القاص الأردني جعفر العقيلي يصدر كتابا يوثق حياة رجل قدم من بلاد المغرب العربي وأسهم بعلمه وأدواره المختلفة في خدمة المملكة منذ عهد الإمارة.
المصدر ميدل ايست أونلاين
يضيء كتاب جديد صدر قبل أيام للكاتب جعفر العقيلي، جوانب في حياة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وسـيرته العملية ومنجزاته، مبيناً الأصول والمنابع التي شكّلت وعيه وبلورت ثقافته وجعلته من الشخصيات الاستثنائية التي أثّرت في تاريخ الأمة.
ويؤكد العقيلي الذي يحمل كتابه عنوان "محمد الأمين مايأبى الشنقيطي.. العالِم المربّي والسياسي الناشط والدبلوماسي المصلِح"، أن الشنقيطي (1905-1990) اضطلع بدور وطنيّ كبير -في الأردن- على مدى عقود، في مجالات عدّة تقلّدَ فيها مناصب رفيعة؛ في الإفتاء والقضاء، والمعارف (التربية والتعليم)، والسلك الدبلوماسي، إلى جانب جهوده في إعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، وترؤسه الهيئة العلمية الإسلامية، وإسهامه في مشروع وحدة الضفتين، إذ كان الشنقيطي في كل محطة في مسيرته، أو مهمّة يُختار لها أو منصب يُسنَد إليه، يَطبع بصمةً تنمّ عن رؤية استشرافية تضعُ مصلحة الأمة والصالحَ العام ومنفعة الناس وتطوير الأداء المؤسسي في سلّم الأولويات.
ويوضح العقيلي في كتابه الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون" (2016) أن الشيخ محمّد الأمين طبّق هذه الرؤية المهمومة بالنهوض بالبلاد عملياً وعلى أرض الواقع، من خلال تطوير أنظمة وقوانين كان معمولاً بها، والاجتهاد في استحداث أخرى تواكب احتياجات المجتمع الناهض.
ويستعرض العقيلي في دراسته، ما عُرف عن الشيخ من حبّه للعلم، وثقافته الواسعة وخلُقه الرفيع، ومثابرته في العمل، وإدراكه الخطرَ الذي يتهدّد الدولةَ الشابة التي كانت ما زالت تخطّ طريقَها وتشكّل كيانها المستقل؛ مؤكداً "إنه رجلُ دولة وأحد الاستراتيجيين الكبار.. فقد تصدّى لقوة الغرب المستعمِرة والمتسلّطة، وكانت لديه رؤيةٌ لبناء نوعٍ من نهضة وطنية مرتبطة بالبعد الروحي المتمثل في أحكام الشريعة الإسلامية السمحة، وببناء عقلية الإنسان وتطوير واقعه الاجتماعي، جامعاً بين اللّين ولطف المعشر من جهة، والحزم والشدة من جهة أخرى".
يقسم الكتاب إلى قسمين؛ الأول دراسة وافية للجوانب المختلفة في حياة محمد الأمين الشنقيطي؛ وخُصص الثاني لحوارات مع الشيخ، ومقالات له وعنه، وقصائد مهداة إليه، وكتابات عن تاريخ عائلته، إضافة إلى ملحق للصوَر والوثائق وسيرة ملخصة لحياة الشيخ الشنقيطي، ومراسلاته والأوسمة الممنوحة له.
يبدأ العقيلي بالتعريف بعائلة الشيخ محمّد الأمين؛ إذ ينتمي إلى عشيرة جمعت بين العلم والزعامة في بلاد شنقيط بالمغرب العربي، والتي تُعرف في الوقت الراهن بجمهورية موريتانيا الإسلامية. ويغْلِبُ لقب "الشنقيطي" على معظم المنحدرين من قبائل بلاد شنقيط وعشائرها، ولو كانوا من عشائر مختلفة، أما لقب "الجكني" فقد عُرف به الشيخ محمّد الأمين نسبةً إلى اسم قبيلته التي تُعَدُّ من كبرى قبائل البلاد، وقد أسهم هذا المحمول التاريخي، كما يوضح العقيلي، في تكوين وعي الشيخ محمد الأمين وبلورة شخصيته متأثّراً بوالده الذي كان من قادة البلاد، بخاصة أن محمّد الأمين عاش حياته وتوفّي خارج بلاد شنقيط.
وفي تناوله لأثر مسيرة الأب في حياة الابن، يوضح العقيلي أن الشيخ محمد الأمين أدرك من خلال مرافقته الدائمة لأبيه وسفره معه إلى فلسطين والعراق ودول الخليج والهند وتركيا وسوريا ومصر في عشرينات القرن العشرين وثلاثيناته، خطر التآمر الاستعماري على المنطقة، وتصدّى له بما أوتي من قوة، مؤمناً بأهمية وحدة الأمة الإسلامية وتكاتفها في مواجهة الاحتلال.
وقد نشأ محمّد الأمين المولود عام 1905م/ 1322هـ في أسرة تميّزت بالعلم الجمّ، ومكارم الأخلاق، إذ كان والده الشـيخ محمّد الخضر، مثالَ العالم التقيّ الورع، المجاهد بكلّ غالٍ في سبيل رفعة الأمة الإسلامية، وصاحب الشخصية المؤثّرة التي تنطق بالحكمة، وتتحلّى بقوة البأس والصبر والحنكة السياسية.
وفي مطلع شبابه عمل محمّد الأمين الشنقيطي كاتباً في المحكمة الشرعية في عمّان سنة 1929، ثم عُين قاضياً في السلط (1938)، ثم في معان (1941)، ثم في إربد (1942)، وظلّ في القضاء حتى سنة 1945 حينما عُين مفتياً لإمارة شـرق الأردن، ثم تولّى منصبَي قاضي القضاة ووزير المعارف في أول حكومة تشكّلت في عهد المملكة الأردنية، وأُسند المنصبان أو أحدهما إليه غيرَ مرة في التشكيلات الحكومية اللاحقة حتى مطلع الستينات من القرن العشرين.
ويبين العقيلي أن فترة الخمسينات شهدت تبلور شخصية الشيخ محمّد الأمين وتطور خبراته، ما أسهم في اضطلاعه بدورٍ محوريّ في عدد من القضايا الساخنة على المستوى الوطني، إذ بُذلت الجهود لمنع قيام وطن قوميّ لليهود على أرض فلسطين، وتصاعدت وتيرة الدعوة إلى التمسُّك بالقومية العربية والدفاع عنها لمواجهة خطر الاحتلال الإسرائيلي الذي يتهدّد الوطنَ العربي برمّته، وقد شغل الشيخ محمّد الأمين في تلك الفترة منصب قاضي القضاة ووزير المعارف، وساهم عبر تولّيه رئاسة الهيئة العلمية الإسلامية في تلك الفترة في توضيح سماحة الإسلام ووسطيته، كما ساهم عبر رئاسته اللجنة الخاصة بإعمار المقدسات الإسلامية في الحرم القدسي الشريف تحت الرعاية الهاشمية، في حماية المقدسات الدينية وصيانتها والحفاظ عليها، وإلى جانب ذلك، كان أحد الذين تولّوا رئاسة المؤتمرَ الإسلامي العام.
ويشير العقيلي إلى أن الوثائق الهاشمية في مطلع الأربعينات تشير إلى دور للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي في مهمات وطنية وقومية جليلة، مثل الوحدة مع سوريا، كان يؤديه بتكليف أو بتوجيه من الأمير عبدالله (الأول) بن الحسين، إذ كان بمثابة اليد اليمنى للملك المؤسس في حلّه وترحاله، وكان الملك يجلّه، ويقدّمه في الصلاة، ويستشيره في المهمات.
ويؤكد العقيلي ما تميزت به شخصية الشيخ محمّد الأمين من قيادية وسمات إنسانية، وقد أجمع الذين عرفوه وعملوا معه وعايشوه على مدار سنوات عمله داخل الأردن وخارجه، بأنه رجل ذو علم وخلق، وكان يتمتع بثقافة واسعة واطلاع كبير، إذ تَفتَّحَ وعيه على مكتبة كان أسسها والده العالِم الشـيخ محمّد الخضر خلال فترة إقامته في مكة، وكانت تحوي كتباً من عيون الأدب والفقه والسياسة والتاريخ، وقد أضاف إليها محمد الأمين نفائس الكتب قبل أن يوصي بها إلى الحرم النبوي الشريف ومكتبة الملك عبدالعزيز.
وفي القضاء كان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي أول من شغل منصب قاضي القضاة بعد أن انتقل الأردن من عهد الإمارة إلى عهد المملكة، كما كان والده أولَ من شغل هذا المنصب في عهد الإمارة.
ويرى الباحث أن الشـيخ محمّد الأمين الشنقيطي يعدّ المؤسِّسَ الحقيقي لدائرة القضاء الشرعي في الأردن، وقد شارك في وضع القوانين والأنظمة فيها، كما شارك في وضع الدستور الأردني وفي اعتماده بوصفه قاضياً للقضاة، في عهد الملك طلال بن عبدالله. وخلال مسيرته في القضاء، قام الشيخ محمّد الأمين بتسيير الدوائر الشرعية والأوقاف والزكاة بشكل حثيث وبحرصٍ على التطوير، كما شهدت المحاكم في عهده تطوراً في أنظمتها الداخلية لتسهيل عملها وتيسير قيامها بمهماتها، إذ أصبحت وحدةً واحدة متّصلة الأجزاء ومترابطة الأوصال، وفي تلك الفترة، سُنَّ قانون خاص لرسوم المحاكم الشرعية، وقانون لحقوق العائلة وُضع موضع الدرس والاجتهاد في الرأي، لإعادة العمل به في المحاكم الشرعية اعتماداً على ما يراه الأئمة في ذلك العصر.
أما في الجانب التربوي، فيؤكد الكتاب بما يتضمنه من وثائق ومراسلات وخطابات أن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كان يدْرك أنّ التربية بمفهومها الشامل تشكّل أهمّ ركائز المجتمع، ومن خلالها تشكّل المجتمعات خصوصيتها وتبني حضارتها، وقد آمن بأن المنظومة التربويّة تقوم على عدد من العناصـر تتبادل التأثير في ما بينها، لذا أَولى العناية الفائقة لهذه العناصر، وعلى رأسها اختيار المعلمين الأكْفاء، والنظر بعناية إلى أحوال الطالب، واستحداث قوانين وتشريعات تضبط سير العملية التربوية.
وقد اختير الشنقيطي عضواً في مجلس الأعيان الثالث (1/9-31/10/1951)، جامعاً بين عضويته في هذا المجلس الذي تشكّل زمنَ وصاية الأمير نايف بن عبدالله على العرش، وبين تعيينه قاضياً للقضاة وعضواً في مجلس الوزراء في حكومة توفيق أبو الهدى التاسعة التي تشكّلت في 8/9/1951، والتي كانت أول حكومة في عهد الملك طلال بن عبدالله. كما اختير عضواً في مجلس الأعيان الرابع الذي تشكّل في 1/11/1951، وبقي فيه إلى أن صدرت الإرادة الملكية السامية بقبول استقالته منه في العام 1955.
ومن أبرز المحطات في عمر هذين المجلسين، صدور دستور العام 1952 الذي أقرّه مجلس الأمّة، وكان الشنقيطي قد شارك في وضع هذا الدستور وفي اعتماده بوصفه قاضياً للقضاة. كما اضطلع مجلس الأعيان بدورٍ محوريّ خلال تلك الفترة التي شهدت انتقال الحكم من الملك طلال إلى نجله الأمير الحسين. فبعد اضطرار الملك طلال البقاءَ خارج البلاد لتلقّي العلاج، عقدَ البرلمان بشقَّيه (الأعيان والنواب) اجتماعاً طارئاً يوم 11/8/1952 انتخب خلاله لجنة للنظر في مسألة عدم قدرة جلالته على ممارسة سلطاته الفعليّة وتقديم التوصيات المناسبة، ورأس اللجنة الشيخ محمّد الأمين الشنقيطي، وتوصلت إلى أن الملك طلال لا يستطيع ممارسة شؤون الحكم، فعقدَ مجلس الأمة جلسة ثانية للاستماع لتقريرها، وبعد التداول أصدر مجلس الوزراء قراراً بالإجماع بإنهاء ولاية الملك طلال والمناداة بالأمير الحسين بن طلال ملكاً دستورياً على المملكة الأردنية الهاشمية.
ثم اختير الشنقيطي عضواً في مجلس الأعيان السادس (1/11/1959-28/11/1962)، وبقي عضواً في المجلس نفسه الذي أعيد تشكيله في 29/11/1962، ثم استقال منه في 11/8/1963 عند تعيينه سفيراً للأردن في المملكة العربية السعودية.
وعلى صعيد العمل الدبلوماسي، كان الشنقيطي، كما يؤكد الكتاب، من كبار الدبلوماسيين العرب، وظلّ مثالاً في الحرص والنشاط والمثابرة، ليسطر بذلك صفحاتٍ مَجيدة في كتاب العظماء الذين خدموا بلدهم بلا تقاعس أو كلل. ولقد أرادت الحكومة من خلال تعيينه سفيراً، أن تستفيد من حنكته وخبرته في عهد المملكة التي بدأت تشهد إصلاحاً وعمراناً واستقراراً وعلاقات أخويّة مع الدول جميعها، وبخاصة الجارة الكبرى: المملكة العربية السعودية.
عُرف الشيخ الشنقيطي خلال عمله الدبلوماسي بالحركة الدائبة والنشاط غير المحدود، إذ يكون من ساعات الصباح الأولى على رأس عمله، يستقبل الناس من دون سكرتير أو حاجب، أو حتى حارس، يستمع إليهم ويحلّ مشكلاتهم. وفي المساء، يقوم بزيارة الأصدقاء والأهل والزملاء في العمل الدبلوماسي، ويحرص على حضور مناسباتهم، يشاركهم أفراحهم ويواسيهم في أحزانهم.
وعلى الرغم من كثرة مشاغل الشيخ ومسؤولياته خلال تولّيه السفارة، إلا أنه ظلّ حريصاً على التواصل مع علماء الأمة والاستفسار عن مسائل عقيدية وفقهية وفلسفية، رغبةً في الاستزادة والمعرفة، وللتيسير على الناس في شؤون دنياهم وإزالة اللّبس في قضايا تشغلهم، وكان له حضور كبير في صدر مجالس العلم والفكر.
ظلّ الشيخ الشنقيطي في منصبه سفيراً حتى العام 1977، ثم قرر التقاعد والاستقرار في السعودية التي احتضنت والده من قبل، وفيها نشأ ودرجَ أولى خطواته في سلّم الحياة، لذلك شعر بالارتياح لعودته إلى مسقط رأسه، قريباً من الحرم النبوي الشريف، ما مكّنه من الانقطاع للعبادة والاستزادة من العلوم الدينية.
واستقرّ الشيخ في المدينة المنورة بعد تقاعده، وأقام فيها حتى توفي في عام 1990 بعد أن أوصى بثلث ماله للفقراء، وقد مثّل رحيلُه خسارةً كبرى لوطنه وأمّته، ونعاه كبار الشخصيات السياسية والدبلوماسية والدينية.
تأتي أهمية هذا الكتاب من كونه يتفرد بدراسة شاملة لمختلف جوانب حياة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، جامعاً لمسيرته وعمله، في سيرة تترجم مآثر الرجل وما قدمه خلال علمه من خدمة للوطن والأمة، وبما يعد إضافة إلى المكتبة العربية فيما تتضمنه من ِسـير الأعلام وتراجم رموز الأمة.