جمعني لقاء قبل يومين مع شابٍّ شنقيطي نابه، تعلّم على طريقة المحاضر الشنقيطية في صباه؛ شأن كثير من الموريتانيين، وإذا بيده كتاب كان منشغلا بقراءته، فدفعني الفضول إلى سؤاله عنه، فإذا به يطوّح بي يمنةً ويسرة، وهو يفيض في الحديث عن طريقتهم في طلب العلم في موريتانيا، الطريقة التي لا يزالون عليها ماضين رغم هجوم "قشور" المدنية الحديثة على أهل موريتانيا، وهم أهل زراعة ورعي في الأصل.
لا تكاد تجد موريتانيا لا يحفظ ألفية ابن مالك، ولامية الأفعال، ومختصر خليل في الفقه المالكي، ولهم عناية بمنظومة مراقي السعود في أصول الفقه، وهم قوم مالكية مالكية (كررت لفظة مالكية للتأكيد)، ويحضرني في تعصبهم (المحمود في هذا السياق) للمذهب المالكي هذه القصة.
كنت مرة في زيارة أحد الفضلاء وعنده ضيف موريتاني ذكر له قصة طريفة جدا، ذكر أن معمّما إيرانيا زار أحد مشايخهم -وذكر اسمَه ولكنّي نسيتُه، ولعلّي آتي باسمه في مقام آخر- وأخذ يخبره عن المذهب الاثني عشري، وأنهم مسلمون -وهم كذلك؛ إلا أن المذهب له ما وراءه من أغراض السياسة التي لا تخفى على عاقل- وكأنه يريد أن يتخذ في موريتانيا معقلا من معاقل التشيع -كما هو دأب إيران المعلوم- فتفطن الشيخ الموريتاني لمرامي المعمم الإيراني، فقال: أتظنّ أنك قادر على تشييعنا؟ نحن لا نكون شافعية فضلا عن أن نكون شيعة! والمقصد من ذكري لهذه القصة الطريفة أن أؤكد تعصب الموريتانيين للمذهب المالكي وحفاظهم عليه جيلا فجيلا، وكابرا عن كابر، إلى درجة أنهم لا يكونون شافعية؛ رغم تلمذة الشافعي لمالك.
سألت صديقي الشنقيطي عن هذا الكتاب فناولنيه، فإذا عنوانه: "نخبة المطلوب من شرح مطهرة القلوب"، أما الكتاب فهو منظومة في آداب السلوكِ، وتزكية النفس، والتصوّف، والأخلاق، صاحبها الشيخ محمد مولود بن أحمد فال اليعقوبي، وأما شارحها فهو الشيخ محمد الحسن بن أحمد الخديم.
جمعت هذه المنظومة أدواء النفوس وأمراضها، مشفوعة بذكر علاجها ودوائها، بأسلوب جميل مشرق، وتصدى لشرحها الشيخ المذكور.
أخبرني صديقي الشنقيطي أن هذه المنظومة منهج معتمد يشرحُه المشايخ في موريتانيا لـ"كبار الطلاب" الذين بلغوا في حفظ المتون وشروحها المنتهى؛ لتتوّج علومهم وتحاط بأسوار من تزكية النفس، وتربيتها، وتطهير القلوب، وتنقيتها من الشوائب والكدورات، ومن أوضار الشهوات وأوساخها، وأن طلاب العلم هناك يحفظونها في جملة ما يحفظونه من متون العلم، على الطريقة الشنقيطية التقليدية.
وكان شهر رمضان فرصة ليراجع صديقي هذا الكتاب ويجدد به عهده.
تصفّحت الكتاب –قبل أن أستعيره من هذا الرجل الفاضل– فوجدتُه كتابا شاملا جامعا، جيّد التقسيم، سهل المأخذ. يفتتح فيه الناظمُ الحديث بذكر التذلل وتمام الافتقار إلى الله تعالى، وهو زبدة التصوف، بل زبدة العبادة حقا، فيقول -بعد الحمد والثناء-:
بالذلّ والفقر تحقّقْ تظْفرِ.. بالعزّ والغنى من المقتدرِ
ولا نجاةَ كنجاة القلبِ.. إذ كلُّ جارحٍ له ملبِّ
قلت: نعم والله، وهو ما ورد في الحديث أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. {يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم}. فإصلاح القلب هو المقصد الأعظم من إرسال الرسالات، وبصلاح القلوب حقا ينصلح كل شيء.
ثم يقول الناظم رحمه الله:
عِرفانُ أمراضِ القلوبِ وسببْ.. كلٍّ، وما يزيلُه؛ عينًا وجبْ
أي: إن معرفة أمراض القلوب، وأسباب تلك الأمراض، ثم معرفة ما يزيل تلك الأمراض؛ فرض عينٍ على كل مسلم. وهو أولى ألف مرة من الحديث عن إسبال الثوب، وتشقير الحواجب، وغيرها من الاجتهادات الفقهية التي شغل بها المسلمون عما هو أهم وأولى.
ثم يبدأ الناظم في ذكر أمراض القلوب واحدا واحدا، ويذكر بعد كل مرض علاجَه الشافي الذي إن التزمه العبد المؤمن قضى عليه، أو خفف منه، ومرد كل تلك الأدوية التي يذكرها الناظم إلى كتاب الله وسنة رسوله، ومجاهدة النفس.
فمن ذلك مثلاً قوله:
والخوضُ فيما ليس يعني إنّما.. يحرُم حيثُ كان فيما حرُما
كالفكر في محاسن الأجانبِ.. وعوَرات المسلمينَ الغُيَّبِ
فهذا من الانشغال بما لا يجوز الانشغال به، فتفكر الرجل – مثلاً – في محاسن امرأة أجنبية عنه بغير حاجة إلى زواج أو شبهه هو من خوض المرء فيما لا يعنيه، وكذلك تتبع عورات المسلمين وتلمس مواطن الخلل فيهم؛ من الباب نفسِه.
ومن ذلك أيضا قولُه:
وباذلُ الدِّينِ لإصلاح الدّنَى.. مُداهنٌ، في بيعهِ قد غُبِنا
فالذي يتّجر بالدين ليصلح دنياه، ما هو إلا مداهن مغبون، خاسر التجارة.
لن أطيل في اقتباس الأبيات، ولكني أنصحُك –وما أنا بأهل لنصحك– أن تحصل على هذا الكتاب، وأن تنتفع به، والدال على الخير كفاعله.
رائد السمهوري
للقراءة من المصدر اضغط هنا