الوقت يدركون أن الوطن ليس حكرا عليهم، وهكذ الجماعات الإسلامية ترى نفسها الأغير على الدين والأخلص له والأقدر على تجسيده، لكنها ترى كل المسلمين فيه شركاء.
الرابع: أن القول بأن "التدين السياسي يعلم الناس القسوة، وسوء الظن، والعداوة، ونهش أعراض الخلق أحياء وأمواتا" يستغرب صدوره من باحث يفترض أن يدرك أن كل هذه المعاني ليست مذمومة لذاتها بل لموقعها فقد نهى الله سبحانه وتعالى عن بعض الرأفة "ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله" وهذا قسوة قلب وحفلت كتب التاريخ والحديث بذم الأخيار للأخيار ووقوعهم في أعراضهم بل والدعاء عليهم، ومن ذلك قول عمر في صحيح البخاري قتله الله جوابا لمن قال قتلتم سعدا وهو سعد بن عبادة.
الخامس: أن في التدوينة ذما للفصل الوظيفي التخصصي الذي يعد تطورا مهما في فكر بعض الجماعات الإسلامية، وبدلا من اعتبار انكفاء السياسيين على السياسة في الحزب والمؤسسة وترك المسجد والجانب الروحي للدعاة والمربين فصلا وظيفيا واعيا اعتبرت التدوينة أن هذا المظهر لون من البعد عن الله فهل يرى الكاتب أن نتحدث عن الحزب والمؤسسة من المسجد؟
من صفحة الأستاذ محمدن ولد الرباني على الفيسبوك
للاطلاع على تدوينة الدكتور محمد المهدي البشير اضغط هنا