قرأت منذ يومين ما كتبه الأستاذ الكريم الدكتور محمد بن المختار الشنقيطي في موضوع الرجم فساءني صدوره من مثله ورأيت أن فيه كثيرا من الجراءة والمجازفة في إنكار حكم شرعي ثابت بالسنة والإجماع, وقد ترددت بداية في الرد عليه خاصة وان هناك أستاذة وباحثين قد تعرضوا للرد عليه فأجادوا وأفادوا وأخص منهم بالذكر الجميل الأستاذ الفاضل الشيخ إبراهيم بن أعمر كلي الذي كتب ردا علميا رصينا وموثقا .
ثم استقر رأيي بعد ذلك على ضرورة الرد عليه وكشف ما تضمنه مقاله من شبهات ومغالطات واهية نصيحة لله ورسوله ودفاعا عن السنة وتبرئة لجناب العلماء.
بداية لا يسعني إلا أن أقدم لإخواني من طلبة العلم نصيحة مهمة وهي أن العلوم الشرعية ليست ثقافة ولا أفكارا عامة ولا نقاشات صحفية ولا حديثا عابرا ... بل هي أحكام ثابتة, ومقدمات ونتائج, وأصول وفروع, وصناعة وتخصص , لها مناهج وضوابط وضعها العلماء وقرروها فلا سبيل للوصول إليها إلا عبر تلك المناهج, قال تعلى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(سورة الأنبياء 17), فعلى من أراد أن يتكلم في مسائل العلم أن يرجع إلى ما قاله العلماء وما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله وعليه أن يستعين بالضوابط التي وضعوها مثل أصول الفقه وعلوم المصطلح وعلوم التفسير واللغة فلا سبيل للتعامل مع النصوص الشرعية دون الاستعانة بهذه الأدوات وإلا كان ذلك من القول في كتاب الله بالرأي الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم وتوعد فاعله .
ثم لا حرج على الباحث والعالم أن يجتهد ويبذل وسعه في فهم النصوص الشرعية وأن يبحث عما يراه حقا مع الالتزام بهذه الضوابط والمناهج, فثمة مجال متسع للإبداع والتجديد.
وقد بين الإمام الشاطبي أن هناك شرطين لابد منهما لمن يريد الانخراط في سلك العلماء أحدهما : أن يعمل بما علم, والثاني: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ بأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح.
قال الشاطبي رحمه الله تعلى :"فأول ذلك ملازمة الصحابة -رضي الله عنهم- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر؛ فهم فهموا مغزى ما أراد به أولا حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يُعارض، والحكمة التي لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة. وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية؛ حيث قال: يا رسول الله! ألسنا على حق، وهم على باطل؟...فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر عليهم في مواطن الإشكال؛ حتى لاح البرهان للعيان. وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم؛ فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة واشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة، ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم" (الموافقات 1\142-144). ثم تكلم الشاطبي بعد ذلك على طرق تعلم العلم فبين أنه بالمشافهة أولا ثم بمطالعة الكتب لمن حصل نصيبا من العلم وحاز مفاتيحه إلى آخر كلامه .
إن حد الرجم ثابت بالسنة النبوية المتواترة التي لا مطعن في صحتها فقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها جمع من الصحابة ينيف على العشرين, في وقائع مختلفة يحصل بمجموعها اليقين والتواتر المعنوي الذي لا يعتريه شك وجزم بتواترها جمع من العلماء والمحدثين منهم القاضي أبو بكر بن العربي, وكمال الدين ابن الهمام الحنفي والرافعي الشافعي وأقره على ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني وجزم به أيضا العلامة الحافظ سيدي محمد بن جعفر الكتاني الحسني في كتابه نظم المتناثر من الحديث المتواتر وغيرهم,(الكتاني :نظم المتناثر من الحديث المتواتر1: )164.
فمن هذه الأحاديث حديث ماعز ثبت في الصحيحين من رواية ابي هريرة ورواه مسلم عن جابر بن سمرة وابن عباس وبريدة وجاء أيضا من عن أبي بكر الصديق وهزال. ومنها حديث رجم الاسمي وهو مروي عن أبي ذر, ومنها حديث العسيف رواه الشيخان عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني وجاء من حديث أبي أمامة .
ومنها حديث الغامدية أخرجه مسلم عن بريدة وعمران بن حصين وأبي سعيد الخدري, وجاء أيضا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه.
ومنها حديث عبادة المتقدم عند مسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
وروي الرجم أيضا من حديث عن ابي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم (انظر تخريج هذه الروايات السابقة وطرقها في نصب الراية للزيلعي 3\312), و جاء حديث الرجم من عن اللجلاج وأبي ونصر والد عثمان وأبي برزة الأسلمي وجابر بن عبد الله (الكتاني :نظم المتناثر من الحديث المتواتر1: 164).
فحديث الرجم إذا ثابت بالسنة المتواترة وقد ثبت العمل به عن الخلفاء الأربعة ولم يخالف فيه أحد من الصحابة ولا من بعدهم وبهذا تعلم أيها القارئ الكريم ما في قول الأستاذ :" تخلَّص الفقهاء من عقوبة الإقامة الجبرية للنساء، وعقوبة الأذى للرجال، بحجة أن الآيتين اللتين وردت فيهما العقوبتان منسوختان وجاء الفقهاء بعقوبة غريبة عن روح الإسلام، ومناقضة لنص القرآن، وهي الرجم" إن في هذا الكلام كثيرا المجازفة و ترك الأدب مع العلماء, وهو أمر كنا نربأ بالشيخ الكريم عنه .
فلا الفقهاء هم الذين استحدثوا عقوبة الرجم كما زعم الشيخ ولا هي غريبة على روح الإسلام ولا هي أيضا مناقضة لنص القرآن فما لكم كيف تحكمون؟!.
بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك العقوبة منسوخة, فقد أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، ورمي بالحجارة، والبكر بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ" ، انْتَهَى.
مع أن نص الآية الكريمة مؤذن بأنها عقوبة مؤقتة فقد قال تعلى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)(النساء 15). فقد جاء هذا الحكم مغيا بغاية واضحة وهي ورود حكم آخر وحد مقرر هو الجلد والرجم كما رأينا في الحديث سابقا, فكيف ساغ للشيخ الكريم أن يستند إلى هذه الآية ويرى أن حكمها باق مع أنه منسوخ بآية الجلد التي تجاهلها وأعرض عنها؟! وكيف وبخ الفقهاء على ترك هذه العقوبة الخفيفة مع أنها منسوخة بلا خلاف بآية الجلد ثم بآية الرجم وسنته؟!.
وأني يكون الرجم من محدثات الفقهاء وهو ثابت عن جمهور الصحابة وعمل به الخلفاء الأربعة, وعمل به سائر حكام المسلمين في كل زمان ومكان, فلو ساغ إنكار مثل هذا من الأحكام الظاهرة المتواترة لم تبق ثقة بشيء من أحكام الشريعة أبدا!:
إن دام هذا ولم يحدث له غير *** لم يبك ولم يفرح بمولود
فالشريعة قد سلكت مسلك التدرج في معاقبة الزناة فشرعت الحبس والإذاية أولا ثم شرعت الجلد في حق البكر والرجم في حق المحصن وليس بين ذلك من تعارض .
وهنا أمر آخر أريد أن أبينه وهو أنه لم يخالف في مشروعية الرجم أحد من علماء السلف من الصحابة فمن بعدهم ولم ينقل الخلاف فيه إلا عن بعض الخوارج وعن النظام أحد شذاذ المعتزلة, فما ادعاه الشيخ الكريم من أن المعتزلة "أطبقوا على نفي الرجم", خطأ صريح لم أدر كيف وقع له, فإن معظم علماء المعتزلة موافقون لأهل السنة في مسألة الرجم وغيرها من المسائل الفرعية فممن صرح بموافقة أهل السنة في مسألة الرجم من أئمة المعتزلة الزمخشري في الكشاف( 1\104) وأبو الحسين البصري بل حكا إجماع المسلمين على الرجم في كتابه المعتمد في أصول الفقه (2\272), فلو كان المعتزلة "مطبقين على إنكار الرجم " كما زعم الشيخ لعلم بذلك أبو الحسن وهو من أئمتهم الكبار فكيف يفوت عليه مثل ذلك ويعرفه غيره ؟!.
فحبذا لو تثبتنا قليلا فيما ننقله, عملا بالآية الكريمة: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)(الإسراء36), فإنه لا ينبغي لطالب العلم أن يحمله الانتصار لرأيه على أن ينسب للعلماء ما لم يقولوه, رحم الله ابن حزم فإنه مع جراءته وتعصبه لما يراه , كان لا يجازف في النقل كما قال ابن حجر في الفتح!.
وقد اعتمد الشيخ الكريم في رد أحاديث الرجم على شبهتين ضعيفتين سنحاول إن شاء الله الرد عليهما وبيان ما فيهما من تمويه وتلبيس :
1 – زعم الشيخ الكريم أن " جل أحاديث الرجم يتضمن طعنا في حفظ القرآن الكريم. فمن قال بالرجم فهو قائل ضمناً بتحريف القرآن -والعياذ بالله- لأن أغلب أحاديث الرجم تفيد ذلك", وفي هذه الدعوى كثير من المجازفة والجراءة والبعد عن الواقع, فأحاديث الرجم تزيد على العشرين وليس فيها ما يوهم طعنا في القرآن الكريم ولا تنقيصا منه بدليل أن الشيخ الكريم على تمحله لردها لم يجد في شيء منها ما يدل على الطعن في القرآن إلا ثلاثة أحاديث سنجيب عنها لاحقا إن شاء الله تعلى.
لقد أجمع علماء الإسلام على وقوع النسخ في آيات القرآن الكريم كما قال تعلى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(البقرة106), وأجمعوا على أن منه ما نسخ لفظه وحكمه ومنه ما نسخ حكمه وبقي لفظه ومنه ما نسخ لفظه وبقي حكمه ومن هذا القسم الثالث آية الرجم:( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة), وقد بين عمر رضي الله عنه أنه حفظ هذه الآية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتلاها وأن نسخت ونهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابتها, وقد تواطأ الصحابة على نسخ لفظها فلم يضعوها بالمصحف (فتح الباري 12\143).
وإذا تقرر هذا فليس في دعوى نسخ لفظ هذه الآية ما يطعن في القرآن كما زعمه الأستاذ, وأما حديث عمر فإن الأستاذ اقتطعه من سياقه وحذف بعضه, ونص الحديث: " لما صدر عمر من الحج وقدم المدينة خطب الناس فقال أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة ثم قال إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله فقد رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجمنا والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي الشيخ والشيخة إذا زنيا " رواه مالك في الموطأ . هذا لفظ الحديث وليس فيه أن عمر قد جامل في آية الرجم بل غاية ما فيه التأكيد على عدم الاغترار بنسخ هذه الآية وأنه لولا خوف الزيادة في القرآن لزادها, وقد بين عمر أن الرجم سنة ماضية في الإسلام وقد ثبت عن عمر أنه هم بكتابتها فسأل أبي بن كعب سيد القراء فأكد له أنها منسوخة اللفظ(فتح الباري 12\143).
إذا فليس للشيخ الكريم إلا أن ينكر وقوع النسخ أو يسلم بنسخ تلاوة آية الرجم , وهذا ما يؤكد ما أشرنا إليه سابقا من ضرورة الرجوع إلى القواعد والضوابط المنهجية التي قررها العلماء المتخصصون للتعامل مع النصوص الشرعية, وان التخلي عن ذلك والتعامل مع النصوص دون مبالاة بتلك القواعد مدعاة للانحراف واتباع المتشابهات.
وأما حديث : "كم تقرؤون سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية. قال: قط! لقد رأيتُها وأنّها لتعادل سورة البقرة وفيها آية الرجم", فليس فيه ما يطعن في القرآن, وغاية ما فيه أن هذه السورة نسخ بعضها وليس في ذلك طعن في القرآن البتة!."
وأما حديث الداجن فقد جزم الجوزقاني ببطلانه كما قال الأستاذ ومع ذلك فقد تأوله شراح الحديث, بأن الآية بقيت مكتوبة عندها بعد نسخ تلاوتها, لا أنها كانت حينئذ باقية التلاوة,(حاشية السندي على سنن ابن ماجه4\194).
وبعد فماذا تمثل هذه الأحاديث الثلاثة من جملة نيف وعشرين حديثا الواردة في الرجم, فليت شعري كيف ادعى الشيخ الكريم لها الأغلبية وبأي حساب وفي أي منطق وجد هذه المعادلة التي تتضمن قلب الحقائق ؟!.
ومع هذا فالأحاديث الثلاثة ليست هي عمدة العلماء القائلين بالرجم وهي كلها تدور حول نسخ آية الرجم فلنفترض مع الأستاذ أن آية الرجم لا وجود لها فما ذا نصنع بالسنة الثابتة التي تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل بها الخلفاء من بعده؟!.
هذا إيغال في التتعصب والالتفاف على الأدلة الصريحة, لم يصل إليه أحد من متعصبة المذاهب في علمي : أن تتنكر تماما للأدلة الصريحة الثابتة التي استند إليها مخالفك وتضرب عنها الذكر صفحا ثم تأخذ أضعف أدلته وأقلها وضوحا -مثل حديث الداجن-, أو تاخذ نصوصا أخرى لا علاقة لها بموضوع الخلاف - مثل حديث سورة الأحزاب- , وتفترض أنها هي عمدة مخالفك وغاية ما استند إليه ثم تردها وتلزمه ما بلم يلتزمه, فتغرر بقارئك المسكين حتى يتصور أنه ليس لمخالفك دليل غير تلك الأدلة المدخولة!.
إن هذا ضرب من الجدال المذموم الذي نهى الله عنه ونهى عنه رسوله الكريم صلواة الله وسلامه عليه, وهي حيلة ضعيفة ومغالطة مكشوفة, لا تنطلي على من رزقه الله بصيرة في العلم والفهم .
2- ادعي الشيخ الكريم أن " قصة الغامدية محشوة بالتناقض والغموض، وأوله تضارب الروايات هل المرأة المرجومة غامدية أم جهنية، وهي هي قصة واحدة أم قصتان...", وهذه الشبهة ساقطة من وجهين:
1- أن هذا ليس من الاختلاف والاضطراب الذي يؤثر في صحة الحديث, فالأحاديث متفقة على أن هذه المرأة قد رجمت وهذا هو المعنى المقصود من الحديث , ولم يقع فيه اختلاف بينها. فإذا ثبت هذا فما لنا ولنسب هذه المرأة ؟وما الذي يترتب عليه؟ فهو وصف طردي لا تأثير له في الحكم.
وقد نص أهل الاختصاص في علم الحديث على أن اختلاف الرواة الذي لا يتعلق بالمعنى المقصود من الحديث لا أثر له, قال الحافظ ابن حجر : ((مالا تتضمن المخالفة بين الروايات اختلاف حكم شرعي. فلا يقدح ذلك في الحديث وتحمل تلك المخالفة على خلل وقع لبعض الرواة؛ إذ رووه بالمعنى متصرفين بما يخرجه عن أصله)) (النكت لابن حجر (2/802) وانظر تنقيح التحقيق (1/436) لابن عبد الهادي).
ومثل العلماء لذلك بحديث ذي اليدين فقد اختلف رواته في تعيين الصلاة التي وقع فيها السهو فقال بعضهم: صلاة الظهر وقال آخرون هي العصر, مع هذا المثال المذكور اقرب ورودا من الخلاف في نسب الغامدية .
قال الشيخ عطية بن محمد سالم رحمه الله تعلى في شرحه لبلوغ المرام في كلامه على حديث المرأة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن حج الصبي: " وكونها من خثعم، أو من جهينة، أو من تميم، أو من مضر، أو من باهلة، أو من أي جنس من الأجناس لا علاقة له بالحكم، ولكن هذا من باب التوثيق في الخبر؛ لأنه متأكد أن المرأة معروفة بعينها وقبيلتها"(شرح بلوغ المرام للشيخ عطية 7|1162).
2- أن من شروط الاضطراب- على تقديره مع أنه لا محل له هنا - أن تتحد القصة, وتتكافأ الروايات وكل هذا غير متوفر في هذا الحديث فحديث الغامدية مروي عن جماعة من الصحابة كما بيناه سابقا وهو في الصحيحين وغيرهما, وحديث الجهنية مروي عن عمران بن حصين وهو في صحيح مسلم وقد سلك العلماء المحققون أهل الاختصاص طريقتين في الجمع بين الحديثين فمنهم من رأى أن القصة واحدة لأن معظم الاحاديث متواطئة على أنها من جهينة, و حديث عمران بن حصين جاء في بعض رواياته موافقا لبقية الرواة أنها من غامد أخرجه مسلم , وفي بعضها أنها من جهينة أخرجه أبو داود,فمن العلماء من اعتبرها قصة واحدة ورأى أن لا مخالفة بين الروايتين لأن غامدا بطن من جهينة, وبالتالي فلا تعارض بين الروايتين لأن من قال الغامدية فقد نسبها إلى بطن من جهينة ومن قال جهنية فقد نسبها إلى القبيلة . وقد جزم بذلك النووي في شرح مسلم والسيوطي في تنوير الحوالك ( 1:167), وهذا يخالف ما هو مشهور في كتب الأنساب من أن غامدا بطن من الأزد لا من جهينة ( جمهرة اأنساب العرب لابن حزم 2\377),ومن العلماء من رأى أنهما قصتان مختلفتان كابن حجر العسقلاني (فتح الباري 12\146).
ولنفترض مع الشيخ أن حديث الغامدية مضطرب ضعيف فما ذا نقول في حديث ماعز الذي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف ؟! وفي بقية الأحاديث الأخرى التي لا مطعن في صحتها.
فقد ظهر بهذا أن قول الشيخ الكريم "إن الفقهاء بنوا الرجم على أحاديث مضطربة المتون، معلولة الأسانيد", تحكم لا يليق بمثله, فحري بمن حشر الأمة في صعيد واحد وحاكمها ووبخها, ألا يلجأ إلى العبارات المجملة والألفاظ العائمة بل عليه أن يدخل في التفاصيل ويضع النقاط على الحروف ويبين العلل الواردة في أسانيد هذه الأحاديث ومتونها, فالإجمال في موضع التفصيل إيذان بضعف الحجة وخروج على المنهج العلمي, والدعاوى المجردة عن الدليل لا تجدي شيئا, قال تعلى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة 11), وقال الشاعر:
والدعاوى ما لم تقيموا عليها *** بينات أبناؤها أدعياء
ثم زعم الشيخ الكريم أن "من أمثلة اضطراب أحاديث الرجم: أنها جعلت عقوبة المحصنة الرجم حتى الموت، والقرآن جعل عقوبة المحصنة تُنصَّف. فهل يوجد نصف موت؟!".
وهذا الذي يلمح إليه الشيخ مبني على سوء فهم للآية الكريمة: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ),(النساء 25), وقد بين العلماء أن المراد بالمحصنات في هذه الآية الحرائر, وهو معنى تسوغه اللغة ويرشحه السياق فإن فمعنى الآية أن الأمة إذا زنت وهي محصنة فعليها نصف ما على الحرة وهو 50 جلدة, وليس المراد بالمحصنات هنا المتزوجات حتى يقال : إنه نصف موت ! وكأنه إبداع وبراعة عظيمة ! وهذا كله حز في غير مفصل كما قال الشاعر:
أكثرت حزك لو دريت مفصله*** فادر المفاصل قبل الحز واستفق
فالمحصنات في هذه الآية مستعملة في مقابلة الإماء, وهو دليل واضح على أن المقصود بها الحرائر , و أي خصوصية للمحصنات عن الأبكار لو كان المراد بالمحصنات هنا المتزوجات ؟! فهذه القرائن تقطع الطريق على من زعم أن المراد بالمحصنات هنا المتزوجات, بل المقصود بالمحصنات الحرائر والراجح أن ذلك كان قبل نزول حد الرجم.
وقد تفطن العلماء لهذا الإشكال الذي يحوم حوله الشيخ وأجابوا عنه يقول ابن عاشور :
"وقد دلت الآية على أن حد الأمة الجلد، ولم تذكر الرجم، فإذا كان الرجم مشروعا قبل نزولها دلت على أن الأمة لا رجم عليها، وهو مذهب الجمهور، وتوقف أبو ثور في ذلك، وإن كان الرجم قد شرع بعد ذلك فلا تدل الآية على نفي رجم الأمة، غير أن قصد التنصيف في حدها يدل على أنها لا يبلغ بها حد الحرة، فالرجم ينتفي لأنه لا يقبل التجزئة، وهو ما ذهل عنه أبو ثور"( التحرير والتنوير 4:95).
فهذه المغالطة قد تفطن لها العلماء وكفونا مؤنة الجواب عنها بحمد لله وليس الشيخ الكريم هو أول من جاء بهذه الشبهة بل قد أوردها بعض منكري السنة في العصر الحديث قبله .
وأما كون الدارقطني طعن في بعض أحاديث الصحيحين فنعم ولكنه طعن فيها انطلاقا من خبرته واشتغاله بالحديث وبناء على القواعد والأسس النقدية التي وضعها العلماء المتخصصون في الحديث وليس كلامه في ذلك تقولا ولا مجازفة حاشاه من ذلك, ولو كانت أحاديث الرجم ضعيفة أو معلولة لبين ذلك الدارقطني والألباني وغيرهم من العلماء المتخصصين.
وختاما أقول إن هذه معظم هذه الشبهات التي أوردها الشيخ الكريم هي في الحقيقة مما اخترعه أعداء السنة ونكروها في العصر الحديث وليس الشيخ الكريم إلا ناقلا لها وقد كتب الأستاذ سعد المرصفي ردا على من أنكر حد الرجم, وطبع سنة 1415هـ, فأورد فيه الجواب على معظم هذه الشبهات التي أوردها الشيخ, ويوجد تلخيص له في موقع بيان الإسلام على الرابط التالي:
http://bayanelislam.net/Suspicion.aspx?id=03-03-0073&value=&type=
والحاصل أن مسألة الرجم ثابتة بالسنة الصريحة وأنها من الأحكام المقطوع بثبوتها لما ورد فيها من الأدلة المتواترة الواضحة الدلالة وقد حذر العلماء من ترك الواضحات والإعراض عنها وعدوا ذلك من اتباع المتشابهات الذي ورد فيه الوعيد الشديد قال تعلى (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران 7).
هذا مع أننا لا ننكر ما للشيخ الكريم من علم وفضل, وتضحية في سبيل العلم والدعوة حفظه الله وبارك فيه, وقد قال العلامة محمد حرمة بن عبد الجليل العلوي رحمه الله تعلى:
ما في الجدال من التكذيب مغتفر *** شأن المجادل تكذيب وتأنيب
ركن المودة منا لا يزعزعه *** من لاعج القول تكذيب وتأنيب
ورحم الله الشيخ محنض باب بن اعبيد الديماني حيث يقول :
وضح الحق يالبيب فسلم*** إن تسليم الحق فيه سلامه
ليس من أخطـأ الصـواب بمخـط *** إن يـــؤب لا ولا عـلـيـه مــلامــه
إنما المخطئ المسئ من إذا ما *** وضـح الحـق لـج يحمـي كلامـه
حسنات الرجوع تذهب عنه *** سيئات الخطأ وتمحي الملامة
ملاحظة نشر هذا المقال قبل ثلاث سنين و ننشره مع عودة الجدل عنه