لست من الذين يفخرون بأن ما يمارس على فئة عريضة من السكان ليس العبودية وإنما هو مخلفاتها فقط - وكأن المخلفات إنجاز وطني مشرف - إذ لا ألمس فرقا جوهريا بين عبودية الاسترقاق وعبودية الاستغلال ولا أعلم أيهما أقل إنسانية ولكنني موقن بأنهما تجلبان العار لهذا البلد ومواطنيه.
إن سوء الطالع المفروض على هذه الشريحة من طرف السلط والمثقفين عبر الأحقاب ليس له حدود فسياسات التعتيم والتكميم التي تمارسها الأنظمة وتآمر النخب وتقاعس منظمات المجتمع المدني جعلت مراكز البحث العلمي والمشتغلين بعلم الاجتماع لا يقدمون أي معلومات موثقة أو استبيانات مفصلة يعتمد عليها من الكتاب والباحثون في شأن لحراطين فجاءت كتاباتنا أقرب إلى استقراء الظروف والظواهر منها إلى الكتابة العلمية الموثقة فنحن لانعلم شيئا عن عدد أفراد هذه الشريحة ولاعن معدلات الأمية والبطالة ولا عن نسب التزايد ومعدلات الوفيات ولاعن نسب التمدرس والعمالة المنزلية وعمالة الأطفال وهي معطيات ينبغي أن تكون متاحة إن كنا نرجو لهذه القضية حلا عادلا وشاملا في يوم من الأيام.
إننا جميعا نعلم أن العبودية ليست مظهر الاستغلال والاضطهاد الوحيد في المجتمع الموريتاني لكنها الأبرز بين تشكلة واسعة ومتنوعة من الممارسات السيئة التي ماتزال موجودة بشكل مباشر أو من خلال بقاياها ومخلفاتها على الأقل .
لقد مارس المجتمع الموريتاني بجميع قومياته العبودية غير أن القطيعة الثقافية المفروضة علينا تحرمني من الحديث عما يجري في مجتمعاتنا الزنجية ولكنه باتفاق الباحثين أسوأ بكثير من الوضع في الشريحة العربية ومع ذلك لا يثير نفس الضجة لأكثر من سبب وكأن الأمر يصبح مستساغا حين تكون للعبد وسيده نفس البشرة .
إن ممارستنا للاسترقاق لم تتغير منذ آلاف السنين ولم يغيرها المستعمر الأوربي لأنه لم يأت مخلصا للمستضعفين في الأرض وإنما جاء ناهبا وغاصبا ومستعبدا للجميع وقد جامل أصحاب النفوذ والقوة وسكت عن هذه الممارسات تماما كما فعل عقب الاستقلال حيث ظل يتغاضى عن العبودية حين يكون النظام مواليا له ويشهرها ورقة رابحة في وجه أي نظام قد يفكر بأن يشب عن الطوق.
ولم تكن الأنظمة المتعاقبة أكثر رحمة وإخلاصا من المستعمر فلم تقدم هي الأخرى على أي خطوة عملية قد تنتشل مجموعة لحراطين وغيرهم من البؤس والنحس الذي يلاحقهم بسبب الحرمان المستمر من ثروة وطنية أنتجتها سواعدهم البناءة في الصيد والتنمية الحيوانية والزراعة والورش والمصانع .
قلة قليلة من شباب لحراطين المتعلمين أسست في سبعينات القرن الماضي حركة الحر ليجدوا أنفسهم رموزا لشريحة تدب في أوصالها حركة غير اعتيادية,حركة توشك معها أن تصنع التاريخ .
قادة حركة الحر كانت لهم مرجعيات أيديولوجية مختلفة ولم يكن بعضهم صعب الترويض والاحتواء فوقع في مصيدة التعيينات وأصبح جزء من حكومات لم يشغلها هم هذه الطبقة بل كان شغلها الشاغل القيام ببعض الرتوش وشراء بعض الذمم مع إبقاء الوضع على ما هو عليه ولم نر أحدا من لحراطين أصحاب المناصب انتقد حكومته أو استقال منها بسبب عجزها أو امتناعها على الأصح من تبني مشكلة يفترض أنه نذر لها حياته ولكنه سيفعل متى أقيل أو تقاعد .
في البداية قبل أن يدخل معظم قادة حركة الحر سوق التعينات انكبت جهودهم على نشر الوعي بين العبيد ليخرجوا عن طاعة الأسياد لكنهم لم يضعوا استراتيجية شاملة ترغم الدولة في نفس الوقت على وضع برامج الدمج والتأهيل وهذه هي أهم مشكلة تواجه لحراطين ومسعاهم التحرري حتى اليوم .
لقد كانت تلك سابقة لذك الجيل لا يضاهيه فيها أي جيل من الأجيال اللاحقة إنهم الرواد الملهمون مهما اختلفنا معهم واتهمناهم بالتخلي عن القضية إنه الجيل الذي قاد النضال التحرري وأسس لتحولات اجتماعية عميقة وإن كانت بطيئة .
لقد تمردت الطلائع الأولى للحراطين على واقعها المذل وخرجت على غير هدى تتلمس خطاها في بلد أنهكته حرب الصحراء ولم تكن يد الأنظمة الشمولية والعسكرية حانية ولا بلسما شافيا للوجع الحرطاني ومع أننا نلاحظ بعض التغييرات التي مست شكل العلاقة القائمة بين العبد والسيد إلا أن جوهرها صمد في وجه ثورة الأرقاء فالسيد الجديد لا يستطيع إكراه لحراطين على العمل عنده لكنه قادر على استغلال حاجتهم واستخدامهم في أسوإ الظروف وأكثرها امتهانا لبشريتهم دون حسيب أو رقيب .
العبيد الذين زحفوا من البوادي والأرياف إلى المدن لم يكن لهم حظ من علم أو مال أو جاه ولم تكن الدولة مستعدة لإعادة تأهيلهم أو مساعدتهم على شق طريقهم وحماية حريتهم فكانوا بقدراتهم المحدودة تحت رحمة سوق العمل في بلد فقير يتبع سياسات ليبرالية متوحشة وهكذا اضطرتهم الظروف إلى استبدال سيد السخرة بالسيد " البطرون " الأكثر استغلالا واستبدادا.
إن عدم إتقان لحراطين لأي عمل خلاف أعمال السخرة التي اعتادوها وصرامة قانون التخصص وتقسيم العمل التقليدي وشدة تماسك حلقات البنية الطبقية القائمة وتخلف الدولة عن القيام بدورها هي مثبطات المجهود الانعتاقي التي جعلت لحراطين يعجزون عن تغيير مكانتهم من التراتبية الاجتماعية فظلوا عند قاعدة هرم التراتبية.
الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة استطاعت إعادة إنتاج العبودية بصيغ وآليات جديدة فما الخدمة في المنازل التي لاينظمها القانون الا عبودية جديدة وما المهن الأخرى القائمة على الإفراط في استخدام المجهود البدني برواتب تافهة وبساعات دوام لايستسيغها العقل ودون أن يكون هناك ضمان صحي أوبدل خطر الاعبودية واستغلال بشع لحاجة هذه الشريحة التي لم تجد من يحميها بعد أن قررت الأنظمة المتعاقبة تجاهلها وكأنها تعاقبها على استنشاق رياح الحرية وبذلك بقيت كل الأعمال المزرية والكثيفة في عنصر المجهود البدني المفرط من حظ هذه الشريحة.
الشعب الموريتاني بحكمته الفطرية ولحمته القوية استطاع الحفاط على وحدته وانسجامه وأثبت قدرته على التعايش في أصعب وأحلك الأوقات وكانت القبيلة الكهف الذي لاذ به الجميع عندما تقاعست الدولة ووقفت متفرجة على الأحداث ولا يعني ذلك إشادة بالقبيلة بقدر ما يعني إدانة للدولة فالقبيلة مثلت وقتها - ومازالت كذلك - الحل المتاح والبديل الجاهز للدولة المستقيلة.
إن خروج لحراطين من حظائر السيد مع حفظ الوداد له وللقبيلة - سواء أكان قرار الخروج متخذا من قبل العبد التائق إلى الحرية أو السيد الذي لم يعد قادرا أو راغبا في بقاء العلاقة بشكلها السابق - أبقى القبيلة ظهيرا وسندا للحراطين وظل الأسياد مجبرين بحسب العرف الاجتماعي على بذل المال والجاه لعبيدهم السابقين ولأبنائهم متى دعت الضرورة إلى ذلك وعلى لحراطين واجب المجاملة والحضور في كل مناسبة خاصة أو عامة تستدعي ذلك حتى ولو كانوا أغنياء ومتعلمين وهنا يتفاوت لحراطين بقدر علمهم وغناهم في التعبير عن ولائهم للسادة أو حرصهم على الإبقاء على علاقة قرابة ومودة تجمعهم بهم.
الولاء للقبيلة وتمجيدها وحفظ هيبتها أمر لا مساومة فيه يستوي فيه السادة ولحراطين فهي التي تتحمل الديات وتوفر الضمان الصحي والاجتماعي في ظل الغياب الكامل للدولة وحيادها تجاه التفاعلات والتغيرات الاجتماعية العميقة التي تشهدها البلاد .
ومعلوم أن بقاء لحراطين على انتماءاتهم القبلية يساعدهم في الحصول على العمل بوساطة الأسياد وبالأولوية الممنوحة لهم من جميع أفراد القبيلة لكنه عمل يتماشى مع مؤهلاتهم أي أنه سيكون بطبيعة الأشياء وغصبا عن الطرفين عملا مكرسا للدونية إلا إذا كان الحرطاني متعلما .
ولعل تفشي استعمال لام المُلك في بعض الأوساط عند قولنا كلمة حرطاني لقبيلة ...بدل حرطاني من قبيلة ...هو أسوأ ما بقي على ألسنتنا من قاموس العبودية مع أن كثيرا من الناس يتفاداها ولئن كانت هذه اللام لا تعيد هؤلاء إلى العبودية إلا أنها تبقى مع ذلك مؤذية ومخجلة.
وفضلا عن هذا كله هناك بقايا للعبودية الصريحة تتكشف بعض حالاتها دائما ,هذه البقايا النادرة جدا والموجودة فعلا هي الأخطر والأكثر إثارة للجدل سواء أكان قرار البقاء في العبودية قسريا أو طوعيا وحول هذه الحالة تشتعل المعارك بين من ينكرون بغباء أو عن سوء نية وجود أي حالة استعباد ومن يدعون بخبث وسوء طوية انتشار هذه الممارسة.
الطرفان يجهلان أو يتجاهلان أن العبودية ظاهرة اجتماعية متأصلة و متجذرة في نفوس السادة والعبيد معا مارسها الناس هنا منذ الأزل وأن الظواهر الاجتماعية ليست كمصابيح الكهرباء نطفئها بكبسة زر.
إن التفكير العلمي والمنطقي يجعلنا نجزم بأن مجتمعا مثقلا بكل هذا القدر من الأمية والفقر والادعاء على الشريعة تلتبس فيه الأمور بين العمل المدفوع الأجر والعمل القسري يتربع على مساحة جوغرافية شاسعة لم تصل الكهرباء ووسائل الاتصال لجميع مدنه ناهيك عن بواديه ومهامهه هو مجتمع قابل لأن تبقى فيه حالات استعباد لاينبغي إنكارها بل يعتبر إنكارها والتستر عليها خيانة للوطن وفي المقابل تكون الدعوة إلى تحميل شريحة معينة وزر ذك العمل الفردي المعزول تحريضا على الفتنة والكراهية.
لقد أكدت الأيام أن الشعب الموريتاني قادر على تجاوز الماضي والتكيف مع الواقع والتطلع نحو مستقبل أكثر عدلا وإنصافا لطبقاته المسحوقة وفي مقدمتها لحراطين كما تأكد عدم التفاته إلى المتاجرين بهذه القضية الذين ينبغي التعامل معهم بحزم وعزم وقطع الطريق عليهم من خلال تطبيق التمييز الإيجابي لصالح هذه الطبقات والسعي نحو توزيع أكثر عدلا للثروة الوطنية فالقضية أصبحت اقتصادية في الأساس ولم تعد بأي شكل من لأشكال صراعا بين طبقة من الأسياد وأخرى من العبيد.
إن الحر الطاري أو الحرطاني كما نسميه لم يحمل وقت طروه أي صفة تخوله النجاح في مسيرته وانتزاع حرية كاملة وغير منقوصة فقد كان نفسيا وجسميا متحورا كي يعيش ظروف ومقتضيات العبودية تنموا لديه بالفطرة ملكات الطاعة والامتثال وتتقلص لديه مواهب القيادة والابتكار وبالخصوص عندما يكون أميا وهوكذلك قطعا في أغلب الأحيان ومع ذلك فقد ضحى ذلك الجيل العظيم من الآباء والأمهات واستطاع بالعرق والجهد المخلص أن يزيد نسبة التمدرس في صفوف أبناء هذه الشريحة لينشأ جيل جديد أكثر وعيا وانفتاحا وأكثر أهلية لقيادة العمل النضالي.
إن مشكلة لحراطين اليوم ليست مع سادتهم السابقين وكل من يدعي خلاف ذلك يلعب بالنار ويتاجر بالقضية فما من "حرطاني" اليوم – بما فيهم تجار القضية - لايعتز بانتمائه القبلي ويدرك حق الإدراك أن لقبيلته عليه وعلى أقاربه وأترابه أياد بيضاء وهو يدرك مدى القوة والنفوذ الذين يتمتع بهما الأثرياء والموظفون السامون من لحراطين في مجتمعهم على الرغم من وجود بعض الرواسب الاجتماعية التي يحتاج زوالها إلى وقت وجهد وتغيير للعقليات وما من قبيلة اليوم تهمل أبناءها من لحراطين أو تتخلى عنهم وليس في مقدور عمليات الكشف التي تتم من وقت لآخر عن حالات استرقاق أن تغير هذا الواقع لأنها عمليات محدودة ونادرة في مقابل حالة تعاون وانسجام شامل بين لحراطين وسادتهم السابقين في طول البلاد وعرضها .
إن مشكلة لحراطين اليوم تتلخص في حاجتهم كشريحة خارجة لتوها من ربقة العبودية إلى جرعات استثمارية ضخمة مخصصة للنهوض بمستواهم الثقافي والاقتصادي وليكن ذلك جزء من خارطة طريق مجمع عليها بين مختلف الفرقاء الوطنيين وأولهم الجمعيات والأحزاب والشخصيات المعروفة بدفاعها عن لحراطين ومصالحهم في الشدة والرخاء بوسطية واعتدال.
إن امتلاك لحراطين ناصية العلم وصرف نصيب عادل من الثروة الوطنية لترقيتهم وانتشالهم من واقعهم المر هو المطلب الذي ينبغي أن يرفعه الجميع في هذه المرحلة من النضال الوطني وعلينا من أجل القضاء على الحزازات النفسية التي ورثناها عن عقود من ممارسة الرق أن نناضل جميعا من أجل أن يكون رئيس موريتانيا القادم أحد أبناء لحراطين ,وأي دليل على تعافينا من هذا الداء العضال أقوى من انتخابات رئاسية تجمع فيها أحزاب الأغلبية على ترشيح "حرطاني" وتلتف فيها أحزب المعارضة خلف مرشح آخر من لحراطين.
إنه مجرد اقتراح أو قل عنه إنه حلم وهو كغيره من الأحلام الكبيرة ليس سهل المنال إلا أنه قابل للتحقق.