أستاذة جامعية تحكي قصتها مع مختبر كلية الطب و تتحدث عن واقع البحث العلمي في موريتانيا

اثنين, 2016-06-13 10:03

من صفحة الدكتورة Fatou Veten

رمضان مبارك كريم وكل عام وأنتم بخير
كان الاستماع الى"الحكواتي"من تقاليد بعض العرب في رمضان
وسأحاول هنا أن أَتقمص ذلك الدور لأروي لكم هذه الحكاية فاستمعوا أو أقرؤوا ..
...
الزمان : الأيام الأولى من شهر رمضان المعظم 2015 أي قبل عام من الآن..
المكان: أرض قاحلة جرداء تقع شمال غربي إحدى مقابر أهل بوحبيني في بقعة تسمى جامعة التكنولوجيا والطب..
الحدث : دورة تكوينية في مجال علمي بحت ..
اذا الأمر عادي جدا وكل شيء يبدو طبيعيا (ولله الحمد والمنة) الا اذا اعتبرنا أن الأمور التالية قد تبدو مختلفة بعض الشيء :
الطالب قيد التكوين : دكتور وأستاذ في كلية الطب بإحدى الدول المجاورة.
الأستاذ المكوِن : دكتورة موريتانية خريجة الجامعة التي أتى منها الأستاذ ولا يربطها أي عقد عمل ولا اكتتاب مع جامعة التكنولوجيا والطب الموريتانية.
المستفيد : الطرف الذي تقدم بالطلب وهو الأستاذ (الطالب) والذي كان قد أُعجب ببحث أجرته زميلته وتعاونت فيه وعلى مدى عدة سنوات مع بعض الجامعات ومعهد باستير في تونس ليتم نشر نتائجه في مجلة علمية دولية متخصصة .. ولهذا قرر ذلك السيد أن يحذو حذوها ويقوم بدراسة مماثلة في بلده .. فطلب التكوين..
التمويل :
- المواد والتجهيزات المخبرية وفرتها جامعة التكنولوجيا والطب الموريتانية
- منحة الطالب : تذكرة السفر وتكاليف الإقامة كلها مقدمة مسبقا من طرف الجامعة التي أرسلت الطالب . الا أن الجامعة الموريتانية أيضا واعترافا منها بالجميل -فهذه المرة الأولى التي يأتي فيها للجامعة طلب من هذ النوع (حٓوْلِ الْعٓزْبٓة لٓوّلْ) - تبرعت عن طريق رئيسها البروفيسور بحجز جناح في إقامة تامكوط (20000 أوقية لليوم) بلإضافة الى مبلغ نقدي بقيمة 20000 الف أوقية أخرى يوميا وذلك لضمان رفاهية الضيف وتعويض عن كل يوم يمضيه هذا الأخير على أرضها .

أما الأستاذة المكونة فكان عليها :
- أن تقطع سفرها الى المملكة المغربية وتأتي على الأقل أسبوع قبل وصول الضيف وذلك من أجل التحضير للحدث الهام (..!)
- قطع أكثر من 40km يوميا ولقرابة شهر ( بين التحضير و التدريب .. )
- العمل المتواصل لمدة ثمان الى تسع ساعات يوميا على الأقل.
- حضور وجبة غداء الضيف بل وأحيانا كان عليها البحث عنها وتوفيرها وذلك لأن الأخير كان "كافر وامسافر" سلمكم الله.
كما كان عليها أيضا الوصول كل يوم باكرا أي قبل حضور "الزعيم"..
أما مسألة العودة الى البيت فإن توقيتها ليس اختياريا بتاتا وذلك لأن التقنيات المتتالية تتبنى مبدأ "من دخل في عبادة وجب عليه إتمامها" وان هي قُطعت لأمر ما فإن إعادتها ستتطلب يوما آخر.. ولهذا أضحى استقبال أذان المغرب واحتساء الجرعة الأولى من الماء في أحد شوارع العاصمة المزدحمة وقتٓ الإفطار أمرا مألوفا بالنسبة لها ..!!
وبعد ان اكتملت المدة وأنجزت فيها كثر من 70 تقنية PCR-RFLP متوالية وهو أمر قياسي وبعد الكثير من التركيز ومحاولة توصيل أكبر قدر ممكن من المعلومات والإرشادات لذلك الطالب المتحمس انتهى أخيرا وقت الدورة وحان وقت الرحيل.. وبابتسامة عريضة ودع الضيف مستقبليه منشرح الصدر منطلق الأسارير وهو يعترف أن لسانه كل عن التعبير عن مدى سعادته وامتنانه وعرفانه بالجميل فقد تعلم الكثير وساح وارتاح في بلدهم (حسب قوله)..

لكن وبما أن تعليم غير المسلم لتقنيات البيولوجيا الجزيئيّة لم يرِدْ في الأثر أنه كان من فضائل الأعمال التي يتسابق السلف الصالح الى عملها في رمضان ولم يروى فيه حديث ولا آية فإنه كان على أحدهم أن يستفسر عن المقابل الذي ستتلقاه تلك الشابة بعد كل هذا الجهد والتعب والتفاني والنجاح في مهمتها .. لكن الجواب جاءها واضحا مجلجلا كضحكة ذلك الغريب يوم استلامه مكافأته من الخزينة العامة للدولة قبل رحيله...!!!
التعويض المادي : اعتذار من رئيس الجامعة الموقر وذلك لأن الجامعة لا تدفع "فرنكا" للمكونين (les formateurs ).
المقابل المعنوي: رفٓض الرئيس استقبالها في مكتبه .. (لا تعليق)
اليوم وبعد أن استقبلتْ صاحبة هذه القصة الأيام الأولى من هذا الشهر الفضيل تذكرتْ كم كانت تعمل كالماكينة في تلك الأيام .. وتذكرتْ الوسائل التي كانت تُقلها الى تلك الصحراء وتذكرت كم شخصا طلبت منهم مرافقتها أيام التحضير وذلك لأن الجامعة عادة تكون خالية في المساءات الرمضانية. تذكرت يوم اضطرت والدتها الى مرافقتها لتكون شهادتها حية على كل ذلك ..
نعم لقد تذكرت ما لم تنسه أصلا
تذكرت أنه قد مضى عام كامل من الصمت والمقاطعة
وأنه مر عام تقريبا أيضا على هجرها لتلك الأرض مما ساهم في إغلاق ذلك المختبر الذي كان الأول على مستوى الوطن من حيث عدد البحوث المنشورة دوليا .. ذلك الذي كان حسب شهادة الجميع هو الأكثر نشاطا والذي كانت أبوابه مشرعة أمام جميع الطلاب والباحثين على مدى سنوات عديدة .
المختبر الذي كانت صاحبتكم أول طالبة باشرت البحث فيه تحت إشراف الأساتذ الأكثر كفاءة واستقامة وخبرة في مجاله (جازاه الله خيرا) .. الرجل الطيب المعروف دوليا والذي أسس نواة المعمل من العدم ثم سهر على العناية بها حتى أصبحت ثمرتها ناضجة فخطفوها ورموها أرضا ..
ذلك المختبر الذي ساهم في وقت قصير في تخريج 5 دكاترة وأكثر من 10 يحملون شهادة الماستر.
ذلك المختبر الذي كان كل شيء فيه له قيمة عالية .. فالتجهيزات بعشرات الملايين .. والتقنيات عالية الجودة .. والتنظيم والدقة في العمل و الإشراف على الطلبة .. كل شيء كان ثمنه مدفوعا وقيمته معتبرة الا "الانسان".
الانسان الذي لم يكن في البداية سوى صاحبتكم ثم التحقت بها أخرى فتقاسمت معها كل الذي تعلمت قبلها وكل الذي عانت وستعانيه.. ثم تقاسمتا معا وقتهما مع كل اللاحقين ..
كانتا هناك حين قرر أحدهم فجأة أن يفتح قسم الماستر في البيولوجيا ثم يختفي لتبقيا ساهريتن على كل شيء .. ساهريتن لأنه في كل مرة تكون هناك طائرة قادمة من فرنسا تحمل محلولا شديد الحساسية يجب أن تكونا هناك .. وعليهما طلب المساعدة من الأهل والمعارف والمدير والعامل ليخرج ذلك المحلول دون ضرر (وأهل الجامعة نائمون)
تقاسمتا الرحلات الى مدارس الصم والبكم والعمي .. فتلك الطالبة بحثها على هذا والأخرى على ذاك .. ثم تقاسمتا السهر على تنفيذ كل فقرة من فقرات تلك البحوث ..
وكانتا هناك حين انتقلت الجامعة الى الركن القصي
وعملتا ليلا ونهارا وقرا وحرا ليصبح مختبرهما هو أول شيء تدب فيه الحركة في ذلك الخلاء،.
كانتا هناك من أجل تبييض وجه الجامعة حين توالت عليها الزيارات .. وزراء محليون وأجانب وبعثات..وممولون.
كانتا هناك لتشاهدا ابتسامة رئيس الجامعة وهو يعرض إنجازاته !!!!! وحين يتولى الركب ينكر أنه عرفهما يوما ..
كانتا هناك وأخبرتا وزير التعليم بعد زيارته الثالثة لمختبرهما أنه يكفي تطوعا .. وكانتا هناك حين أمر الأخير بضرورة التعاقد معهما و كانتا هناك حين منحهما الرئيس تعاقدا لا يليق ببواب ثم كانتا هناك أيضا حين نكث به بعد شهرين..
كانتا هناك و فعلتا كل شيء من أجل لا شيء ... لا شيء فحتى عبارة : تحت إشراف "د. فلانة" كانت غائبة عن جل الرسائل التي أشرفتا عليها..
اليوم وبعد كل هذا وذاك تريد صاحبتكم أن تهمس في أذن السيد رئيس جامعة التكنولوجيا والطب قبل أن يقال أو يستقيل وتخبره أن تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تجلس وحيدة على مقاعد الابتدائية لأن مثيلاتها لا يتعلمن في المدارس.. تلك الفتاة التي نزح أهلها عن بلدهم وهي في الحادية عشرة من عمرها لتكمل تعليمها .. تلك الفتاة التي كانت تدرس فوق السطح في ساعات الفجر الأولى لأن الضيوف نائمون .. تلك الشابة التي أصرت عل أخذ البكالوريا في عامها الأول وبتفوق .. تلك التي تخرجت من كليته وكانت الأولى على دفعتها .. ثم تغربت ولم تكن رحلاتها سهلة كباقي المغتربات ( .. )..تلك التي تركت الأهل كبارا وصغارا وقلبها يعتصر ألما في كل مرة كان يتحتم عليها فراقهم.. لتكابد غربتها وحدها ثم وبعد جهد مضن و سنوات عجاف وقف ذلك الأفريقي الأبح ليخبرها أنها نالت شهادة الدكتوراه بتقدير ‫#‏مشرف_جدا_مع‬ تهنئة_اللجنة .. تقدير على حد علمها لم يمنح لأحد من الذين عرفتهم هناك.. والحمد لله رب العالمين .. نعم تريد هذه أن تخبر تلك المجموعة هناك وبالأخص ذلك الرجل الجالس على كرسيه في الطابق الأول من تلك البناية الحديثة أنها لم تَخَلَّق من أجل هذا ... فليس هذا أبدا ماتعلمت وتعبت
من أجله .. فلم يكن من ضمن أهدافها أبدا أن تعلِّم له خؤولته ليكرمهم ويهينها..ولا أن تُنجح له "ماستره" ولا "دكتوراه"
وفي الختام تعتذر صاحبة هذه القصة لكل الطلاب الذين رفضت مساعدتهم هذه السنة وآثرت عدم الإشراف على بحوثهم .. ولكل الذين كانوا يعولون عليها في مسعاهم لنيل شهاداتهم فإنها تقول : تريثوا ولا ترهقوا أنفسكم بل وان استطعتم أن تكونوا أجانب فكونوا والا فالأحسن ان تتحولوا الى أجهزة أومعدات لتدخلوا في إحدى الصفقات وبذلك سيكون لكم ثمن عند ذلك الجالس هناك ..
ورغم مئات الكلمات التي كتبت هنا الا أنه بقي الكثير مما ترك ولم يقال .. وذلك لأن لرمضان حرمته كما أن للمظلوم أيضا دعوته ..
تقبل الله صيامنا وصيامكم