أثناء صلاة القيام وبعد تلاوة الشيخ للآية الكريمة: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكفرين) سمعت بكاء خافتا بجانبي حيرني، فبادرت بعد السلام أتحسس جاراتي، فإذا بسيدة ملامحها شامية، عليها مسحة جمال ونور استقامة، لا زالت دمعتها على خدها.
دنوت منها:
- خيرا أختي، ماذا يبكيك
قالت: هذه الآية
وسألتها: خيرا؟
فقد استغربت فليست الآية آية وعد ولا وعيد، تلطفت بها، وأصررت على إيصالها بسيارتي، أحابتني: إن لي مع هذه الآية شأن..
- ما ذاك حبيبتي؟
- أتريدين تفصيلا مملا عن قصتي
- نعم
نزحت كغيري من السوريين لهذا البلد منذ أكثر من ثلاث سنين ..
كنت أعيش في بلدي الرفاهية بكل معانيها.. حبا وأمنا وملكا كبيرا.. ولكنها الأقدار ساقتني إليكم، وراضية بقضاء الله وقدره..
تعرفت على جارة كريمة، جعلت ولدي ولدها وهمي همها، ولم تدخر جهدا من أجل حصولي على عمل شريف يدر دخلا..
ولكني كنت كل مرة أرفض، ولاسيما عمل البيوت، وأكتفي بصنع الفطاير وتوزيعها على بعض المحلات..
وذات يوم، والمدارس على الأبواب، إذا بجارتي الحبيبة تناشدني الله ألا أرفض هذا العرض المغري على حد قولها..
عاملة بيت برتبة موظفة: راتب كبير، سكن مريح لك ولابنك، والكثير من الامتيازات.. أثنت على أرباب العمل: أسرة طيبة، لن تعاملك إلا بالتي هي أحسن، وستكونين أنت ربة البيت.. قالت لي: (أنت طيبة، وستكسبينهم بطيبتك)..
رضخت لإلحاحها، رغم أنه كان أبعد شيء إلى نفسي، فلم أعهد نفسي إلا آمرة أو ناهية..
ولكن قسوة الظروف والوعود البراقة؛ أضعفتني تخيلت نفسي بقصري بحلب، وحولي أهلي وعزوتي..
كانت البداية معقولة مرت الأيام ببطء، حتى اليوم السابع بالضبط حيث نفدت قنينة الغاز، أخبرت مخدومتي بذلك، أجابت ببرود: "كبيه شور البتيگ وعمريه" أحسست بالضعف..
تمالكت نفسي ونزلت للبقالة، واكتريت حمالا نفذ لي المهمة، تابعت عملي بجد وإخلاص وتفانٍ مقابل القمة في عدم الذوق، فلا تجد شكرا، ولا جزاك الله خيرا من ربة البيت البته، وقد تجدها أحيانا من إحدى البنات باردة كالثلج..
ومما كان يطمئنني ويشجعني على الاستمرار براءة صبية وأخلاق دكتور..
صبية طوقوني بحبهم، تبرعت لهم بدروس تقوية كنت أرى ثمرتها في تفوقهم..
أما الدكتور فهو شقيق السيدة، وقد كنت أشتاق ليوم السبت معاذ الله، لا حبا في اليهود، بل شوقا للكلمة الطيبة، فذلك اليوم هو الوحيد الذي أسمع فيه عبارة (أحسنت صنعا)، بارك الله فيك.. سيثني على مائدتي، على ترتيبي للبيت سيتفقد صحتي.
ألفت العمل معهم على ما فيه من مطبات.
وبعد امتحانات السنة النهائية، وأنا أنتظر التكريم والتهنئة، إذا بالبنت الجامعية، والتي تهمس لي أحيانا بكلمة "شكرا"، تقول:
- سحر، هذا راتبك وبعض مستحقاتك، "نحن واعدين البادية"..
دهشت غاية، حاولت الاستفسار من السيدة الكبيرة فإذا بها خرجت للسوق.
أخذت أغراضي وولدي واتجهت إلى جارتي الحبيبة، عاتبتها: هذا ما كنت أقوله لك دائما، وتنكريه.. وبدأت بسرد قصصي مع تلك الأسرة، وليست قصة الوليمة ببعيد:
قبل شهرين تقريبا من الفصل المتعسف؛ كان زواج بكرها، وكانت الوليمة في البيت، فأبليت فيها بلاء حسنا، مستعينة ببعض بنات بلدي، فكانت وليمة رائعة ومتميزة، كنت أنتظر بعدها تعويضات مادية ومعنوية لصديقاتي المغتربات، وللأمانة سمعت من العريس شكرا (يابسة) وأما من العائلة فمازلت أنتظرها.
من صفحة المدونة صفية فتى