الجامعة العـربية الفصحى: قمة الأمل

خميس, 2016-07-14 00:51
المحامي/ محمد سيدي عبد الرحمن ابراهيم

في أجواء الإستعدادات للقمة العربية - المقـرر انعقادها بانواكشوط يومي 25 و26 يوليو الجاري (2016) وبينما يتوقع أن يتوافد إلى بلدي قادة الأمة في أول زيارة جماعية يؤدونها لنا في هذا المنكب القصي، الذي اتخذناه وطنا، بعد أن انتبذ به أجدادنا رباطا لتدريس علوم العربية ونشر تعاليم الإسلام - فكرت فيما يمكن أن أقدمه إسهاما في المناسبة التاريخية.. لقد اعتدنا أيام البادية، عندما يتأهب حينا لاستقبال كبار الضيوف، أن نتداعى إلى البراح المخصص لضرب خيام الضيافة وأن يكون لكل منا دور في المراسيم الجماعية فيذهب زيد ليجلب بعض السوائم من العزيب لغرض النحر والذبح ويدلف عمرو إلى الوادي ليوفر الرطب بينما تبعث سلمى ابنها بعكة سمن وركوة ماء وينيخ حادي الإبل النوق الحلوب قريبا ليقدم لبنا خالصا سائغا شرابه.. عادات بسيطة إلا أن ارتباطها بالمجتمع العربي التقليدي أكسبها رمزية ترقى بها إلى مصاف القيم العربية الأصيلة التي يتعين استحضارها والعمل على إحيائها في مثل هذه الأعياد التي يلتئم فيها شمل الأمة.. وبهذا الدافع الأصيل وشعورا بالواجب بادرت بعض الدول العربية إلى تقديم مساعدات هامة لموريتانيا قبيل اللقاء المرتقب.

إن شعب موريتانيا سيظل يذكر بامتنان زيارات بعض كبار الزعماء العرب أيام تأسيس العاصمة، ومنها بحسب الترتيب الزمني: زيارة المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبه، مؤسس ورئيس الجمهورية التونسية، من 15 إلى 18 نوفمبر 1965 فزيارة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، من 23 إلى 26 نوفمبر 1972 ثم زيارة الشيخ صباح السالم الصباح، الحاكم الثاني عشر لدولة الكويت، من 18 إلى 21 شتنبر سنة 1973 وزيارة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، من 13 إلى 15 أغشت 1974.. والسبب في ذكر زيارات هؤلاء القادة، تغمدهم الله برحمته، ليس لكونهم أفذاذا بصموا تاريخ العرب فقط وإنما لصعوبة ظروف الإقامة آنذاك فلقد كانت العاصمة انواكشوط حينها في طور الإنشاء وكانت وسائل الراحة شحيحة لدرجة أن السلطات كانت تسابق الزمن لتركيب مكيف هواء من أجل توفير الراحة للملك فيصل رحمه الله إلا أن صعوبات فنية أدت إلى تركيب مكونة منه مقلوبة بحيث أخذ ينفث الحرارة عند تشغيله فما كان من الملك إلا أن قام بنفسه لمحاولة ضبطه.. ولأخلاقهم الرفيعة لم يعبأ القادة بتلك المنغصات العارضة التي ذكرها بعض وزراء تلك المرحلة مؤخرا (محمد علي شريف والتقي ولد سيدي) في معرض حديث عـن صعوبات البداية. أيام كان الرئيس الأول للجمهورية الإسلامية الموريتانية الأستاذ/ المختار ولد داداه، رحمه الله، يؤثر وثائق الدولة بالمكيف الوحيد المتوفر لديها.

وعودة للحاضر المطبوع بوفرة الوسائل، لا يخفى ما اعترى ظروف المكان من انتهاك الزمان وتطور وسائطه بحيث لم يعد من اللازم أن يتوسط الشخص المجلس ليتمكن من الإدلاء برأيه أمام أصحاب القرار وغيرهم بعد أن غدت كل نقطة على ظهر الكرة الأرضية مركزا وأتاحت وسائط الإتصال الحديثة لكل ذي خطاب منبرا ييسر له أن يعلـن رأيه بصورة مكتوبة أو مرئية ويصدره إلى كافة أرجاء المعمورة فيما بين طرفة العين وانتباهتها.. وفي هذا السياق ارتأيت، من خلال هذا المقال، أن أنتهز فرصة التئام الجمع لتقديم رأي أعتقد أنه يسهم في الرفع من مستوى الأمة ومكانتها.

يتعلق الموضوع الذي أود أن أطرق، بين يدي القادة، باللسان العربي الفصيح وأهمية الإهتمام به بالنسبة للكيان العربي ولربما تأفف البعض لاعتباره أن القضية اللغوية شكلية ولا مبرر للإشتغال بها بينما تشتعل الفتنة وتلتهم النيران بيوت بعض الأشقاء العرب فيما بين الرافدين والشام وتمتد ألسنة اللهب إلى اليمن وإلى شمال إفريقيا بعد أن كان الضرر مقتصرا على قرنها.. ولكن، على رسل المتأفف، وهل يفيد تنكب اللغة العربية في حفظ دماء وأعـراض متحدثيها؟ بالعكس أعتقد أن الإهتمام باللسان المشترك أدعى لتكريس التفاهم والتقارب فالعربية الفصحى هي جامعة العـرب الحقيقية وينبغي أن يكون كل ناطق بالضاد حريصا عليها، في السراء والضراء، لأنها هي رابط هذا الحشد كما أنها من أكبر دواعي العزة والفخر بالنسبة للكثيرين مثلي.

وقمة الأمل التي نود أن نبشر العرب بها، بمناسبة مقدمهم إلينا، هي كون اللغة العربية بدأت تتقدم على الصعيد العالمي وتتجاوز بعض اللغات الرئيسية ومنها الفرنسية، كما نبينه من خلال معطيات محايدة وذات مصداقية ولذلك يتعين علينا إقناع الآخرين بأن اللهجات المتداولة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا MENA، التي تعتبرها بعض الجهات الغربية كوكالة الإستخبارات المركزية الآمريكية أساسا للتصنيف اللغوي، ليست سوى روافد للغة العربية ومن المفيد لنا أن نركز أهمية ومزايا التعلم باللسان العربي ولكي لا تتبدد جهودنا يتعين اعتماد الإنجليزية كلغة انفتاح لفوائد يتوجب استحضارها قبل أن نختم بتوصيات للقادة.

 

أولا/ مكانة العربية بين اللغات العالمية:

تم اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية سادسة للأمم المتحدة بموجب القرار رقم 3190 (XXVIII) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 18 دجنبر 1973 وبالإضافة لذلك تحتل العربية مكانة متقدمة على قوائم لغات العالم: فقد عدها المصنف George Weber في المرتبة الخامسة (1) ورسمتها موسوعة Ethnologue في الدرجة الرابعة (2) وعدتها الإحصائيات الرقمية الدولية لاستخدام الإنترنت Internet World Stats في المرتبة الرابعة (3) وأدرجها دليل التقويم الدولي The World Almanac في المرتبة السادسة (4)  وبعد البحث أقدم للقراء العرب، إنارة وجيزة حول كل واحد من التصنيفات المذكورة:

1. وضع باحث الألسن George Weber معايير لترتيب اللغات الكونية بحسب درجة تأثيرها العالمي، في مقال له نشر في شهر دجنبر سنة 1997، تحت عنوان: "قمة اللغات: اللغات العالمية العشر الأكثر تأثيرا"، بالإنجليزية:

(Top Languages : The World’s 10 Most Influential Languages).

ويصنف المقال لغات العالم إلى مراتب متدرجة تتصدرها اللغة العالمية Global وهي الإنجليزية تليها اللغات العابرة للقارات Inter-continental وهي أربع لغات الفرنسية والإسبانية والروسية والعربية قبل أن يذكر اللغات القارية Continental فالإقليمية Regional فالمحلية Local.

وقد حدد الباحث ستة معايير لترتيب اللغات العالمية على النحو التالي:

- أربع (4) درجات للغة الأم – ست (6) درجات للغة الثانية – ثمان (8) درجات باعتبار القوة الإقتصادية للبلد أو البلدان الناطقة باللغة – ثمان (8) درجات لعدد المجالات الرئيسية للنشاط البشري التي تعد اللغة مهمة لها – سبع (7) درجات لعدد الدول والسكان الناطقين باللغة – وأربع (4) درجات للجاذبية الإجتماعـية والثقافية للغة.

وقد صنف George Weber اللغة العربية خامسة على الصعيد العالمي ومنحها أربع عشرة درجة (14): بعد الإنجليزية، الأولى (37 درجة) والفرنسية، الثانية (23 درجة) والإسبانية، الثالثة (20 درجة) والروسية، الرابعة (16 درجة). واعتبر الباحث Weber، في رأي متأخر أعلنه سنة 2008، أن قائمته لا تزال معتبرة لأن تغير المعطيات يعتري كل اللغات المتنافسة فتظل كل لغة محتفظة بمركزها. وفي تحليل لمدى تقدم أو ثبات أو تقهر اللغات العشر الأولى اعتبر المصنف أن ثلاث لغات منها هي العربية واليابانية والهندية حافظت على مكانتها فلم تتقدم ولم تنتكس على مدى القرون الخمسة الماضية ولا على مدى القرن المنصرم ولا العقد المنقضي في سنة نشر المقال (1997) بخلاف اللغات الأخرى التي تطور بعضها وتراجع البعض على مدى الأزمنة المذكورة.

2. ترسم موسوعة الإتنولوجي للغات العالم Ethnologue: Languages of the World ، التي صدر عددها التاسع عشر في سنة 2016، اللغة العربية، منذ عدة أعوام، في المرتبة الرابعة من مجموع لغات العالم البالغ عددها 7 واعتد الموسوعة معيارا يقوم على اعتبار عدد الناطقين باللغة كلغة أولى وعددهم في تقدير المجلة 267 مليون نسمة وبحسب هذا التصنيف فإن اللغة الصينية هي الأولى عالميا لأن عدد الناطقين بها يناهـز 1302 مليون شخص، تليها الإسبانية في المرتبة الثانية ب 427 مليون ناطق ثم الإنجليزية ثالثا ب 339 مليون أما الرتبة الخامسة فتحتلها الهندية ب 260 مليون ناطق. وبحسب الموسوعة فقد تقهقرت اللغة الفرنسية، إلى الرتبة الرابعة عشرة (14) لأن عدد الناطقين بها كلغة أولى لا يعدو 75,9 مليون ناطق.

3. وبخصوص استخدام الإنترنت يبين موقع

Internet World Stats: Usage and Population Statistics   

في تقريره الأخير، الصادر بتاريخ 30 نوفمبر 2015، أن اللغة العربية تعد في المرتبة الرابعة دوليا بقياس استخدام الإنترنت إذ تبلغ نسبة مستخدميها من إجمال مستخدمي شبكة المعلومات الدولية نسبة 5 % فيما تحتل الإنجليزية المرتبة الأولى بنسبة  25,9% والصينية المرتبة الثانية بنسبة 20,9 % والإسبانية المرتبة الثالثة بنسبة 7,6 %.. أما اللغة الفرنسية فجاءت في المرتبة التاسعة ولم تتجاوز حصتها نسبة 2,9 % من مستخدمي الإنترنت على الصعيد الدولي.

راجع Top Ten Languages Used In the Web – Nov, 30, 2015

في موقع:  Internet World Stats, Usage and Population Statistics

الصادر عن Miniwatts Marketing Group.

وبمقارنة المعطيات الحالية مع معطيات سنة 2007 نلاحظ تقدما ملحوظا لاستخدام العربية في شبكة الإنترنت فبعد أن كانت في الدرجة العاشرة دوليا بنسبة 2,5 % صعدت - بعد ثمان سنوات - إلى المرتبة الرابعة وإلى نسبة 5 % بينما تراجعت الفرنسية في ذات الفترة من المرتبة السادسة بنسبة 5 % إلى المرتبة التاسعة بنسبة 2,9 %.

4. يقوم دليل التقويم العالمي

 The World Almanac and Book of Facts, في مجال تصنيف اللغات العالمية بدمج معياري الناطقين باللغة كلغة أولى ومن يستخدمونها كلغة ثانية لترتيب لغات العالم ويرسم العربية في الدرجة السادسة بواقع 256 مليون ناطق بعد الماندارين (الصينية) الأولى: 874 مليون والإنجليزية الثانية: 514 مليون والهندية الثالثة: 496 مليون والإسبانية الرابعة: 425 مليون والروسية الخامسة: 275 مليون.

ولا بد أن الكثير من العرب يشاطرني استغراب القائمة التي يقدمها برنامج Word عندما يقترح على المستخدم عربية خاصة لكل دولة عربية تقريبا ويتساءل عن سببه خاصة وأن الحروف والكلمات هي ذاتها هنا وهناك.. وعندما بحثت في الموضوع وجدت أنه راجع لفهم مغلوط مفاده أن ثمة عربية عصرية وسطى Modern Standard Arabic تختلف عن العربية الخاصة بكل دولة ويرسخ تقرير وكالة الإستخبارات المركزية الآمريكية The CIA World Factbook هذا النهج عندما يقصى اللغة العربية من المراكز العشر الأولى للغات الرائدة عالميا بسبب اعتبار اللهجات والبلدان منفصلة ولأننا أعلم بخصوصيات لغتنا يتعين أن نرفع اللبس بتبيان أن اللهجات العربية ليست لغات أجنبية.

 

ثانيا/ اللهجات العربية ليست لغات أجنبية:

تتعاطى الأغلبية الساحقة من المجتمع العربي، على اختلاف لهجاته، مع اللغة العربية الفصحى دون صعوبات، فمن موريتانيا في أقصى المغرب العربي إلى الإمارات في أقصى المشرق، تقدم نشرات الأخبار بالعربية الفصحى ويعيها المستمعون الأميون، في القرى والأرياف.. صحيح أن ثمة لهجات غير عربية تتداولها بعض الأقليات التي تستحق أن تحافظ على خصوصيتها الثقافية دون أن تقف في وجه لغة الغالبية العظمى الناطقة بالعربية.

ولقد كانت اللهجات العربية على مر العصور مصدر ثراء للغة العربية ومنها لهجات قريش وهذيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وغيرها.. وإنما علل البعض فصاحة قريش بتوسطهم وبعدهم عن بلاد العجم من جميع الجهات وانتقائهم للعبارات الفصيحة لدى كل العرب فلقد كان أهل مكة يرتحلون للإتجار مع غيرهم من العرب شمالاّ في بلاد الشام ومصر والعراق، وجنوباً في أرض اليمن مما مكنهم من تخير الألفاظ العربية المنسابة.. وكثيرا ما نبغ أبناء الأقليات غير العربية في إجادة لغة الضاد وآية ذلك أن واضع قواعد النحو العربي، عمرو بن عثمان بن قنبر، فارسي النسب وإنما لقبته أمه سيبويه تحببا وتعني بلغتها الفارسية أحمر التفاح في تلميح لحمرة في خديه.. وفي العصر الحديث سطع نجم الدكتور مصطفى جواد رحمه الله، مقدم البرنامج الإذاعي العراقي الشهير "قل ولا تقل"، الذي نبغ واستمات في إصلاح اللسان العربي ومقاومة اللحن لدرجة أنه عندما مثل مع أحمد سوسة ومحمود فهمي درويش أمام الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، رحمه الله، وطلب منهم تأليف دليل للجمهورية العراقية (ونطق الرئيس الجمهورية بفتح الجيم كعادته) بادر مصطفى جواد بالقول: مستعدون ولكن بشرط ضم جيم الجمهورية.. ولما استفسره قاسم عن السبب أجاب جواد ببساطة: لأن أصل الكلمة جمهور بضم حرف الجيم لا بفتحه.. وتوصل مصطفى جواد بكتاب رسمي من وزارة المعارف العراقية التي كان يتبع لها، يوجهه إلى تجنب نشر المقالات في الصحف باعتباره موظفا عموميا، فتجلت له عـدة أخطاء لغوية بادر إلى تصويبها وأعاد الكتاب مصححا، بالقلم الأحمر، إلى مصدره موجها إلى ضرورة تقويم اللغة قبل الإهتمام بما لا يقدم.. أستاذ الفصاحة العربية مصطفى جواد ينتمي للطائفة التركمانية مثله في ذلك مثل الفارابي وغيرهما ممن رفع العربية وارتفع بها.

وللدلالة على التقارب اللغـوي بين العرب من الخليج إلى المحيط أقترح، على سبيل المثال لا الحصر، مقارنة سريعة بين الطرفين القصيين الإمارات شرقا وموريتانيا غربا إذ يلاحظ أن ثمة تقاطع لهجي جلي بين المجتمعين التقليديين المتشكلين من أبناء بدو كانوا يحدون حيواناتهم لانتجاع الكلأ والمرعى. ذللوا الجمال للركوب وسكنوا خياما نسجوها من شعر ووبر الأنعام الذي يجزه الرجال قبل أن تعكف النسوة على السدو لنسجه.. يستخدمن المغزل والنيرة والأوتاد ويشددن البرمة والفتلة لنسج "فليج" ويصلن القطع فيما بينها لصنع خيام وفرش.. ويمكن للقارئ المعاصر التوقف عند كل عبارة للتأكد من أنها تستخدم في كلا المجتمعين التقليديين بنفس الدلالة.

ومن يقف عند النماذج المصغرة من خيام الإمارات في المراكز التجارية هناك يلاحظ تشابها في الشكل والتأثيث مع بيوت شعرنا في موريتانيا رغم تباعد مضارب خيام القبيلين.. فمن تراه علم نسوة الحيين المتباعدين الجلوس على خيوط الطول والعكوف على السدو لإدراج خيوط العرض وأداء سيمفونية النسج بذات الطريقة والوسائل؟ لا بد أن تنسيقا قد سبق بين نساء العرب اللائي يغزلن هنا وهناك.

مرة كان أحد الإخوة إلى جانبي، هنا في موريتانيا، عندما رددت على اتصال هاتفي وأخبرت المتصل بأن لدي "خطارا"، عجب الدكتور عبد الله النيادي، من كونهم، في الإمارات، يستخدمون نفس العبارة للدلالة على الضيوف.

وأعتقد أن ما جاز على مواطني دولة الإمارات يجوز على كل مواطني دول مجلس التعاون الخليجي والعراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين كما يشمل اليمن في الجنوب ومصر والسودان ودول المغرب العربي بوصول ديارنا على شاطئ الأطلسي.. وإنما ضربت مثلا بالإمارات اعتبارا لما عاينته مما لم تتح لي فرصته في البلاد الأخرى.

 

ثالثا/ أهمية التعلم بالعربية واعتماد الإنجليزية كلغة انفتاح:

اللغة وسيلة تواصل بشرية يكتسبها المرء أيام نشأته فيتلقى دروسها الأساسية من أمه أولا ومن عائلته فمحيطه وعندما يحسن الشخص التواصل تساعده معارفه اللغوية في استيعاب العلوم الأخرى وتجمع الدراسات الحديثة على أن قدرة الشخص على الإستيعاب والإبداع باستخدام لغة أمه The mother tongue لا تقاس بمستواه عندما يتعامل بلغات الآخرين لأن قدراته اللغوية في الألسن الأجنبية تظل محدودة وتعتمد منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة UNESCO هذه النظرية ولذلك قررت يوما عالميا للغة الأم، هو يوم 22 فبراير. ومن هذا المنطلق فإن الكثيرين مسؤولون عن ضعف مستويات أبنائهم عندما يصرون على تعليمهم باللغات الأجنبية لأن الجهد والوقت يستنفدان في تعلم اللغة قبل تناول المعارف الأخرى التي يشوش على استيعابها الضعف اللغوي وقد عاينت بعض الطلبة العرب العلميين الدارسين بلغة أجنبية في المستويات الجامعية، سنة تخرجهم، وهم يترجمون درس الجيولوجيا إلى العربية لفهمه، وتساءلت ماذا لو اقتصرنا عليهم الطريق بتقديم الدروس باللغة التي يثقون فيها؟

إن اليونانيين واليابانيين والألمان والروس والإسبان والفرس والترك وغيرهم يدرسون بلغاتهم ويتخرج من معاهدهم وجامعاتهم الكثير من المهنيين والمهندسين والأطباء الأكفاء فلماذا يعزف العرب عن لغتهم العالمة التي أنجبت واحتضنت الكثير من المعارف العلمية البشرية ويصرون على ضياع وقت أبنائهم في تلقي دووس تقوية في اللغات الأجنبية خاصة وأن تطور الوسائل التقنية يسير في اتجاه ردم الهوة اللغوية بتيسيره التواصل بين من يتحدثون لغات مختلفة فمع الوقت لن تظل اللغة عائقا.

وتقريبا لأهمية اللغة في العملية التعليمية وهامشية اللغة الفرنسية خاصة أتقاسم مع القراء خلاصة تجربتي الشخصية فلقد كنت في ثمانينات القرن العشرين، منذ أكثر من ثلاثة عقود، أتابع الدراسة في قسم مزدوج (في ثانوية انواذيبو) وكنا ندرس مادة التاريخ باللغة الفرنسية وعندما تقرر تعريب تدريسها استمر معنا الأستاذ التونسي نفسه حبيب .. لكن مع بدء الدروس بالعربية شعرت بأن غشاوة سميكة قد انزاحت بيني وبين المادة فما كنا نتلقاه بالفرنسية لا نستوعبه تماما وإنما ندركه بصورة تقريبية وقد نخمنه.. حتى أستاذ اللغة الفرنسية، المغربي مصطفى النجار، كان يوقف درس لغة أم موليير لنستريح مع لغة أمهاتنا.. ونذكر من أدبيات تلك المرحلة ما نسب لأحد المثقفين الموريتانيين من قول بأن الإزدواجية اللغوية إنما تؤدي لجهل اللغتين.. شخصيا قـررت آنذاك أن أرتحل إلى القسم العربي لخوض غمار الباكالوريا في شعبة الآداب العصرية العربية فتيسر لي ذلك.. وعندما دخلت قسم القانون في الجامعة اكتشفت أن غالبية زملائي الطلبة لا يكاد يجيد كتابة اسمه باللاتينية بينما يسهل عليه الإنشاء بالعربية.. وبعد ربع قرن من الممارسة العملية لمهنة المحاماة تمكنت من إجادة "لغة موليير" إلا أنني بدأت أشعر بأنها محدودة النطاق قليلة الجدوائية وأعتقد أنها تعد اليوم معوقا تنمويا في البلاد العربية التي تتعامل بها فهي تزاحم العربية وتعضل الناطقين بها وتؤدي لضياع جهودهم دون أن تكون لها قيمة ذات بال.. فخارج باريس لن تجد الفرنسية إلا في انواكشوط والجزائر والرباط وتونس وبيروت ومقديشو ويمكن لهؤلاء استخدام لغتهم المشتركة عوضا عنها.. وقد اكتشفت أن مهنة المحاماة، التي أشتغل بها، متخلفة في الفضاء الفرانكوفوني لأن من بين المائة شركة محاماة الرائدة في العالم توجد شركة فرنسية واحدة (FIDAL) بينما يستحوذ الناطقون بالإنجليزية من الولايات المتحدة الآمريكية والمملكة المتحدة وأستراليا على خمسة وتسعين مركزا 95 % (وذلك ما سأفصله في معالجة منفصلة) وما جاز على المحاماة يجوز على أغلب الميادين العملية ويمتد إلى ساحة العلوم فعندما يقودني الفضول إلى البحث عبر شبكة المعلومات الدولية في موضوع ما أتبين ضحالة المعارف المتاحة باللغة الفرنسية التي لم تسعفني، مثلا، بأية معلومة ذات بال لمقالي هذا ولذلك السبب بدأت أتطلع للغة الإنجليزية، التي رغم تواضع معرفتي لها ألاحظ أنها تمد الباحث الذي يستخدمها بمعلومات ثمينة.. وأشعر بالأسف عندما ألاحظ أن أبناءنا يفنون الجهد والوقت في دراسة لغة لن تفيدهم خارج بلدانهم.. ولطالما تساءلت عن السبب الذي جعل بعض العرب يعض على اللغة الفرنسية بالنواجذ مع قلة ما تقدمه من فرص معرفية حتى فرص العمل التي تتيحها، خارج حدود بلداننا، محدودة.. وقد استوقفني تعليق لكوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، عندما كتب: "إن استخدام اللغة الفرنسية في الأمم المتحدة لا يستوجب التأديب بل العـقـاب" كما أثر في تعليق موظف إسباني مجهول عندما قال: "يريدون مني أن أتحدث عدة لغات ولكن لغتي واحدة" والمقولتان مع غيرهما مدونتان في مقدمة تقرير أممي رسمي (JIU/REP/2011/4).

 

رابعا/ توصيات للقادة:

يقول  George Weberإن "كل لغة تعد الأهم بالنسبة للناطقين بها" وبينما تتقدم اللغة العربية لاستعادة مكانتها التاريخية - كما يستفاد من سريانها السريع نسبيا في شبكة المعلومات الدولية ومن رتبتها على القوائم الرئيسية لتصنيف اللغات كما بينت أعلاه – أقترح على القادة العـرب دراسة ما يلي:

 

1. جدوى اعتماد اللغة العربية كلغة تدريس رئيسية أدبيا وعلميا في المدارس والجامعات والمعاهد واعتماد اللغة الإنجليزية كلغة ثانية تيسر التعامل مع الآخرين وتتيح متابعة تطور مختلف العلوم والمعارف مع العمل على توحيد المناهج التعليمية بين مختلف البلدان حتى يثمر التبادل بينها وفي هذا الإطار يمكن الإستئناس بالتجربة السورية الرائدة فلقد نجح السوريون، أصلح الله بينهم، في التعليم الفني باللغة العربية إلى حد كبير.

 

2. إحداث جهاز لدعم اللغة العربية يتركز عمله على تطوير البرمجيات التي تخدم اللغة وعلى الدفاع عنها واتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بتطويرها من تعاون مع الناطقين باللغات الأخرى كاللغات الإفريقية لاعتبارات منها أن بعض بلدان إفريقيا أعلن اعتماد العربية كلغة رسمية (غامبيا) ولأن بعض اللغات الإفريقية كان يكتب تاريخيا بالحرف العربي قبل أن يعتمد الحرف اللاتيني بديلا ولأن بعض اللغات الإفريقية يتشكل بنسبة معتبرة من كلمات عربية. ونظرا لارتباط اللغة بمفهوم السيادة يتعين أن ترصد لبرنامج تطوير العربية موارد من صناديق التمويل السيادية ومن مختلف بيوت التمويل العربية وأن يتفرغ للمهمة خبراء من كل البلدان. وللجدوائية يتعين انتهاج مقاربة تشاركية بين القطاعين العام والخاص بحيث تتاح الفرصة للمبادرات الخصوصية بدل الإقتصار على نشاط المنظمات والدول لما يتسم به القطاع العام من روتين وبطء يعكسه ركود بعض المنظمات "المنطمة العربية للثقافة والعلوم" بعكس المبادرات الفردية التي يتعين تثمين بعضها كمبادرة "تحدي القراءة العربي" التي أطلقها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة حاكم دبي والتي تهدف إلى رفع مستوى القراءة المتدني في الفضاء العربي.

 

3. تشكيل جهاز رقابي مستقل يتكفل بتقديم تقرير سنوي خاص حول اللغة العربية وما يكتنف عمل الهيئات المكلفة بتطويرها من نجاح وإخفاق على أن يدرج التقرير كركن ثابت في جدول أعمال القمم العـربـيـة قبل أن يتم نشره.

 

وفي الختام أتخيل اللغة العربية وهي تعتلي منبر قصر المؤتمرات في نواكشوط وتخاطب الزعماء العـرب، على لسان حافظ ابراهيم، رحمه الله، قائلة:

سقَى الله في بَطْنِ الجزِيرة ِ أَعْظُماً *** يَعِــزُّ عليها أن تلينَ قَناتِي

حَفِـظـْــــنَ وِدادِي في البـِلى وحَـفـِظـْتـُه *** لهُنّ بقلبٍ دائمِ الحَسَراتِ

وفاخَــــرْتُ أَهلَ الغَرْبِ والشرقُ مُطْرِقٌ *** حَياءً بتلكَ الأَعْظُمِ النَّخِراتِ

أيهجرني قومي عفا الله عنهم *** إلى لغة لم تتصل برواة

سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى *** لعاب الأفاعي في مسير فرات

ألف الله بين قلوبكم ووفقكم لما يصلح شأنكم والسلام عليكم.

نواذيبو بتاريخ 7 شوال 1437

الموافق 13 يوليو 2016.

المحامي/ محمد سيدي عبد الرحمن ابراهيم

[email protected]