في سفر سابق إلى تركيا - جمعني مع بعض الزملاء - استطعتُ أن أخبرهم - في اليوم الثاني لوصولنا - بأهم الشّعارات التي يرفعها أبرز المرشحين في تلك الدولة التي كنا نجهل لغتَها! سألوني باندهاش: كيف عرفتَ؟ أجبتُ: إن الصحفي يرى ويلاحظ ما لا يلاحظه الآخرون ولا ينتبهون له.. والدليل على ذلك أنكم تمرون يوميا على هذه الشعارات المعلقة في الشوارع؛ فلا تعيرونها التفاتا! لكنّ الأمرَ في السعودية لم يكن يحتاج إلى فِطْنَةِ الصحفي، بل كان يحتاج إلى من يراقبه ويعاينه عن قرب، كما فعلتُ قبل يومين!
رغم أنني خرجتُ بانطباع حَسَنٍ عن مناورات "رعد الشمال"، ورغم أنني أعتقد جازما أن رسائلَها القويةَ وصلت بوضوح إلى حيث ينبغي أن تصل.. رغم ذلك فإنني أعتقد أنها ليستْ هي كُلُّ ما تراهن عليه السعودية. ما يَحِقُّ للسعودية حقا أن تراهن عليه هو شبابها الرائع، الذي تعرفتُ عليه عن قرب خلال الأيام القليلة الماضية. ليس من قبيل المبالغة أن أقول إن هذا الشبابَ سحرني وأثار إعجابي طيلة الأيام التي قضيتها في الرياض.. لقد تعددت المواطنُ التي راقبتُ فيها هذا الشباب بدقة واهتمام. راقبته في السفارة السعودية بنواكشوط وأنا أستصدر تأشيرة الدخول.. وراقبته وهو يستقبلنا في مطار الملك خالد الدولي في وقت متأخر من الليل مبتسما مرحبا، لا يبدو عليه ضجر ولا سآمة. وراقبته ونحن نغدو ونروح إلى حفر الباطن لتغطية مناورات "رعد الشمال". وراقبته أخيرا في معرض الرياض الدولي للكتاب.. وما أدراك ما معرض الرياض؟
رأيتُ الإقبالَ المنقطع النظير لهذا الشباب الرائع على معرض الرياض الدولي، والإقبالُ على الكتب والحفاوةُ بها؛ مؤشرٌ لا يكذب على سعة الأفق وحيوية الفكر. لاحظتُ بسرور ازدحامَهم على أجنحة دور النشر التي عرف عنها جودةُ منشوراتِها شكلا ومضمونا، واهتمامُها بمعالجة الإشكالات الحقيقية، واعتناؤها بنشر الكتب التي تجيب على الأسئلة الجادة.
تحدثت معهم فأدهشني تعلقهم بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله. إنهم يعرفون له مكانته وقدره.. وعندما يتحدثون عنه يتحدثون بِشَغَفٍ عن ملك مثقف.. بعيد النظر.. يملك تاريخا حافلا بالتحديث العمراني والفكري في الرياض خاصة والسعودية عامة. كان تَقَابُلُ معرض الرياض الدولي للكتاب مع الأشغال المتقدمة في مشروع "قطار الرياض"؛ لوحة رمزية بالغةَ الدلالة على مسيرة التحديث العمراني والفكري التي يقودها الملك سلمان منذ أيام توليه لإمارة الرياض.
عاينتُ بابتهاجٍ هؤلاء الشباب يضحك في وجه البعض يُرَبِّتُ على كتف من يختلف معه في توجهه، وعندما يتعلق الأمر بالوطن ووحدته وأمنه فإنهم يتحدثون لغةً واحدة، تكاد تتطابق. يحدثني أحدهم قائلا: "نحن نرى أن تعدد الرؤى والمشارب ظاهرة صحية.. الأهم في هذا السياق هو أن هذا التعدد والتباين والاختلاف في الرؤى والأفكار والاتجاهات يتفق على القضية الأم والأهم؛ وهي وحدتنا الوطنية العميقة، والحفاظ على بنية نسيجنا الوطني المتين.. وهذا ولله الحمد متحقق بصورة كاملة.. ما عدا هذا فالأمر كما أسلفتُ ظاهرة صحية سليمة لأن التنوع ثراء".
لم يبدُ لي رجالُ وزارةِ الإعلام ومسؤولو العلاقاتِ العامة في الجيش والحرس الملكي - الذين كُلِّفُوا باستقبالنا وضيافتنا - مجردَ موظفين يؤدون عملا رسميا.
بدا لي هؤلاء أصحابَ هدفٍ يسعون - في إصرار - إلى تحقيقه.. كان هَمُّهُم أن يأخذ الضيوف انطباعًا حسنا عن وطنهم، يسألون في لهفة: كيف وجدتَ المناورات؟ كيف وجدتَ معرض الرياض للكتاب؟ كيف وجدتَ المملكة؟ أرجو أن تكون مملكتنا الحبيبة قد أعجبتك؟
هذه عبارات لم أتصرف في منطوقها مطلقا، وإن كنتُ لم أفلح في التعبير عن الحرارة والصدق في لهجة أصحابها!
أجدني غير مَلُومٍ إن بشرت الشعوب الإسلامية والعربية - وهي بشارة تهمها من غير شك - أن السعودية بخير، وأنه لا خوف عليها ما دامت تنجب مثل هذا الشباب ذي الخلق النبيل، الشَّغُوف بالقراءة، الحامل لِهَمِّ وطنه، الْحَفِيِّ بملكه الوفي.
- كاتب صحفي موريتاني (موفد صحيفة "مراسلون الإلكترونية" إلى مناورات "رعد الشمال")
- لمطالعة المقال من المصدر هنا