لاحظ الدكتور طه حسين، في مقدمة ماتعة؛ كتبها بين يدي "كتاب نقد النثر" لقدامةَ بن جعفر؛ أن المؤلف "أنفق مجهودا طريفا لِرَدِّ سائرِ الفنون الشعرية إلى المديح والهجاء"، فالرثاءُ والغزل والتشبيب بالنساء عنده من المديح، ومعاتبةُ الأصدقاء - مثلا - من الهجاء، إلا أن الشاعرَ في كل ذلك يراعي حالَ المخاطب، ويختار من الألفاظ والمعاني ما يناسب المقام.
ولعل ذلك هو ما استقر في وجدان العربي قديما؛ قبل تدوينِ العلوم ونُضْجِ المصطلحات..
ومما يصدق هذه الدعوى؛ ما يحكى من أن أعرابيا سمع من يقرأ قوله تعالى: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ...) فانتفض، فلما وصل القارئ إلى قوله تعالى: (وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ...) قال منشرحا: الله أكبر.. هجانا ثم مدحنا!
ولأن "خلفيةَ الموريتانيين شعريةٌ" كما قال أحدهم ذات مرة؛ فهم على مذهب جدِّهم الأعرابي.. انتفضوا غضبا وهم يقرؤون الملاحظات التي دونها الأنثروبولوجيون الأوروبيون، والتحليلات السياسية لمحمد حسنين هيكل، ومشاهدات الصحفية هويدا طه في بلادهم، وصفقوا ابتهاجا حين قرؤوا ما كتبه الأديب اللبناني محمد يوسف مقلد، وما سطره الدكتور طه الحاجري، واستطلاعاتٍ عدة أجرتها مجلة "العربي" الكويتية عنها...
كَذَلِكَ كَانَ جَدُّ الْقَوْمِ قَبْلِي ** وَإِنِّي مِنْ غزيةَ فَهْوَ جَدِّي
وتبعا لهذه "الخلفية الشعرية" كان حِجَاجُ الموريتانيين خطابيا شعريا في الغالب، فإن أشار أحد إلى عدم نظافة شوارعهم وبيوتهم؛ أجابوه: لسنا ممن عَنَاهُمُ الشاعر بقوله:
بِيضُ الْمَطَابِخِ لاَ تَشْكُو إِمَاؤُهُمُ ** طَبْخَ الْقُدُورِ وَلاَ غَسْلَ الْمَنَادِيلِ
وإن عَيَّرَهُمْ بقلة الْعَدَدِ والْعُدّةِ؛ رأوا أنهم أَحَقُّ بقول السموأل:
تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا ** فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلُ
وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا ** عَزِيزٌ وَجَارُ الأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ
وعلى سنة أبي فراس الحمداني يقولون:
وَنَحْنُ أُنَاسٌ لاَ تَوَسُّطَ بَيْنَنَا ** لَنَا الصَّدْرُ دُونَ الْعَالَمِينَ أَوِ الْقَبْرُ
يرى القوم لأنفسهم فضلا ومكانة، لم ينل منهما بُعْدُ الشُّقَّةِ ولا تَأَخُّرُ اعترافِ العرب بهم..
وفي قصة سائرة؛ سئل موريتاني، في أحد المطارات العربية: ألستَ عربيا؟ فأجاب: لا، أنا بيظاني (نسبة إلى البيظان؛ الفئة الناطقة بالعربية في موريتانيا)..
ثم أردف حين حاولوا إقناعه بأن البيظان عرب: لا، البيظان شيء آخر فوق العرب!
وقد اعتقد الموريتانيون دائما أنهم أولى الناس بأسلافهم العرب.. فهم أعلم الناس بأنسابهم وأيامهم وأشعارهم، يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، ويعتقدون أنه لا يوجد من يستطيع سَرْدَ نَسَبِهِ متصلا؛ حتى ينتهي به إلى بطن من البطون العربية المشهورة غيرهم..
وعلى خلاف ما يظن البعض؛ لم يعان هؤلاء من عقدة "الطرف" أو "لعنة الجغرافيا" كما يحلو للبعض أن يسميها.. فقد حاجج شاعرهم قائلا:
إِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَاتٌ أَنَّنَا عَرَبٌ ** فَفِي اللِّسَانِ بَيَانٌ أَنَّنَا عَرَبُ
فَالطِّفْلُ نَفْطِمُهُ قُسَّ بْنَ سَاعِدَةٍ ** مُنَقِّحًا دُرَرًا أَصْدَافُهَا ذَهَبُ
وَلَمْ يَزَلْ مُورِقُ الْقَيْصُومِ يَمْضَغُهُ ** وَلَيْسَ يُمْضَغُ فِينَا اللَّوْزُ وَالْعِنَبُ
لَوْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُ هَذَا عِنْدَنَا نَسَبٌ ** نُدْلِي بِهِ لَكَفَانَا ذَلِكَ النَّسَبُ
بل إن الشيخ محمد المامي رأى أن هذه البلادَ اختيارٌ إلهي، شاء اللهُ أن تتكرر فيها نسخةٌ أخرى من أرض الحجاز وأهلها!
بِلاَدُ الْعَامِرِيِّ لَنَا اصْطَفَاهَا ** فَبَارَكَ رَبُّهُ فِيهَا وَفِينَا
فَصَارَتْ فِي جَزِيرَتِهَا حِجَازًا ** وَنَحْنُ لَهَا مَعَدٌّ آخَرُونَا
ولن يعترض أحد على أن "البادية العالمة" لم توجد قبلهم، فأضافوا إلى حسنِها الفطري غير المجلوب حُسْنًا آخرَ..
وعلى الأرجح يعترف الجميع بأستاذية محمد محمود ولد اتلاميد، الذي تفرد باللغة والأنساب في المشرق حين قدم إليه، وصحح القاموس؛ فكانت نسختُه منه أجودَ النسخ وأدقها..
وكان أشهرُ جدلٍ لغوي شَبَّ في زمنه شنقيطيا خالصا، طرفاه هو وابنُ بلده أحمد بن الأمين الشنقيطي صاحب الوسيط في تراجم أدباء شنقيط.
وللموريتانيين - إن شاؤوا - أن ينازعوا في ريادة البارودي وشوقي للشعر الكلاسيكي، فقد سبقهما ولد اتلاميد إلى تجديد القصيدة التقليدية، والعُهدة في ذلك على المستشرق الروسي اغناطيوس كراتشكوفسكي.
وعلى ذكر الشعر؛ فلا مناص من أن نذكر أن الاطلاع المتأخر على المدونة الشعرية الموريتانية؛ أجبر نقادَ الأدب ومؤرخيه على مراجعة آرائهم في "التحقيب الأدبي"..
وأغلب الظن أنهم سيسارعون يوما؛ مدعين أنهم كادوا يسبقون المصريين بمائة عام إلى الحصول على جائزة "نوبل"، إن صح أن ملكَ السويد "أوسكار" دعا ولد اتلاميد لاستلامها؛ تقديرا له على جهوده في خدمة العربية وآدابها.
وكان الشيخ آب ولد اخطور - صاحب أضواء البيان - أولَ من بعث الدرسَ المنطقي في الحجازِ وَنَجْدٍ، بعد أن نبذه هؤلاء طويلا وأساؤوا به الظن، فقد درسه لطلابه وكتب لهم فيه كتابَه المشهور "آداب البحث والمناظرة"..
بل لهؤلاء أن يقولوا - مطمئنين - إن الشيخ آب هو رائد النهضة العلمية الحديثة في الحجاز ونجد، ففضلا عن إحيائه للدرس المنطقي، فقد مهد الدرسَ الأصولي وَجَدَّدَهُ، وَبَثَّ علوما كانت مهملة قبله، منها أنسابُ العرب وأيامُها، باعتراف تلميذه بكر بن عبد الله أبو زيد، عضو هيئة كبار العلماء.
وربما وجد هؤلاء حرجا في صدورهم، وهم يرون أنهم حرموا من شرف ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، كما أثنى على إخوانهم في اليمن: "الإيمانُ يماني والحكمة يمانية"، وكما وصف جنودَ مصر بأنهم "خير أجناد الأرض"، وفَضَّلَ الشامَ في أحاديث كثيرة.
لكن آليات التأويل شرحت صدورهم أخيرا، حين جزم الشيخ محمد المامي أنهم المعنيون بالحديث الذي رواه مسلم: "لا يزال أهلُ الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة"، معللا ذلك بأنهم لا يخرجون عن المعاني الثلاثة التي قررها العلماء لمعنى "الغرب":
فإما أن يكون معناه الجهة، أي عكس الشرق، وهم كذلك.
وإما أن يكون معناه الحدة والشوكة، وتلك صفتهم.
أو يكون معناه العرب، لأن "الغربَ" في اللغة: الدلوُ العظيمة التي تصنع من جلد البقر للسانية، وذلك شأن العرب وحدهم، ولم يبق - ممن يسقي بها الآن - غيرُ الموريتانيين.
ويزعم هؤلاء - في أسى - أن إخوانهم المشارقة؛ غَيَّبُوا عمدا جزءا مهما من تاريخ رجالاتهم الحديث؛ من قبيل تلك القصة التي بقيت متداولة على الشفاه، دون أن تجد سبيلا إلى التدوين.
ومفادها أن محمد الأمين بن محمد الخضر بن مايابى، قاضي القضاة في الأردن وصاحب "كوثر المعاني الدراري"؛ ثبت إلى جانب الملك عبد الله الأول بن الحسين حين اغتيل في مثل هذه الأيام من سنة 1951 بالقدس الشريف، بعد أن ولى الوزراء والضباط ورجال الدولة على أعقابهم، فَسَجَّاهُ ببردته، واستمر واقفا بجواره إلى أن عاد الفارون!
ورغم أسبابِ الاتصال بالسماء، التي اتفقت لهؤلاء، بخروج آلاف الأولياء والصالحين في بلادهم؛ فإن أطرفَ ما ادَّعَوْهُ في هذا الباب؛ أن الكعبةَ المشرفة كادت توضع في شنقيطَ (المدينة)، لولا أن امرأةً رفعت صوتَها، فَحَرَمَتْ قومَها بذلك من شرفٍ باذخ!
أحمد سالم ولد باب