في شهر يونيو من العام الماضي 2015م نشرت مقالا عن عموم الرؤية في ضوء المستجدات الحديثة، وقد تعرض المقال لمستندات القول بعموم الرؤية من الكتاب والسنة وأقول العلماء، كما دعا إلى ضرورة الاستفادة من التقنيات الحديثة ووسائل التواصل التي صار العالم بفضلها قرية أو حيا كونيا على الأصح كما قال بعض الأفاضل؛ كما دعا إلى ضرورة اعتناء المنظمات الإسلامية بالموضوع وخاصة رابطة العالم الإسلامي ومثيلاتها من المنظمات الإسلامية التي يمكنها الاضطلاع بعمل أساسي في الموضوع، من قبيل التوصل إلى رأي فقهي موحد والسعي إلى إطلاع العلماء على الجوانب العلمية الفلكية المتعلقة به..
وقد انعقد المؤتمر الإسلامي لتوحيد الرؤية في استنبول هذه الأيام، وهو يسعى لنفس الأهداف،بعد ما جرى التحضير له من قبل جمع من المختصين وبمشاركة عدة مؤسسات إسلامية منذ 3 سنوات، نسأل الله لمنظميه التوفيق والإعانة على ما تصدوا له من المصالح العامة.
يكاد المتتبع لنصوص القرآن أن يجزم بأن مقتضاها عموم الرؤية وأنه إذا ثبت الهلال في قطر من أقطار الإسلام وجب على سائر المسلمين الصوم برؤيتهم ولو تباعدت البلدان.
فمن ذلك قوله تعلى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، فهذه الآية صريحة في أن الشهر واحد، وأن الأمارات التي نصبت للدلالة عليه موحدة الحكم، وأن أثرها محددٌ في نفس الأمر، وليس تابعا لمقارَبات المكلَّفين وما يعُرض لهم من خطأ أو قُصور في ذلك، وإن كانوا معذورين إذ لا كسب لهم فيه أحيانا - في حال تعذر الرؤية مثلا - ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ومثل ذلك قوله تعلى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ...} وسائر النصوص الواردة في ليلة القدر ويوم عرفة فهي صريحة في أن هذه المواقيت موحدة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث... فالمعهود من مثل هذا الخطاب العموم كما هو مقرر في أصول الفقه فهو لا يختلف عن سائر النصوص العامة، فيقتضي بعمومه وجوب الصوم على من ثبتت لديه رؤية الهلال في أي قطر كانت.
وهذا مذهب مالك كما قال خليل: "وعمَّ إن نُقِل بهما عنهما" وهو أيضا مذهب أحمد بن حنبل والليث بن سعد وأبو حنيفة وأصحابه وقولٌ لبعض الشافعية وجماعة من أهل العلم، وخالفهم ابن عباس رضي الله عنه والشافعي فقالوا: "لأهل كل بلد رؤيتهم".
والخلاف الفقهي في المسألة معروف ومشهور، ولكن يُخْشى أن يكون في العمل به اليوم اجترارٌ لواقع قديم وإهمالٌ لمقتضيات الواقع المعاصر الذي أصبح فيه العالم "قرية كونية" واحدة وبلغت فيه وسائل الاتصال مبلغا لم يكن يصل إليه الخيال من قبلُ.
ومن أبرز ما استند إليه القائلون بخصوص الرؤية حديث ابن عباس رضي الله عنه المشهور حيث امتنع وهو في المدينة من الإفطار مع أهل الشام لما أخبره كرييب برؤيتهم، وقال: لا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقال له كريب: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال لا هكذا أمرنا رسول الله. وقد أورد بعض العلماء على احتجاجهم به أنه يحتمل كونه فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا رؤيته وأفطروا لرؤيته" أن لأهل كل بلد رؤيتهم، وهو اجتهاد منه خالفه فيه غيره، ومما يؤيد ذلك أن ابن عباس من رواة الحديث ولم يأت عنه في الموضوع إلا هذا، فلو كان عنده علم من النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص الموضوع لرواه عنه أصحابه، فدل على أنه فهم فهمه من الحديث، رضي الله عنه وأرضاه؛ ثم إن مسألة حكايات الأفعال وحملها على العموم محل بحث معروف عند أهل الأصول وإن كان الراجح الحمل ولتابع فهم الراوي لكن لا مانع من العدول عنه لقرينة.
لقد أشار الإمام ابن عبد البر في "التمهيد إلى أن مستندات من قال بأن لأهل كل بلد رؤيتهم تعذر الاتصال وما يترتب على إلزام الصوم برؤية الأمصار المتباينة من حرج ومشقة (التمهيد 14 - 358)، وهذه العلة منتفية اليوم في عصرنا اليوم فقد طوت وسائل الاتصال اليوم المسافات البعيدة وألحقت أقصى المشرق بأقصى المغرب وهذا أمر ضروري لا حاجة لبيانه، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
لقد استفاد أسلافنا من التطور البسيط الذي حصل في الاتصالات في القرن 13هـ وأفتى محققو الفقهاء حينئذ بثبوت الرؤية بالتلغراف والبارود والإذاعة بعد ذلك، بل ذهب بعضهم وألف في ذلك العلامة المهدي الوزاني والشيخ الحافظ محمد الخضر بن ما يابى، وأفتى به الشيخ عليش وغيرهم من أجلاء العلماء. فما المانع من أن نؤسس على ما بنوا عليه خصوصا مع هذا التطور الكبير في سائل الاتصال س؟!
بل إن أحد علماء موريتانيا المعاصرين وهو الشيخ محمد فضل الله بن أهل أيد الجكني (1989م) أفتى بنحو هذا وألف رسالة في الموضوع ودعا إلى عموم الرؤية مضعفا ما ذكر ابن عبد البر من الإجماع على نفي الرؤية بين الأمصار المتباعدة كخراسان من الأندلس، لما ذكروه من تضعيف إجماعات ابن عبد البر ولمخالفته لظاهر كلام العلماء في الموضوع، وسلم الشيخ بداه بن البوصيري فستواه تلك..
إن أكثر علماء الفلك اليوم على عموم الرؤية وهم يبنون ذلك على أن أقصى نقطة في الغرب تجتمع مع نظيرتها في المشرق في جزء من اليوم والليلة، وبالتالي فهم يعتبرون رؤية الهلال في أي مكان من العالم مؤذن بحلول الشهر الجديد على سائر البلدان وإن تعذرت رؤيته في بعضها.
إن المنظمات الإسلامية اليوم - رابطة العالم الإسلامي ونظيراتها - مدعوةٌ إلى الأخذ بزمام المبادرة وتقريب وِجهات النظر بين الدول وبين المرجعيات العلمية أولا ثم بين دول العالم الإسلامي بعد ذلك، حتى يحسم هذا الخلاف في ضوء المستجدات العلمية ويطبّقَ ذلك على الأرض. فما المانع من أن تكون هناك مؤسسة تمثَّلُ فيها جميع الدول الإسلامية تسعى لمتابعة الهلال والتأكد من ثبوته في جميع الدول؟! ويمكنها أن تستعين برأي علماء الفلك، ثم تقوم بعد ذلك بإعلان ثبوته وتتوحد الرؤية ويرتفع الخلاف والحرج الواقع اليوم.
وقد روى ابن الماجشون والمدنيون من أصحاب مالك عنه أن الإمام الأعظم إذا ثبت عنده الهلال فإنه يجب على عامة المسلمين الصيام لأنه حاكم على الجميع، بخلاف غيره من القضاة والأمراء فلا يجب الصيام إلا على من هو في حكمهم (التمهيد لابن عبد البر14-357)م. فما المانع من أن تقوم المنظمات الإسلامية اليوم بهذا الدور الذي كان منوطا بالخليفة في ظل غيابه؟!
أعتقد أن هذا سيكون أولى من حالة التشرذم المبنية على الحدود السياسية والتي لا يقرها مذهب من المذاهب إلا رواية ابن الماجشون المخالفة لمشهور المذهب.