من حين لآخر يكتب الأستاذ والمفكر محمد يحظيه ولد ابريد الليل مقالات مطولة، تتعدد مواضيعها ويجمعها شيء واحد، هو النقل بالحرف من كتب أو أقاويل مفكرين يساريين مشهورين، كتبوا لأمة غير أمتنا، وعن واقع غير واقعنا، والأغرب أننا لا نتشابه ولا نتقاطع في أي مظهر من مناحي الحياة مع البيئة الاجتماعية، التي كانت المؤثر الأول في البنية الفكرية لهؤلاء: لا العادات ولا اللغة ولا الديانة ولا التاريخ، ولا حتى التراكمات الثقافية والسياسية والاقتصادية، ولا في البعد الجغرافي ليمكن إسقاط الحال على الحال.
يكتب الرجل مطولاته - في سكون وطمأنينة - على وَقْعِ أفكار هؤلاء، وكأن الأحداث الساخنة التي غيرت مجرى العالم منذ ما يربو على العقدين خارج التاريخ..
فهذا العالم المتحرك منذ "الغلاسنوست" و(تفكيك الاتحاد السوفييتي) حتى اليوم لا يعني للرجل أي شيء أو هو لا يراه.. الرجل لا يتأثر أو لا يؤمن بقانون التأثير أصلا.. وكأن الثابت لديه هو: أحداث نيكاراكوا وتشيلي وكوبا وغيرها مما يشاكلها.. والمتغير عنده - إن كان موجودا أصلا - هو: النزوع الشامل لدى الشعوب نحو الديمقراطية وحرية المبادرة وسيطرة عالم السوق...
ورغم استشهاداته الدائمة بأقوال الفيلسوف اليساري الإيطالي اغرامشي، فهو يهمل قوله: "أفراد المجتمع لا يتأثرون بمحيطهم وتاريخهم الحاضر فقط، بل يتأثرون بتصورات المجتمعات السابقة للعالم؛ لأن كل الرؤى تبقى على شكل ترسبات".
في مقاله الأخير يعرض الرجل تصوره القديم/ الجديد للعالم - أو على الأصح للعالم العربي - ووحدته وتكامله كما يراه هو (نعلم أن الرجل من فئة المثقفين العضويين)، محددا معايير الزعامة القطرية بأنها تحصل أولا بالاستيلاء على السلطة بالقوة (أي الدكتاتورية)، وثانيا بصناديق الاقتراع.. وهذه الأخيرة يعلق عليها قائلا: "... أي عن طريق المال داخل الديمقراطية"..
وبما أننا عبر التاريخ لم نر إلا الزعامة القطرية؛ فإننا نعتبر مفهومه للزعامة عاما لأننا لا يمكن أن نقيس على مجهول أو معدوم، لذلك فإن رأيه هذا يمثل هؤلاء المثقفين العضويين وموجه إليهم بالذات، فهم لا يرون غير أنفسهم ولا يؤمنون بتعدد الأفكار ولا تقابلها ولا و لا... فنظريتهم تقول: مثقفو المثقفين أو مثقفو النخبة..
مثقف المثقفين يقول.. والمثقفون يشرحون.. وهم بهذا يؤسسون لدكتاتورية أخرى قهرية فكرية، رغم تظاهرهم بمحاربة هذا النوع من الممارسات، والذين قرؤوا لغرامشي حول المفكر المثالي والسياسي الواقعي يعلمون هذا..
كما لا يضعون حسابا للبنية التكوينية للمجتمعات، رغم أن علم الاجتماع من ركائز العلوم السياسية، وهنا تظهر النظرة غير الواقعية في تصرفاتهم، والأفكار الطوباوية التي يتمظهرون بها ويملأون بها خيال البعض.
بكلامه عن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الأزهر وبابا مصر؛ يتجلى أن الرجل يعي جيدا مفهومه للزعامة وكيف تحصل، ويتجلى كذلك أنه لم يقرأ رسالة إلياس خوري إلى المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في ذكراه العاشرة.. يقول إلياس: "... يجب أن يدفعنا هذا إلى تحليل بنية حياتنا الثقافية، وأن نبدأ من نقد التحالف بين العسكرتاريا وأجزاء من النخب المثقفة"..
كما يتجلى بجلاء ووضوح مفهوم الزعامة على المستوى القومي لديه، وكيف كان يتم انقياد الجماهير طواعية حسب تجارب سابقة عند البعض.
في ذكره للدبلوماسي: الأخضر الإبراهيمي، يعيدنا محمد يحظيه لذكريات 1978 وسقوط أول دولة مدنية، وما تبع ذلك من تبادل للعسكر أو الزعامات كما يحلو له أن يقول، وكأنه يبوح بسر أو هي فلتة لسان...
والغريب في الأمر والمثير للتساؤل كيف نسي أو تناسى محمد يحظيه دورَ الإبراهيمي في سقوط بغداد؟ ودوره في سقوط سوريا؟ ثم ما الأيادي البيضاء لهذا الرجل في قضايا الأمة..؟
هنا تكمن قضية مثقف المثقفين الذي يحتاج أبدا إلى شراح..
يذكر الرجل مفتي القدس وأسقفها - وهما المناضلان العصيان - جنبا إلى جنب مع رئيس الأزهر وبابا مصر وكأنه لا يتابع موقف بابا مصر الجديد من إسرائيل، أما رئيس الأزهر فموقفه منها قديم..
نحن إذن أمام قضية مبهمة أو موقف جديد للرجل؛ يمس صميم القضية المجمع عليها (فلسطين)..
يقول إلياس خوري في رسالته لإدوارد سعيد: "كنتَ تقول إن على المثقف أن يقول الصدق والحقيقة للسلطة".. فهل معنى هذا أن الصدق والحقيقة بدآ من ما كتب أستاذنا محمد يحظيه؟
ويقول رايمون آرون - وهو مثقف عضوي -: "يتميز المثقف عن محترفي الثقافة بالوعي الجاد بواجب الالتزام بقول الحقيقة ونشرها بين الناس، في كل قضية تهم المجتمع أفرادا أو جماعات والدفاع عن الحق والعدل والحرية".
وليت شعري من يوالي الحكومات القائمة، التي يصفها بالموالية للغرب والتي يجب استبعادها حسب تعبيره..؟ من هم هؤلاء من انقلاب 1978 وحتى كتابة رسالة الأربعين لفرنسا 2008..؟ إذن من هم الموالون للغرب..؟ ومن وقف مع السيسي..؟
يتكلم الأستاذ عن المجتمع المدني قائلا: "المجتمع المدني وليس المنظمات القطرية..." شيء ملفت! المجتمع المدني عند اغرامشي - وهو أحد مراجع الأستاذ - هو: أجهزة الدولة الإيديولوجية..
الغرب وديمقراطيته نموذجان لإدارة الحياة بين الناس، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي... احترام الفرد في حياته الشخصية وتوجهه السياسي.. صناديق الاقتراع هي الْحَكَمُ في اختيار القائد وشكل القيادة.. حرية التفكير والانطلاق نحو النجاح..
وكون روسيا لم تكن أبدا عدوة للعرب يتنافى وشعر المتنبي.. لعل الأستاذ يقصد الاتحاد السوفييتي: "كوكتيل" الشعوب والأعراق والأجناس والإيديولوجيا..
حاولت قراءة مقال الأستاذ من خلال بعض آراء المفكرين اليساريين الذين يمثلون خلفيته الفكرية والإيديولوجية، ولم يمنعني الإعجاب والتقدير له من مناقشة بعض الآراء الواردة في المقال، انطلاقا من أن الفكرولوجيا أو علم الأفكار مجال خارج ومستقل عن الذات، وإن كان ذلك لا ينفى الارتباط والتماس بها نوعا ما، ولا أدرى هل وفقت أم لا..؟
المثير في الأستاذ: أن منظومته الفكرية تطبعها أفكار اليسار بلونها المحض إن لم أقل الشيوعية، والمعروف عنه كونه عروبيا، فهل المدونة الفكرية لهؤلاء العروبيين منعدمة، أم إنها تتماهى حد الذوبان في الفكر الشيوعي؟ من جهة أخرى هل شغلت الأستاذ همومه العضوية عن الشأن الوطني؟ بمعنى أقرب: هل هو مثقف موريتاني؟
في تعريفه للمثقف يقول اكلود ليفي شتراوس: لكل ثقافة منطقها الخاص الذي هو انعكاس في الزمان والمكان لبنية العقل الإنساني، ويقول غي روشيه: الثقافة منظومة رمزية للتواصل بين أفراد الجماعة الاجتماعية كيفما كان حجمها، مثلها في ذلك مثل أحد مكوناتها وهو: اللغة..
في كتابات الرجل - وهذا رأيي الخاص - نجد غربة في الزمان والمكان، وغربة في الثقافة والواقع والمجتمع لا تقل عن ذلك، فما السبب وما الدافع ..؟
رغم أن الرجل كان قريبا من جميع زعماء العسكر (ولد السالك وولد هيداله وولد الطايع وولد عبد العزيز.. صحيح أنه لم يتقرب من المدنيين ولم يقربوه).. رغم ذلك بقي يعيش هذه الغربة الذهنية المسيطرة ظلالُها دوما على كتاباته..
*باحث موريتاني، مقيم أوروبا.