انطلقت صباح يوم أمس فاتح شهر يونيو ورشة تفكيرية ينظمها نادي القضاة الموريتانيين وتستمر بحول الله تعالى ليومين تحت عنوان "التفكير حول إصلاح النظام الأساسي للقضاء" بدعم من الإتحاد الأوروبي. وبالرغم من الفتور الذي استقبل به بعض القضاة خبر انعقاد الورشة وخشيتهم من أن تلقى مصير ورشة مشابهة قيم بها في ديسمبر 2014 (وتبخرت توصياتها في أروقة وزارة العدل)، إلا أن انعقاد هذه الورشة بعد أسابيع قليلة من افتتاح سنة قضائية تحمل شعار "دور القضاء في تجسيد دولة القانون" قد يُلفت انتباه السلطات الوصية إلى قناعة عبر عنها القضاة في كلمة ممثلهم في حفل افتتاح هذه السنة القضائية، كما عبر عنها بعضهم في جلسات عامة وخاصة مع القائمين على الوزارة. وتفيد هذه القناعة بشكل صريح أن "القاضي لن يتمكن من أن يلعب الدور المنوط به ما لم توفر له الأرضية القانونية السليمة والإطار التشريعي المشجع لأداء أمانة القضاء الخطيرة والمقدسة".
إن من أهم مبادئ وشروط تجسيد دولة القانون ثلاث ليست محل خلاف، يعبر عنها عادة ب"الدوائر الثلاثة لإقامة دولة العدل" وهي: احترام تدرج القوانين أو "مبدأ المشروعية" واستقلال القضاء المترتب على مبدأ "الفصل بين السلطات"، وحماية القضاء للحقوق والحريات المجسد لمبدأ "الرقابة القضائية" في دولة القانون. وإذا نظرنا إلى القانون الحالي المتضمن النظام الأساسي للقضاء في موريتانيا نجده ينتهك في كثير من مواده ويصادر في أغلب أحكامه كافة المبادئ الأساسية المتعارف عليها لإقامة دولة الحق أو تجسيد حكم القانون.
وقبل أن نستعرض بشكل مختصر أمثلة من هذه المواد وأحكامها، نُذكرُ القارئ الكريم بأن القانون النظامي الحالي المتضمن النظام الأساسي للقضاء صدر بتاريخ: 17 فبراير 1994 تحت الرقم: 012 ـ 094 بعد الإحالة إليه بالمادة 89 من دستور 1991، ويُعد خامس قانون لتنظيم سلك القضاة في موريتانيا منذ الاستقلال( بعد القوانين أرقام: 14 ـ 63 و 237 ـ 68 و 281 ـ 81 و 139 ـ 82 )، وقد قيم بتعديلين على هذا القانون كان أولهما بموجب القانون رقم: 010 ـ 95 الصادر بتاريخ:05 فبراير 1995 ( وتعلق بتعديل المادة 66 وحدها حيث نص على تطبيق مقتضيات القانون رقم: 139 ـ 82 على القضاة المكتتبين سنتي 1983 و 1984). أما التعديل الثاني والأخير فتم بموجب الأمر القانوني رقم: 016 ـ 2006 الصادر بتاريخ: 12 يوليو 2006 وشمل 18 مادة من القانون وأحدث 15 مادة مكررة، وبذلك اتسع هذا القانون النظامي ليشمل إضافة إلى 67 مادة خمسة عشر مادة مكررة، وتوزع على ثمانية فصول.
وبالعودة إلى أهم الثغرات والتجاوزات الخطيرة في هذا القانون، سنحاول أن نوجزها في أمثلة من انتهاكه للدستور ومخالفته للاتفاقيات والعهود الدولية التي صادقت عليها موريتانيا:
أولاـ انتهاك النظام الأساسي للقضاء للمواد والقواعد الدستورية: يعد تدرج القوانين الأساس الذي يجسد مبدأ المشروعية أو "حكم القانون" الذي يُلزم كافة السلطات والمقيمين على إقليم الدولة بالخضوع لنصوص القانون، ولتفادي التعارض والتناقض بين مختلف التصرفات التي تصدر عن مختلف سلطات الدولة تَقَرر في النُظم الحديثة أن يتم ترتيب القوانين الوطنية في سلم هرمي يتربع الدستور على قمته (باعتباره القانون الأساسي المجسد لإرادة الشعب بطريقة مباشرة باستفتاء أو بانتخاب هيئة تأسيسية) تليه القوانين النظامية (باعتبارها المنظمة لمهام السلطات والهيئات المحال إليها في نص الدستور) ثم القوانين العادية (الصادرة عن السلطة التشريعية) وأخيرا المراسيم والمقررات واللوائح التنظيمية بمختلف درجاتها (الصادرة عن السلطة التنفيذية). ويَفرِضُ هذا التدرج أن تخضع القاعدة القانونية الأدنى للقاعدة الأعلى، مما يحقق وحدة القوانين الناظمة والحاكمة للدولة بمختلف عناصرها الثلاثة (الشعب والسلطة والإقليم)، وطبيعي أن تترتب على مبدأ تدرج القوانين آثار مباشرة وتلقائية من أهمها الإعدام الشرعي (بالإلغاء أو بتعديل الترتيبات المخالفة) لكل نص " قانوني" يخالف نصا أسمى منه في الدرجة. وإذا طبقنا هذا الأثر على النظام الأساسي الحالي للقضاء نجد أن العديد من مواده معدوم "شرعا" (من الناحية الدستورية) لمخالفته الصريحة للدستور، ويتضح ذلك في:
1 ـ أن المادتين 67 و86 من الدستور الموريتاني تلزمان السلطات بعرض القوانين النظامية على المجلس الدستوري قبل إصدارها (وهو ما يعرف بالرقابة الدستورية السابقة)، ومع ذلك فقد تم إصدار التعديلات الأخيرة التي أجريت على النظام الأساسي للقضاء بموجب الأمر القانوني رقم: 016 ـ 2006 الصادر بتاريخ: 12 يوليو 2006 دون أن تقدم للمجلس الدستوري (لا قبل الإصدار ولا بعده) للبت في مدى مطابقتها للدستور، مما أدى بالكثيرين إلى القول بعدم دستورية تلك التعديلات.
2 ـ أن المادة 36 كانت تسند صلاحية تعليق وظيفة القاضي لسلطة التعيين ممثلة في المجلس الأعلى للقضاء، ولكن تعديل 2006 أسند هذه الصلاحية (مع صلاحية تعليق مرتب القاضي) لوزير العدل عضو السلطة التنفيذية المنصوص في المادة 89 من الدستور على استقلال القضاء عنها، كما تنتهك هذه الترتيبات مبدأ قرينة البراءة المنصوص عليه في المادة 13 من الدستور إضافة إلى انتهاكها للمادة 90 من الدستور التي تنص على حماية القاضي من كافة أشكال الضغط التي تمس نزاهة حكمه.
3 ـ أن المادة 45 جديدة (في تعديلات 2006) تنص في فقرتها الأخيرة على عدم قابلية قرارات المجلس الأعلى للقضاء لأي طعن وهي فقرة سبق أن تم حذفها سنة 1993 بعد أن بت المجلس الدستوري بعدم دستوريتها في قراره رقم: 007 ـ 93 الصادر بتاريخ 21 يوليو 1993.
4 ـ تمنح المادتان 48 جديدة و50 من القانون الحالي المتضمن النظام الأساسي للقضاء وزير العدل الدور المحوري في المجلس الأعلى للقضاء حيث تجعلانه ثاني شخصية بعد رئيس الجمهورية وتمنحانه صلاحية تحديد جدول أعمال المجلس وهو ما يتعارض مع نص المادة 89 من الدستور التي تنص على استقلال القضاء عن السلطتين التنفيذية والتشريعية.
5 ـ تنتهك المادة 23 ـ 6 مبدأ المشروعية بعدم احترامها للتدرج الهرمي للقوانين، وذلك بإحالتها لمرسوم ليضع نهاية لتطبيق مقتضيات قانون نظامي!.
6 ـ يشكل عدم مواكبة النظام الأساسي للقضاء للتعديلات الدستورية الأخيرة لسنة 2012 تقاعسا غير مبرر وتخلفا تشريعيا لا ينسجم مع مبدأ وحدة قوانين الدولة، ذلك أن المادة 89 جديدة في التعديلات الدستورية الأخيرة نصت على أن المجلس الأعلى للقضاء يتألف من تشكيلتين إحداهما خاصة بالقضاء الجالس والأخرى خاصة بقضاء النيابة العامة، وهي المقتضيات التي لم تتجسد بعد في النظام الأساسي للقضاء.
ثانياـ خرق النظام الأساسي للقضاء للاتفاقيات والعهود الدولية: تكرس المادتان 79 و80 من الدستور سمو الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها موريتانيا على القوانين الداخلية بما فيها الدستور نفسه، لذلك يعد عيبا تشريعيا ـ ينبغي تصحيحه ـ كل تعارض بين القوانين الداخلية والقوانين الدولية انطلاقا من مبدأ تبعية القاعدة القانونية الأدنى للقاعدة الأعلى. ومع ذلك فإن أية قراءة للنظام الأساسي الحالي للقضاء ستكشف عديد المواد التي تخرج عن مسار القواعد الدولية ذات الصلة بإقامة العدل، ومن ذلك على سبيل المثال:
1 ـ ما تم ذكره أعلاه من المواد غير المتجانسة مع أحكام الدستور، وهي التي يشكل إعتمادها ـ أيضا ـ خرقا للمبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية الصادرة سنة 1985 عن الأمم المتحدة، خاصة المبادئ من 1 إلى 7 والتي تكفل الاستقلال للسلطة القضائية، والمبدأ 20 الذي يُلزم أن تكون القرارات التأديبية الصادرة ضد القضاة قابلة لإعادة النظر من جانب جهة مستقلة. هذا إضافة إلى انتهاك تلك المواد للمواد:7 و8 و10 و11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 14 (الفقرة 1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمادة 26 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب والمادة 12 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر سنة 2004، والمبدأ 1 من المبادئ الأساسية المتعلقة بسلوك الجهاز القضائي المصادق عليها من طرف المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة 2002 والمعروفة ب"مبادئ بانغلور".
2 ـ ما ابتدعته مواد التعديل أرقام 23 و23 ـ1 و 23 ـ2 و 23 ـ3 من تعيين مباشر لأشخاص لا يخضعون للشروط المعروفة والخاصة بتعيين القضاة، وتجاوزت أيضا تلك المواد الضمانات المتعلقة بمعياري التقييم والأقدمية في الانتقال إلى الرتب في سلك القضاة، فسمحت بالتعيين المباشر لمكتتبين جدد في الدرجات 3 و2 و1 من الرتب 4 و3 و2 في السلم القضائي !، وهو ما يتعارض مع المبادئ 10 و11 و13 من مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة باستقلال السلطة القضائية.
3 ـ كانت المادة 37 تمنح صلاحية تأديب القضاة لمجلسهم (المجلس الأعلى للقضاء)، إلا أن التعديل أسندها لتشكيلة تأديبية لا تشمل الرئيس ونائبه (الوزير) وممثلي البرلمان من أعضاء المجلس، مما فوت (بحسب رأي مختصين بالِشأن القضائي من أبرزهم القاضي العلامة المرحوم بإذن الله تعالى محفوظ ولد لمرابط) على القضاة المعرضين لمسطرة التأديب ضمانة حضور الأعضاء المفترض حيادهم. وهو ما يعد خرقا للمبادئ 17 و19 من مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة باستقلال السلطة القضائية.
4 ـ تضاف للخروقات المذكورة أعلاه مقتضيات نظام الإعارة القضائية المنصوص في المواد من 54 ـ 1 إلى 54 ـ 4 ( وفق تعديلات 2006) والذي يدخل في الرتبة الثانية من سلك القضاة موظفين لا صلة لهم بالقضاء وإجراءاته ولا خبرة لهم بالثقافة القضائية، مما شوه ويشوه أداء القضاء وأضعف ويضعف من استقلاله. وهي ترتيبات تنتهك بصفة صريحة المبادئ 3 و5 و6 و10 و13 من مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة باستقلال السلطة القضائية.
وتشكل هذه الانتهاكات مأزقا تشريعيا يتعين على المعنيين المبادرة لتصحيحه للوفاء ـ على الأقل ـ بالتزامات موريتانيا الدولية ذات الصلة بمجال إقامة العدل.
هذه باختصار ملاحظات أردت أن أدلي بها (بشكل سريع) من خارج قاعة الورشة المنعقدة منذ يوم أمس، ولا يمكنني أن أنسى التذكير بوجود ثغرات أخرى عديدة وخطيرة تظهر لكل متتبع للمنظومة التي تحكم سلك القضاة في موريتانيا (ولن تخفى بالطبع على الزملاء المشاركين في الورشة)، ومنها العيوب الكثيرة التي تتخبط فيها مساطر اكتتاب وتكوين وتعيين وتحويل وتقييم وترقية وإنهاء عمل القضاة. وهي ثغرات تمنع وستمنع في المستقبل ـ إن تم الإبقاء عليها ـ القضاة من لعب الدور المنشود لتجسيد دولة القانون كما أنها ستحبط أي جهد لإصلاح القضاء وتفرغه من محتواه. لذلك أوافق القائمين على الورشة في اختيارهم عبارة " إصلاح النظام الأساسي للقضاء" لأنه فعلا قانون يحتاج "الإصلاح" بأسرع وقت.
مع كامل التحية.
القاضي/ عبد الله ولد شماد
رئيس محكمة الشغل بأنواذيبو