مساهمة في وضع تصور لإصلاح شامل للدولة / سيدي محمد ولد خطري (ترجمة)

ثلاثاء, 2016-06-14 02:54

حذرت في العام 2005 - في خضم أزمة خطرة وضعت البلاد على حافة حرب أهلية - من أن موريتانيا تقع على مفترق طرق. فقد كانت الدولة في حينه تتخبط في أزمة سياسية ؤ أخلاقية تتسم بالدكتاتؤرية المقنعة ؤ بانتشار الفساد والاستقالة الجماعية، وتحكم "أوليغارشيات" قبلية بدا شعارها "أنا والطوفان من بعدي"..

وفي حين ضربت الأزمة النخب والقواعد الاجتماعية وتصاعدت المطالب الفئوية بدت الدولة - التي ظلت مأزومة منذ النشأة بسبب اعتماد نموذج مستورد يقوم على التقليد مشروعا وطنيا لها- عاجزة عن أن تلعب دورها كفضاء للتعايش والتضامن، واستفحلت الأنانيات، لتصل الأمور إلى طريق مسدود يجعل الجميع يبحث عن طوق نجاة.

أمام هذه الوضعية التي كانت تجرى على وقع القمع والاحتقار غير المسبوق للمقدس كنا أمام خيارين:

إما أن نستسلم ونسلم بأنه لا مستقبل لهذا البلد، ونكتفي بالحد الأدنى الضروري للبقاء، والقبول بتقليص الممارسة السياسية وحصرها في المناورات والتكتيكات الأمنية قصيرة الأمد، مع ما يترتب على الأرجاء المستمر للأمور الأساسية من مخاطر محققة على الأجيال الحالية واللاحقة.

أما الخيار الثاني فهو النظرة الجادة إلى الواقع الماثل من أجل الوصول إلى خلاصة حتمية، هي أنه من أجل الحفاظ على مستقبل البلد لا بد من إصلاح جذري للدولة أساسه التشارك في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في شكل يحقق الاجماع ويعيد قطار البلد إلى سكته.

لم يُلق أي أحد بالا إلى هذا التحذير في حينه بل أن البعض ربما سخر منه.

وبعد أشهر قليلةاستيقظ الموريتانيون علي انقلاب أغسطس 2005

و رغم أن هده الحركة الانقلابية مكنت من تلافي العنف المحدق، و رفع سقف الحريات، إلا أن البلاد ما لبثت ان دخلت من جديد في أزمة سياسية طاحنة أخري ستستمر إلى العام 2008 حينما سمحت اتفاقيات داكار بإجراء انتخابات ديمقراطية فاز فيها الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز.

ومن العام 2008 إلى الآن تمكن هدا الأخيروبفضل سلسلة من السياسات والمبادرات الجريئة من إنقاذ السفينة الوطنية.

و إذا كان الأمر فعلا هكذا كما في تصوري فانه من الثابت أيضا أن الأزمة البنيوية التي تعيشها البلاد منذ عقود ما تزال ماثلة مع ما تشكله من مخاطر و تهديد في ظل بروز ديناميكيات اجتماعية غير مسبوقة تجعل من المستحيل الإبقاء علي الوضع الحالي الذي تطبعه معادلة توزيع سياسي و اقتصادي و اجتماعي ظلت علي ما هي عليه مند الاستقلال الأمر الذي يؤكد من ما يؤكد الضرورة الملحة لولوج مرحلة جديدة من الإصلاحات الراديكالية بغية إيصال البلد إلي بر الأمان.

أولا: دولة الاستقلال:

ظهر الرئيس المختار ولد داداه عند إعلانه الاستقلال الوطني في 28 نوفمبر 1960 في الزى الغربي، وتحدث بالفرنسية.. وتشير هذه التفاصيل الرمزية وأخرى غيرها كثيرة لن أتعرض لها هنا إلى أن النخبة الناشئة المؤسسة اختارت - صوابا أو خطأ- منذ البداية، الانحياز إلى مشروع دولة وطنية عصرية تقوم على أساس مبدأين أساسيين: الهوية الوطنية الجامعة، والمساواة.. وهما قيمتان على طرفي نقيض مع النظام الإقطاعي وسلمه التراتبي المسيطر آنئذ .

وبذل الرئيس المختار ومساعدوه ما في المقدور من الجهد من أجل النجاح في وضع بذرة التأسيس الأولى.

وأطلق المؤسس حملتين متزامنتين إحداهما داخلية تهدف إلى تثبيت مفهوم الدولة الجديد في أذهان سكان غير واعين بهذا المفهوم. والثانية على المستوى الخارجي تهدف إلى الحصول على الاعتراف الدولي.

فعلى مستوى السيادة الداخلية، وبالرغم من ضعف الموارد البشرية والمالية، عملت الدولة الجديدة على تأكيد سلطتها على الحوزة الترابية الشاسعة للجمهورية الوليدة. ولهذا الغرض تأسس الجيش الوطني وقوات الأمن وإذاعة موريتانيا، دون إهمال المصالح الخدمية كالإدارة الاقليمية الناشئة.

وعلى المستوى الأيديولوجي سعت السلطات الجديدة مبكرا إلى إحداث تطور في العقليات، يشجع الوصول إلى وعي بالهوية الوطنية وبالمواطنة، يراعي الحالة الاجتماعية بحيث يتجنب الصدام مع الجماعات الإقطاعية القبلية والقروية المسيطرة وقتها.

وفي البداية كان تأثير هذه السياسات خجولا، بل يكاد يكون منعدما؛ فبنية النظام الاجتماعي والاقتصادي بقيت على حالها، لأن الاقتصاد الزراعي - الرعوي ظل الوسيلة الوحيدة لإعادة إنتاج المجتمع قي استقلالية تامة عن الدولة الحديثة المعدمة؛ وعلى مستوى الوعي الاجتماعي ظلت الفئات المسيطرة على قناعتها بأحقيتها في الموقع الذي تحتله، وبقي من هم في أسفل الهرم، في جهلهم وسوء حالهم، ينظرون إلى تبعيتهم المزرية كأمر عادي.

ومع نهاية ستينيات القرن العشرين وبداية سبعينياته عرفت المسيرة الوطنية قفزة نوعية فاصلة تعود إلى دخول عاملين كان لهما تأثير جدي في النظام التقليدي وأسسه الاقتصادية والأيديولوجية على حد سواء.

هذان العاملان هما اولا: كارثة الجفاف الماحق الذي ضرب البلد كله مع نهاية الستينيات وهز المقومات الاقتصادية للنظام الزراعي- الرعوي وأرغم السكان على الالتفاف حول الدولة الجديدة التي أصبحت الضامن الوحيد للبقاء عن طريق الإسعاف بالمواد الغذائية.

أما الثاني فكان النشاط الخارق لحركة الكادحين التي نجحت بشكل لافت، خلال سنوات قليلة، في إحداث تحول سريع في العقليات، في اتجاه الوعي بالهوية الوطنية وبضرورة المساواة في المواطنة.

لقد كان وقع التحولات الناتجة هائلا، وتضخم بفعل تأميم "ميفارما" وتدفق رأس المال الأجنبي، خاصة من الشرق الأوسط، كثمرة لنجاح دبلوماسيتنا في تلك الفترة.

في هذا الوقت بالذات قرر الرئيس المختار ان الفرصة أصبحت سانحة للتصدي للإقطاعية القبلية والقروية، ونعني بالقروية شكل الإقطاعية في الجنوب حيث تتفاوت أوضاع الناس بتفاوت فئاتهم الاجتماعية الأصلية؛ فالرفيع يولد ويموت رفيعا والتابع يولد ويموت كذاك.

تم اعتماد سلسلة سياسات وخيارات إستراتيجية ذات طابع تقدمي مست جوانب عدة وخاصة السياسة و الاقتصاد و الثقافة.

وهكذا كان الجميع، في أواسط السبعينيات، على موعد مع دولة موريتانية تشهد تحولا ت جذرية علي كافة الأصعدة.

ثانيا: الحرب والانقلاب.. الارتكاسة

وللأسف جاءت حرب الصحراء والانقلاب الذي ترتب عليها العام 1978 لتضع حدا لهدا المسار التنموي اللافت، الذي كان قبل كل شيء- وهذا ما يجب الإقرار به- نتيجة لمبادرات ذاتية من نخبة متأثرة بالمحيط الدولي آنذاك أكثر منه بالواقع المحلي..

ومنذ اندلاع تلك الحرب والانقلاب العسكري الذي أوقفها بدأت الجماعات الإقطاعية القبلية والقروية تستعيد قوتها واجدة سندا في الدكتاتوريات العسكرية المتعاقبة. ودفعت "الدمقرطة" السياسية هذا التراجع إلى أبعد حدوده. وحلت محل اندفاع النخب المؤسسة براغماتية باهتة عديمة الطموح نحو مساءلة التاريخ.. وطغى الهم الأمني والتسلط لتضيع مكتسبات العقدين الأولين من الاستقلال الوطني.

من هنا صارت كل حكومة تعتمد وصفتها القبلية الآنية؛ وفي المقابل اعتُرف لـ"ألأوغارشيات" القبلية والقروية الي جانب النخب الفاسدة بدور الوسيط الذي لا غنا عنه بين المواطن والدولة، ما أتاح فرصة الاستحواذ على جل الموارد الاقتصادية من الاستثمار إلى التوزيع، مرورا بالتعيينات والتوظيف والمنح الدراسية والنفاذ للخدمات الأساسية وحتى بتوزيع المساعدات الغذائية.

وتندرج تماما سلسلة المبادرات القبلية التي شهدتها الساحة السياسية مؤخرا ضمن هذا المنطق الإقطاعي المصر على التحكم في مختلف هياكل الدولة؛ فهذه الزعامات تسعى من جديد لإقناع كل موريتاني بأنها تظل الممر الأوحد لتمرير و تحقيق مصالحه ، في حين تخيل إلى الدولة أنها صاحبة الكلمة الأخيرة في كسب أصوات الناخبين.

وتداخلت تأثيرات هدا التراجع الذي أشرنا إليه آنفا مع أزمة أخرى لا تقل خطورة هي الأزمة الأخلاقية غير المسبوقة التي يتخبط فيها البلد منذ عقود.

فعلى المستوى الاجتماعي سيتضخم تأثير الهجرة من الأرياف الناتج عن الجفاف المتواصل بالانبهار بالمدينة، والآمال المعلقة عليها إما بتعليم الأطفال في المدارس أو بتحسين ظروف العيش.

وأمام حركة الاستقرار السريعة هذه، بدا الاقتصاد الوطني الناشئ عاجزا عن توفير وسائل العيش اللائقة، من دخل ونفاذ إلى والخدمات الأساسية. وهذا ما فتح الباب أمام عصر أحياء الصفيح، وانتشار الفقر البنيوي الأمر الذي وضع نظام القيم التقليدي في محنة.. وبالتدريج أخذت القيم الأخلاقية لنموذجنا الديني والثقافي تنهار لصالح متطلبات ثقافة "الضرورة" بما تقتصي من تجاوز و تحايل وتكيف أصبحا في لب استراتيجيات البقاء اليومية.

وصاحب انهيار المنظومة الأخلاقية ضعف في رسوخ ثقافة المواطنة والشعور الوطني الذي يعود سببه لحداثة نموذج الدولة المعتمد و قطيعته مع المخيل الجمعي، مما يفسر نجاة كل الأنظمة السياسية المتتالية من مواجهة العقاب الشعبي عبر المطالبة الحقيقية بالديمقراطية أو بإضفاء الأخلاق على الحياة العامة.

إنه بشكل من الأشكال، مجتمع يتفرج تاركا للمحيط الدولي حسب اعتباراته الجيوسياسية مهمة تحديد درجة الانفتاح السياسي لدى كل فريق حاكم جديد.

وضرب أحد أوجه هذه الأزمة الأخلاقية غالبية نخبنا الوطنية التي استسلمت تدريجيا لإغراءات الفساد في قطيعة مع روح التضحية والنزاهة الأخلاقية التي تحلى بها الآباء المؤسسون والتيارات الأيديولوجية التي ظهرت بعد الاستقلال.. فقد انغمست هذه النخب المنحدرة في الغالب من أوساط إقطاعية في الفساد تدفعها عدة عوامل منها عجزها – بالحلال- عن الوفاء بالالتزامات المترتبة على مستوى معيشيا استهلاكيا مستوردا في الغالب من مجتمعات متقدمة، ووقوعها تحت ضغوط اجتماعية وسياسية لا يمكنها تحمل تبعاتها المادية... زد علي دلك التشجيع الذي تجده تلك النخب في انعدام نظرة اجتماعية تزدري هذا السلوك..

ومن هنا أصبح الاختلاس واكتساب المزايا على حساب الدولة، والمتاجرة بالنفوذ أهم وسائل الرقي الاجتماعي

لقد جاءت هذه الأزمة الأخلاقية المزدوجة التي ميزتها الاستسلام الجمعي و التجاوزات والإفلات من العقاب لتضاعف التأثير السيئ للقبلية والفئوية القروية في توطيد دعائم ثقافة تجعل من السياسة هذا الفن الرفيع في إدارة الشأن العام مجرد أسلوب للوصول إلي سلطة يدرك الجميع عدم جدوائية محتواها لكونها مختطفة مسبقا من طرف مناخ أخلاقي و اجتماعي محبط|.

إن وقع هده الأزمة الهيكلية لم يعد مقتصرا على الأضرار الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الفادحة التي تمس كل الشرائح دون تمييز، بل نراه يدخل طورا جديدا ميزته تنامي العصبيات و الإشكاليات المرتبطة بالهوية الضيقة مع ما يتولد عن دلك من أحقاد و مواجهات لا يمكن التحكم في عواقبها.

ثالثا: المطالب الفئوية

في المراحل الاؤلي من فترة ما بعد الاستقلال، ظلت المساواة في المواطنة التي تبنتها الجمهورية من باب الشعار الهادئ والسطحي، طالما ظل المحيط الاجتماعي، بكل طبقاته متشبثا بالبنية الأيديولوجية للنظام الإقطاعي التقليدي، المناقضة للمساواة، والتي يحدد فيها النسب والوراثة مكانة كل فرد ودوره.

أما ألان فنجد أن الوعي ألاجتماعيي قد تطور

فالشرائح التابعة تاريخيا، وإن كانت ما تزال الأكثر معاناة من الفقر والأمية، قد أصبحت أكثر وعيا بحقوقها الوطنية والمدنية، وأكثر تعبئة من أجل الحصول عليها، وهي تعي أن نظام الفئات، أو النظام التراتبي الإقطاعي بتواطؤ مع النخب الفاسدة، يسد أفق المساواة الفعلية في المواطنة أمامها، وبأن وضعها كمواطنين من الدرجة الثانية محكوم عليه بالجمود ما دامت الدولة رهينة لهدا الواقع.

لقد بدأت بوادر هذا الموسم الصاخب في الظهور؛ فلا وجود لأي مطالبة بالمساواة الاجتماعية تصدر من داخل قبيلة أو قرية من قبل الخاضعين السابقين على شكل طلب "تبنعميت" "فالكل مقتنع بأن الوضع الموروث بالنسب حدد مكانة كل فرد للأبد. ولقد أصبحت هذه الفئات التابعةتضع آمالها في النضال و المقارعة.فعبارات "حرطاني، و"امعلم"، و"آزناكَي"، و"ماتيودو"، وغيرها أضحت ظاهريا ترجمة لخصوصيات ضيقة أفرزتها أرضية الحرمان والتمرد على نظام أصبح الجميع يعي ويحس بأنه ظالم ولا صبر عليه، بينما هي في الواقع بادرة تنذر بانتفاضة كاسحة من قبل كل ضحايا الغبن والفساد من أجل الحصول على معادلة جديدة للتقاسم السياسي والاجتماعي والاقتصادي تفكك صيغ الاحتكار والإقصاء المتبعة حتى الآن. وأمام وضعية كهذه لا بد من استعجال فك رموز هذه الديناميكيات الخصوصية بوصفها تطورا للعقليات ووعيا بخطورة التصدعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الماثلة.

إن الأمر يستدعي وثبة تاريخية تخرجنا من جو اليأس الملتحف بالتردي الأخلاقي وقصر النظر المرادف لأسلوب العمل على الأمد القصير كأنما نسير على خطى من قال: "أنا والطوفان من بعدي

رابعا: ما العمل؟

قد يتساءل المرء، "ما العمل؟"..

إن الأمر في تصوري لا يعني، بأي حال من الأحوال الغوص في النظريات او المطالبة بإلغاء أو إسقاط نظام اجتماعي معين.

في الحقيقة أعتقد أن أهمية الموضوع تقتضي نقل النقاش إلى أرضية أخرى أكثر حسما و إقناعالاستنهاض روح المسؤولية لدى الجميع.

أنها المطالبة أساسا باستنطاق غريزة حب البقاء.. وانطلاقا من هنا أدعو كل واحد منا إلى محاولة التنبؤبمصيره أولا وبمصير أبنائه و أحفاده إن ظلت أحوال البلد علي ما هي عليه. و لا يراودني هنا أي شك ان خلاصة هدا التنبؤ ستأتي مخيبة لكل الآمال بل أكثر من دلك مرعبة..

إنه بالانطلاق من هذه "البراغماتية" البحتة سنتوصل الي قناعة راسخة بضرورة أخد التدابير اللازمة لمواكبة موضوعية لتاريخ يتحرك بسرعة من أجل ضمان انتقال سلس توافقي نحو مجتمع يسوده العدل والمساواة قدر الامكان..وهذه في رأيي هي الطريقة الوحيدة لقطع الطريق أمام معزوفة اليأس المتسللة إلى آذان كثيرين: " ليس هناك ما يمكن القيام به.. لقد ضاع البلد"...

وفي شكل ملموس فان مواكبة هدا المنعطف الخطير تتطلب قبل كل شيء إدخال إصلاح راديكالي على الدولة، واستخدام كل الأدوات المتاحة ( إرادة سياسية، مصادر اقتصادية ومالية وسائل اتصال ، ثقافة، مدرسة، إدارة، عدل...) من أجل سياسات طوعية شجاعة تضمن وتؤمن هذا الانتقال السلمي حتى يصل إلى مبتغاه.

و قبل الدخول في تفاصيل المقترح لا بد من الإشارة إلي جملة من الممهدات الضرورية لانطلاق هدا التحول الاستراتيجي، وتعني في المقام الأول طبقتنا السياسية و في مُقدَّمِتها رئيس الجمهورية بصفته الشخصية الأولى في الدولة.

ومن هذه الأمور:

- الوعي بدقة المرحلة التاريخية التي يمر بها البلد؛ وقد تستفيد هذه الملاحظة من الاعتماد على قناعة فلسفية بأن صنع التاريخ يمكن أن يتأثر و يتسارع بفعل المبادرات الشخصية.

- تبني خطاب سياسي يبرز بوضوح للجميع التوجهات اللازمة

- إدخال روح جديدة لكل السياسات المنفذة أو المقررة، دون أن نتجاهل التنازلات الضرورية التي يمليها منطق الدولة (raison d’etat" (والواقعية السياسية"، (real politique)بحيث يعي الجميع أن القانون عموما، إما أن يحترم أو يلغى، ولكن لا يجوز التحايل عليه.

- الاستعانة ببطانة صالحة، من نساء ورجال يجمعون خصال النزاهة والكفاءة والوطنية، والانسجام والقدرة على التصور وتقديم المشورة والتنفيذ.

- استعداد الجميع للتشاور والحوار بأسلوب حضاري، وفي قطيعة تامة مع ساقط القول وثقافة المدح والذم السائدة، لصالح الألفة والتواصل عن قرب بين جميع قادة الرأي

- الوعي بأن للدولة اليد الطولي كلما شاءت. ف"الأوليغارشيات" القبلية و النخب الفاسدة لم يعد لديها من نفوذ سياسي فعلي إلا ما تعترف لها به الدولة..ذلك أنه ليس في مقدور أي مشيخة قبلية توفيرالوسائل الأزمة للحفاظ على سلطتها من حيث الجوانب الاقتصادية أو الرمزية.

وتعود هذه الوضعية إلى تضافر عدد من العوامل منها تدهور المرتكزات الاقتصادية للنظام التقليدي، وتعاظم الدور الاجتماعي والاقتصادي للدولة في بلد ضعيف التراكم الرأسمالي الخاص، والاندماج التدريجي لغالبية السكان في متطلبات تصور تطغي عليه الثقافة الاستهلاكية، وأخيرا تطور العقليات المرافق للنفاذ المتنامي إلى وسائل الاعلام والمعرفة.

لقد جعلت نتائج كل هذه العوامل المتطلبات الاقتصادية والمالية المحدد الأساسي لأولويات معظم الموريتانيين وهي من دون شك تأتي قبل عوامل العصبية

خامسا: أي إصلاح؟ إن مضمون هذا الإصلاح الملح سيكون أكثر تناسقا وعمقا إن هو صدر عن منتديات وطنية مفتوحة أمام كل القوى الحية في البلد، مع أنه من الممكن منذ الآن وضع بعض معالم أهم هده السياسات والو رشات دون الدخول في تفاصيل وتصنيفات الخبراء مع الإشارة هنا إلي أن مجمل هده السياسات يصب في تحقيق خمسة أهداف هي في رأيي ضرورية لانقاد مستقبل بلدنا، واعني السعي إلي ترسيخ الهوية الوطنية وثقافة المواطنة وبعث روح العمل و تشجيع الكفاءة و الاستحقاق و محاربة الفساد والانهيار الأخلاقي، الكل في إطار مجهود تنموي اساسه التسيير المحكم و التوزيع العادل للثروة الوطنية.

- الحرب على الفساد:

إن مواجهة الفساد تأتي في مُقدَّمة الأولويات لمن أراد إنقاذ هدا البلد. فالفساد هو لب الأزمة الأخلاقية و جل المصائب التي تعصف بالبلد و التي تقف عثرة كأداء امام توزيع منصف للثروة و الخدمات علي حد سواء. فهده الظاهرة هي المغذي الأساسي للشعور بالظلم و الغبن و الحرمان لدي أكثرية متزايدة من الموريتانيين. وتتحكم جدية هذه الحرب في مصير كل السياسات الأخرى.

ولا بد من الاعتراف في هدا المجال بالجهود التي بذلت في السنوات الأخيرة.مع العلم أن عمق الأزمة و تجذرها اثبت ضرورة شن حرب جديدة لا هوادة فيها من حيث الراديكالية والشمولية مثل التي مكنت دولة غانا الفقيرة من إحراز طفرة تنموية خارقة في ظرف قصير نسبيا

وينطلق ذلك من الآتي:

- سن و تنفيذ تشريعات رادعة ضد مرتكبي جرائم الرشوة والاختلاس يمكن أن تصل إلي الإعدام في حق مرتكبي الجرائم الاقتصاديةالكبرى. .. وينبغي أن تشمل هذه الأخيرة إضافة إلى الاختلاس المباشر للمال العام كل المزايا ذات الطابع ألريعي التي سمحت لمجموعات ضيقة بالثراء الفاحش، خفية وفي زمن قياسي، على حساب الشعب الموريتاني.

- اعتماد مبدأ عدم تقادم تلك الجرائم سعيا الي مزيد من الردع

الاستعانة ادا لزم الأمر بالخبرة الدولية في هذا المجال وأعني هنا المنظمات الدولية ذات المصداقية

- تطهير الأجهزة القضائية والإدارية، من شبكات الفساد التي تقف عائقا دون التسيير الشفاف لهذه المرافق العمومية الحيوية

- تشجيع النزاهة الأخلاقية والكفاءة المهنية في تدبير الشأن العام

- اعتماد مقاربة إعلامية خاصة بفضح و متابعة ملفات الفساد

- السهر علي الاحترام الدقيق لمبدأي الاستحقاق والكفاءة، علما بان نسبة كبيرة من أفضل أدمغة الوطن قد اضطرت إلي الهجرة بسبب تفشي الزبونية و المحسوبية. و هنا أيضا يجب مراعاة قسط معين من التمييز الإيجابي لصالح "الفضاءت" المهشمة تاريخيا, علما بان هده الورشة لا تقل أهمية عن محاربة الفساد لان الكفاءة هي التي تخطط و تسير و تتابع.

- إعطاء الأولوية لمتطلبات التنمية والاستصلاح الترابي المنسجم حينما يتعلق الامربتخصيص الموارد الاقتصادية والمالية مع إدخال قسط من التمييز الإيجابي لتعزيز محاربة الهشاشة التي يعاني منها- في الواقع- كل الأوساط الاجتماعية.

- ترسيخ فصل السلطات لتحسين مستويات الأداء و الرقابة و الشفافية

- تعزيز المكاسب في مجال الحريات الفردية والسياسية، بغية تسريع وتيرة الوعي بالمواطنة و ثقافة الحقوق و الواجبات

- العناية بتوفير خدمة إدارية قريبة من المواطن تؤمن علاقة مباشرة بينه والمسئولين الإداريين

- اعتماد إستراتيجية ثقافية وإعلامية تتمحور حول نشر وتشجيع قيم المواطنة و الحرية و الأخوة و المساواة والتضامن والتسامح، مع التنديد المستمر بالعنصرية والقبلية والمحاباة والزبونة.

ومن الضروري أن تستلهم هذه الإستراتيجية مواضيعها من ثقافتنا الإسلامية، حيث التضامن والتسامي؛ ومن النموذج العصري حيث الديمقراطية تعني المساواة و يكون دلك كله علي خلفية إسناد دور مركزي للشباب في بلورة مفاهيم و قيم هذا التوجه.

و لدعم المشروع ينبغي توظيف كل الدعامات المتوفرة من إذاعة وتلفزيون وصحافة مكتوبة وحملات وملصقات ومهرجانات وندوات تحسيسية وغيرها، لنشر روح الالتزام الوطني وتعميمه، والقطيعة مع استخدام هذه الوسائل في خدمة مهرجانات قبلية وجهوية جوفاء وهزلية، تفرق أكثر مما توحد..

- التخلي في أسرع وقت ممكن عن هذا التعليم الأعرج الذي يوفر اكتساب المعارف لأقليةمحدودة في حين يبقى مصيرالأكثرية من أبنائنا البطالة و الضياع هدا بالإضافة إلى كون طرق التدريس والتربية المدنية المعتمدة عاجزة عن غرس أدنى شعور بالتضامن وبوحدة المصير.

- التشاور بين مختلف الفاعلين السياسيين و إلي جانبهم المجتمع المدني، من اجل إدخال التعديلات الدستورية والمؤسسية والقانونية التي من شأنها أن تسهم في ترسيخ هدا الإصلاح الشامل.

- ومن نافلة القول طبعا الحفاظ على الجهود الهادفة إلى القضاء على مخلفات الاسترقاق.

تلكم، من وجهة نظري المتواضعة جملة من السياسات و المبادرات غير الحصرية التي يجب علينا اعتمادها إن أردنا معالجة أسباب الأزمة الهيكلية التي سبق تشخيصها. تلكم جملة من التضحيات التي لا مفر من تقديمها إن أردنا توجيه رسالة أمل ثانية إلي كافة الموريتانيين بان دولتهم قد ولجت منعطفا جديد ميزته الشراكة و المساواة و الجدية و الصرامة.

وباتخاذ الإجراءات المقترحة نحصن بلدنا من الانفلات في دوامة صراع يعلم الجميع ان البلد اصبح منه قاب قوسين أو ادني.