ألحَّ عليَّ الكثيرون بإعادة الحديث عن موضوع قطع العلاقات مع إسرائيل بعد أن بتره الإنقطاع العام للكهرباء قبل ليلتين فتوقف البث التلفزي المباشر لأول حلقة من البرنامج الشيق الذي نظمته التلفزة الوطنية بالتعاون مع هيئة انواكشوط الحضرية و يديره د.الشيخ سيدي عبد الله و يتخذ له عنوان " ليالي العرب".و بالمناسبة علق شيخُنا الشيخ علي الرضا على تناول هذا الموضوع في ذلك البرنامج فقال:" ليس غريبا على ليالي العرب أن يتم الحديث عفويا عن قطق العلاقات مع دولة اسرائيل! "
كنت قد انتهزت ليلتئذ فرصة وجودنا في فضاء غير رسمي و تحللي من قيد المسؤولية الرسمية و وجود العهدة على الصحفي السائل ،فتناولت حدثا يتعين الحديث عنه في ظرف عربي كهذا الذي نعيشه الآن. و للأسف انقطع التيار الكهربائي و بتر الحديث.
و استجابةً لإلحاح العديد من الناس من كل الأطياف ها أنا أعود إلى الموضوع فأتناوله في محاور أربعة هي:
مبدأ اتخاذ القرار أصلا و ما ترتب عنه من إغلاق السفارة الموريتانية في تل أبيب و ما أعقب ذلك من إغلاق السفارة الإسرائيلية في انواكشوط و أخيرا ما واكب ذلك الحدث من ضغوط دولية، علما بأن سأبقى في حدود الضوابط السياسية والديبلوماسية و الأخلاقية الضرورية.
أولا : اتخاذ القرار أصلا
• بدأتهذه العلاقات أول مرة سنة 1996 في شكل مكتب تؤويه سفارة إسبانيا
• في سنة 1999 أصبحت سفارة بتوقيع وزيري خارجية الدولتين وبرعاية وزيرة الخارجية الأمريكية ٱنذاك مادلين أولبرايتْ
• خلال تلك الفترة جرى تبادل الزيارات بين وزراء الخارجية في عاصمتيْ البلدين والتقى الرئيس الموريتاني وزير خارجية إسرائيل في نواكشوط وفي جنوب إفريقيا على هامش مؤتمر الأرض
• اقتصر التعاون على نشاطات محدودة بدأت بملتقى علمي في كلية العلوم وبعثة طبية في جراحة العيون وحضور ملتقى حول الواحات في آدرار وتقديم دعم في المجال وفي مجال الخضروات وانتهت بتمويل مركز الأمراض السرطانية دون أن يكتمل.
• طوال تلك الفترة كانت هنالك لجنة للتطبيع وأخرى لمناهضة الاختراق الصهيوني
• وخلال سنة 2008 كانت هنالك ثلاثة أحداث بارزة هي : إنشاء لجنة مشتركة من أحزاب الموالاة والمعارضة يرأسها فضيلة عثمان بن الشيخ أبي المعالي تطالب بقطع العلاقات، وطالب رئيس البرلمان مسعود بقطع العلاقات وأثناء الحملة الانتخابية 2007 كان بعض المترشحين وعد بالقطع وبعضهم تعهد بعرض الموضوع على التشاور. إلا أن تلك الإرادة الشعبية العارمة لم تصادف لدى الأحكام المتعاقبة طوال تلك الحقبة الممتدة على أربعة عشرة سنة الإرادة السياسية اللازمة فبقيت هذه العلاقات كابوسا جاثما على قلوب الجميع.
• ثم جاء التصحيح في 06 أغشت 2008 فلم تمض إلا خمسة أشهر فقط حتى تم استدعاء السفير الموريتاني في تلأبيب وذلك يوم 05 يناير 2009.
ما كنت أصدق أذنيَّ صباح ذلك اليوم الخامس من يناير سنة 2009 عندما اتصلت بي هاتفيا المديرة المساعدة للديوان في الرئاسة الوزيرة الأمينة العامة للحكومة حاليا و ربطتْ الإتصال مباشرة بيني و بين رئيس الدولة فأصدر إلي تعليماته السامية باستدعاء السفير الموريتاني في تل أبيب السيد أحمدْ بن تكدِّي على جناح السرعة على أن تعوَّض له تذاكر السفر بعد وصوله انواكشوط! هو حظ كبير جدا خوَّلني إياه غياب وزير الخارجية و التعاون آنذاك د.محمد محمود ولد محمدُّ فبادرت إلى تنفيذ التعليمات التي فهمت من سياقها أنها تحمل في طياتها تمهيدا لأمر ما أتصوره بسهولة و لكن ما كنت أتوقع إمكانية حصوله في تلك الفترة السياسية الحرجة من تاريخ البلاد.!
• تزامن ذلك الإستدعاء الذي يعني ما يعنيه في العرف الديبلوماسي العدوان الإسرائيلي المشهود آنذاك على قطاع غزة فدعت قطر إلى قمة عربية سميت قمة غزة. وفي أعقاب ذلك المؤتمر المنعقد نهاية مارس، فوجيء الرأي العام الدولي و الوطني ببيان القمة الذي ينوه فيه بقرار موريتانيا وقطر إنهاء علاقاتهما التجارية والدبلوماسية مع دولة إسرائيل !
• وتنفيذا لذلك القرار بادرت موريتانيا إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل بموجب مذكرة صدرت بتاريخ 16 يناير 2009 تم التمهيد لها عشرة أيام قبل ذلك باستدعاء السفير الموريتاني هناك.
• استلم السفير الإسرائيلي في نواكشوط Miki ARBELتلك المذكرة زوال اليوم الموالي أي يوم 17 يناير 2008.
• وفي اليوم التالي أي يوم 18 صدرت التعليمات إلى القائم بأعمال سفارة موريتانيا في تل أبيب مركبة من ثلاثة تعليمات هي :
o إغلاق السفارة
o عودة الموظفين في السفارة إلى انواكشوط
o شحن جميع محتويات المكاتب والمنازل إلى انواكشوط بأقصى سرعة
ثانيا : إجراءات إغلاق السفارة في تل أبيب
• لم ينقض أسبوع على تلقي هذه التعليمات حتى تمت كافة الإجراءات الإدارية والمالية المتعلقة بإغلاق السفارة وأصبحت محتوياتها معبأة داخل أربع حاويات أخذت مكانها في سفينة تمخر بها عباب البحر في اتجاه ميناء انواكشوط المستقل وهو خبر تكتمنا عليه ما أمكننا ذلك حتى أعلنه فخامة رئيس الدولة في مجمع طلابي حاشد في جامعة انواكشوط.
• لم يكن الأمر سهلا لتعدد الإجراءات ولكن الفريق أنجز هذه المهمة بدقة كبيرة وبالسرعة المطلوبة مستعينا بخدمات محام مختص لضبط الإجراءات الإدارية والقانونية وتتضمن هذه الإجراءات ما يلي :
o إلغاء جميع العقود المتعلقة بالإيجار والخدمات والعمال الدائمين وصرف المستحقات المترتبة عن ذلك
o تسديد جميع المستحقات المتعلقة بالتسيير
o تسليم السلطات المختصة في وزارة الخارجية الإسرائيلية بعض المقتنيات الخاصة مثل البطاقات الدبلوماسية ورخص المرور ولوحات السيارات والأقنعة الواقية من الغاز Les masques à gaz و على ذكر الأقنعة تذكرتُ قول المرحوم التاه بن سيدي بن محمذ بن الأمانه ذات يوم:
أهلا و سهلا بضرْباتٍ سمعتُ بها == أصابتْ القلْبَ مُسيا من تلابيبِ
و ها أنا أرتجي أخرى مبشِّرةً == يَخُشى البُغاةُ بها أخْذَ التلابيبِ!
• ويجدر التذكير هنا بأن كل هذه المصروفات تم تغطيتها بجدارة من فائض التسيير من ميزانية السفارة لسنة 2008 فقط بل بقي منه فائض تسلمه المحاسب في صك مؤكد تم دفعه في الخزينة العامة للدولة. و كان مهندس العملية آنذاك هو محاسب السفارة و الوزير الحالي جا ملَلْ.
• هذا وإن أنس لا أنس تلك الليلة التي كنت فيها في مقدمة الموكب الصاخب المتضمن تلك الحاويات الأربع بعد وصولها إلى ميناء انواكشوط إلى جانب أفراد من الجمارك متجهين بها حوالي منتصف الليل إلى مباني وزارة الخارجية حيث تم إيداعها مؤقتا قبل تسليمها الأركان الخاصة لرئاسة الجمهورية.
• كنت ليلتئذ في غمرة نشوة وطنية عارمة فأنشأت وأنشدت :
أيا وَطَنُ الطودُ المَنيعُ المُظَفَّر== تساعدك الأقدار والله أقدر
لئِنْ سامك الأعداء سوءا بغيظهم == وجاؤوا بمكر محضر ليس يحصر
فأبشر سيكفيك المهيمن مكرهم == ألا إن مكر الله أقوى وأكبر!
• وأروي هنا نكتة : لما وصلنا إلى مستوى كتيبة المدرعات BB همس أحد الأفراد في أذني قائلا : أبهذا الموكب المجلجل المدوي أنتم سائرون فعلا في هذا الوقت المتأخر من الليل صوب مباني وزارة الداخلية الواقعة بمحاذات الرئاسة وبازيب؟ قلت نعم! فقال : C’est très grave قلت بالحسانية : هذ بعد الكلمه طايب افذون ألاهِ كولت اله السفير سيدن ولد الشيخ الطالب بويَ رحمه الله!نزل مرة و زوجتَه حَبِي بنت انجايْ بُسكُ ضيفيْن على أسرة لا تربطهما بها علاقة سابقة و بعد انتهاء مراسيم السلام قدم رب المنزل إلى ضيفه ربة البيت قائلا:أقدم إليك زوجتي حَبي.فقال سيدنَ عفويا:هاذَ بعْد لَسْم طايبْ افوذْنِ!!
و سيكتمل لدى القاريء معنى ما قلته لاحقا عندما نعرض لحديثنا مع السفير الإسرائيلي!
ثالثا : إغلاق السفارة في انواكشوط
• بعد أن اكتمل تنفيذ ما ترتب عن قرار قطع العلاقات من إغلاق السفارة الموريتانية في تل أبيب ، لم نر للسفير الإسرائيلي في نواكشوط أي تجاوب مع رسالتنا التي طلبنا منه في نهايتها أن يتخذ الإجراءات المترتبة عن ذلك القرار.
• تلقيت التعليمات باستدعائه فجاءني في المكتب يوم فاتح مارس 2009 وبعد العبارات الدبلوماسية الاعتيادية استفسرته عما اتخذه من إجراء تنفيذا لطلبنا الوارد في المذكرة. فقال بكل عفوية بالتشاور مع زملائي سفراء الاتحاد الأوروبي اتخذت ثلاثة إجراءات :
o قلصنا مواقيت الدوام الرسمي بالنصف
o وقطعنا كل صلة مع الإدارة بما في ذلك وزارة الصحة التي تربطنا بها عمل مركز الأيكولويجا
o أحجمنا عن أي حديث مع الإعلام بالرغم من إلحاحه
• استغربت جوابه وقلت له : أما نحن فقد أغلقنا سفارتنا لديكم وغادرنا دولة إسرائيل وكنا نتوقع منكم بالمقابل من باب مفهوم المعاملة بالمثل أن تفعلوا نفس الشيء خاصة أن وجودكم على التراب الموريتاني أصبح يمثل مصدر إحراج للجميع! عندها وكأنه لم يكن يتوقع مثل هذا الخطاب قال مندهشا بصوت مبحوح : هذا خطير جدا! C’est très grave
• لم اكترث لجوابه وإنما واصلت أقول : إنه مجرد تنفيذ لقرار القمة العربية المجتمعة في الدوحة حول غزة ونحن على يقين من أننا وأنتم سنكسب من خلاله ما هو أهم من الأمور الثنائية لأن من شأنه أن يساهم في تسوية النزاع العربي الإسرائيلي. إن قطع علاقاتنا اليوم تماما كما كان إبرامها من ذي قبل كلاهما مبني على تقدير كونه مساهمةجادة في تسوية هذا النزاع الشائك !
• وبعد أخذ ورد خلص الدبلوماسي الإسرائيلي إلى القول : تعلمون أن ليست لنا حكومة الآن بعد الانتخابات وسأبلغ حكومتي وأوافيكم بالرد ولكن لست أدري متى يكون ذلك. فقلت له : Le plutôt serait le mieux.
• وابتداء من ذلك التاريخ تلقينا التعليمات بمتابعة الموضوع عن كثب حتى تم إغلاق السفارة ورحيل عمالها.
ولعل أطرف تعبير عن ذلك المشهد هو ما قاله احد المواطنين وهو يشاهد جرافة جاء بها الشعب في غمرة الفرح يكنس بها بعض مخلفات السفارة إذا قال : اعتدنا أن نرى جرافات إسرائيلية تهدم مباني عربية ولكن هذه هي أول مرة نشاهد فيها جرافات عربية تحطم رواسب من مباني إسرائيلية على أرض عربية طاهرة.
رابعا : التداعيات الدولية لقرار قطع العلاقات مع إسرائيل
• لم تخف الولايات المتحدة الأمريكية استياءها من هذا القرار، ولم تبد دول الاتحاد الأوروبي استياءها منه على مستوى وزارة الخارجية الموريتانية على الأقل!
• أما دول الاتحاد الأوربي فكنا نلمس من بعضها نوعا من الاستياء مثل ما نم به السفير الإسرائيلي.
• وأما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فلم ينفلق صبحاليوم الموالي أي يوم 02 مارس 2009 حتى طرق باب الوزارة القائم بأعمال السفارة الأمريكية Denis Henkinsمباشرة بعد لقاء السفير الإسرائيلي وقال لي بعد العبارات الدبلوماسية المعتادة ما ألخصه في النقاط التالية :
o إن علاقاتكم مع دولة إسرائيل ليست حاسمة في علاقاتنا معكم وإن كانت تستأثر باهتمام الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة بالنسبة للكونكرس الأمريكي.
o إن الولايات المتحدة تعتبر أنكم تريدون من خلال هذا القرار أن تمارسوا على الحكومة الأمريكية ضغطا من أجل أن تتراجع عن موقفها من النظام الحالي
o إنكم باتخاذكم هذا القرار وبتوجهاتكم الجديدة في اتجاه إيران توحون بانضمامكم السافر إلى فريق الممانعة إلى جانب إيران وسوريا وحماس.
« Cette décision, et votre nouvelle approche diplomatique avec l’Iran prête à croire que vous vous ranger dans le camp des durs constitué par la Syrie, l’Iran et le Hamas. »
o إن قراركم هذا ليس صائبا من الناحية الاستراتيجية للاعتبارات التالية :
إن من شأنه أن يؤثر سلبا على الموقف المتساهل مع النظام الحالي والذي تنتهجه كل من اسبانيا وألمانيا وذلك بفعل تأثير اللوبي اليهودي ذي النفوذ القوي في تينك الدولتين.
إن جميع الأحكام الموريتانية المتعاقبة حافظت على مواصلة هذه العلاقات نظرا لأهميتها الاستراتيجية إذ بفضلها اكتسبت موريتانيا مصداقية دبلوماسية خولتها المشاركة في مشاورات دولية تتعلق بالسلم في الشرق الأوسط مثل مشاورات Anapolis في الولايات المتحدة 2008 إلخ...
• وانطلاقا من الموقف الموريتاني الصريح في هذا الموضوع قلت للدبلوماسي الأمريكي :
o أما بالنسبة لعلاقات الدولتين فلا أخالها تتأثر بما ذكرتم من أنه ليس حاسما في تحديدها.
o و أما بخصوص قرارنا قطع العلاقات مع اسرائيل فهو قرار سيادي لم تنفرد به موريتانيا وإنما اتخذته تنفيذا لقرار عربي جماعي اتخذ علنا في قمة عربية مشهودة. وقد بيناه على أساس دراسة أفضت إلى التقدير بأنه يخدم فضلا عن مصلحتنا الوطنية مصلحة السلم بين فلسطين ودولة إسرائيل ولازلنا نعتقد ذلك إلى أن يثبت العكس.
• وبعد أخذ ورد هدأ روع الدبلوماسي الأمريكي وقال : مهما يكن من أمر وبالرغم من خلافاتنا فإنني أهنئ نفسي على أن اتصالنا ظل مستمرا، وعلاقاتنا سلمية والتأشيرات تمنح بصورة انسيابية من كلا الجانبين والسفارة مؤمنة وكلما طلبنا المساعدة توفر لنابسخاء في الوقت المناسب وخير مصداق على ذلك تدخل الحماية المدنية بعد الحريق الأخير الذي شب في بعض المباني في محيط السفارة.
ملاحظة : عندما أبلغت فحوى هذه المقابلة إلى فخامة رئيس الجمهورية قال : أهكذا يَجرُؤون على تهديدنا؟! كرَّرها مرات!
من صفحة الإداري السابق محمدن ولد سيدي الملقب بدن على الفيس بوك