أرسل معهد إيفان ( IFAN) في السنغال رسالة إلى السلطات الموريتانية يطالبها باستلام حصتها من الأرشيف العلمي الاستعماري في المعهد، وإلا تعرض للإهمال أو التلف، ولم يحصل الجانب السنغالي على رد لحدّ الساعة، لا من وزارة الثقافة ولا من الهيئات التابعة لها مثل معهد البحث ولا من الأرشيف الوطني ولا حتى من بقايا المكتبة الوطنية أو من المتحف. رغم أن عملية النقل هذه قد لا تكلف أكثر من سيارة نصف نقل مركونة في فناء إحدى الوزارات “العتيدة”.
هذا الاستخفاف الرسمي بالذاكرة الوطنية يعزّزه نزوع مستمر إلى العبث بالذاكرة الوطنية، وتجفيف منابع “الإلهام” القيمي والإنساني، وتدمير مصادر البحث والتفكير، ما يجعل كتابة تاريخ بلدنا عملية شبه مستحيلة، لاسيما في ظل نفوق سوق الرداءة الفكرية والمؤسسية، التي تسطح كل شيئ، وتفرغ كل فعل خلاق من مضمونه ومعناه. وهو واقع بئيس أسلمتنا له السياسات الفاسدة والجاهلة، تماما كنظيرتها في بلاد العرب الأخرى، والتي جعلت من العرب ونحن منهم خارج الأمم والحضارات التي تستفيد من تاريخها.
يذكر الكاتب حسنين هيكل أن المؤرخ الإنجليزي ذائع الصيت هوبزباوم خاطبه قائلا: أنتم معشر العرب لن تفلحوا في استئناف نهضتكم، لأنكم، ببساطة، لا تعرفون الفرق بين التاريخ وبين الماضي!
كان المؤرخ الإنجليزي يقصد أن التقدم يسلتزم وعيا تاريخيا، يمكّن من فهم منطق التجربة البشرية، لكن ذلك يظل مستحيلا أمام من لا يعرف أن الماضي والحاضر والمستقبل لا وجود لها إلا في الذهن، لأنها ببساطة منتج عقلي تقريبي لضبط موقع الإنسان في نهر الزمن “السرمدي”، تماما كمن يسير في أرض خلاء في ليل بهيم ليس فيه ضوء ولا مَعلْم، كمن يضيع في الصحراء لأنه لا يعرف وجهته، لأن التواريخ والأحداث هي معالم في الزمان، تماما كالجبال والشجر في الأرض الخلاء وكالنجوم في جو السماء.
والأكثر طرافة وربما مرارة أن غالبية من يتحدثون عن “الماضي” (أو ما يعتقدونه تاريخا) لا يستطيعون تعريف هذا العلم ولا تمييزه عن “ضده” من العلوم الاستدلالية الأخرى.
لن ينجح أي “مشروع” لكتابة التاريخ الوطني، ولا أي مشروع ثقافي، لأن شرط البدايات مفقود تماما وهو حصول حد أدنى من الجدية والعلمية، وهما شرطان غائبان تماما في بلدنا هذه الأيام.
تنال كل مرحلة من عمر الدولة الوطنية قِطّها من الرداءة الفكرية والمؤسسية، ما ينعكس بصورة أسوء في المُنتج المعرفي والثقافي، وتزداد الآثار فداحة على الذاكرة الوطنية التي تتشتت وتكاد تمّحي، رغم السجالات العقيمة والمبتذلة أحيانا، بين المنشغلين بـما يسمى “المقاومة” أو “المسالمة”، في سياقات تشويهية وعبثية، تزيد طين الذاكرة الوطنية المأزومة أصلا بللا بل تجعله وحْلا ورملا متحركا.
يبدو “تاريخ البلاد” مجرد “تواريخ” ما ـــ قبل الدولة، روايات شبه أسطورية ووقائع مفككة، وتواريخ ميتة لا تعبر عن أي سيرورة تاريخية منسجمة.
لا يبدأ التاريخ الوطني إلا في شكل كتابة تاريخية نقدية، أي بعد تخليص التاريخ من الجانب الأسطوري والتمجيدي، وهو ما لم يحصل لحد الساعة.
بعض البلدان العربية، دخلت مرحلة التاريخ النقدي، رغم الخصَاص المُبين في المادة الأولية، وتجاوزت التواريخ التقليدية التمجيدية والأسطورية وحتى الانتقائية.
منطق السيرورة غائب تماما، ولذلك لا يتم البحث في أسباب الحدث التاريخ ولا نتائجه، ولا حتى منطقه الداخلي البديهي، وييتم الاكتفاء بسردية عقيمة و وقائع ميتة، يعمرها نفس أسطوري كالح أو روح تمجيدي مقزز.
الانتقائية بارزة لا تخطئها العين، يتم حذف “التواريخ المزعجة، أو نسيانها ابتداء، ويتم بتر الحدث في مساراته المتناقضة مع الخطاب “التمجيدي”، ليتم تقديم حبكة بالغة الطراوة تصلح للبركة أكثر منها للفهم والتعقل.
بالمقابل يتشبث آخرون بالعقلانية “الاستعمارية” وكأنها بداية “الانكشاف” أي الدخول في عالم التاريخ، وما قبلها هو الأسطورة، تماما كالغزو الإسباني للألدورادو (El Dorado ) في أمريكا اللاطينية.
يعكس طابع التشنّج والتوابل الحرّيفة من السباب والشتائم، والتكفير الديني والحداثي، عجزا عميقا عن الخطاب المعرفي وفشلا ذريعا للدولة الوطنية في بناء مشروعيتها التاريخية.
لا يجد أي مُكوّن مجتمعي ولا ثقافي، قلّ أو كثر، ضعف أو صلب، ذاته في “التاريخ المتداول، بل يجده مجرد مهاترات منْقبية أسرية وحتى مناطقية مغبرة وقاتمة خالية من أي معنى إنساني أو مدلول عقلاني، أو استنساخ للكتابات الاستعمارية والاحتجاج بها، في نوع من الاستقواء الثقافي بالخارج!
سيكون في غاية السفه والساذجة من يحاول ترميم ما وهىَ من الذاكرة الوطنية في ظل تسارع وتيرة الهدم الممنْهج لكل ما هو عقلاني وقانوني وحتى إنساني في هذا البلد!
عداء العسكر للتاريخ مشهود ولا يحتاج برهانا، لكن انتقائية التراجمة له أيضا معروفة وأكثر من أن نقف عندها.
الطابع الاستعراضي للسياسة الثقافية بارز لا تخطئه العين، هو جزء من الولاء للحاكم والبراء من خصومه، وهو أيضا وسيلة لتمرير النفع العاجل للأقربين إيديولوجيا واجتماعيا، وبطريقة و مقززة.
كتابة التاريخ تبقى جزء من كلّ هو مشروع الدولة الوطنية الذي يواجه فشلا حقيقيا، في ظل الاستبداد والرؤية الأمنية قصيرة النظر واليد، والنظرة الاستهلاكية البدائية وسياسة “النعامة”.
عندما يتدارك الموريتانيون ذات يوم وطنهم، ويبدأون مرحلة إعادة البناء، إن تمهّد لهم ذلك، سيكتشفون فداحة الضرر الذي أصابهم في الصميم، وأنه يجب عليهم بناء ذاكرتهم من الصفر.
يتجدّد مع كل رصاصة “ترحيب” بالاستقلال، احتكاك سجالي ساذج وعقيم، بين باعة السرديات الطرية والخطابات المعلبة، ما يعكس عمق أزمة الضمير الجمعي وفداحة المأساة الوطنية.
في الجزائر مثلا ـ حسب بنجامين ستورا، بدأ التاريخ النقدي لحرب التحرير، مع أعمال علمية نقدية مثل كتابات محمد حرْبي، سعت إلى تخليص تاريخ تلك الحقبة التأسيسية من الأسطورة والخرافة والتمجيد، وإعادة كتابتها بوصفها “منتجا بشريا” قابلا للنقد والقراءة، ليصبح جزء من “التاريخ الإنساني” وليس عملا بطوليا محلقا في سماء الوهم، ما يمكّن بناء الذاكرة وتجديد المشروعية بعد حرب الكفاح الوطني الشهيرة.
وفي المغرب تجاوز المؤرخون مرحلة التاريخ الوطني، وطفقوا ينجزون أطروحات تأسيسية في كتابة التاريخ الشمولي من منظور معرفي نقدي وشمولي،
وهو حال الأعمال التي أنجزها مؤرخون ومفكرون في تونس وليبيا وغيرها من البلدان الشقيقة.
مسار البحث التاريخي الوطني تراجعي تماما، بدأ بإسهام موريتاني جدي في تاريخ المتوسط مع أطروحة محمد ولد داداه عن “مفهوم الملك في المغرب، في ثلاث مجلدات تحت إشراف عالم التاريخ الوسيط روبار برونشفيج.
وتوالت كتابات المؤرخ البحاثة المأسوف عليه محمد الشنافي، الذي قدم العناصر الرئيسة لكتابة التاريخ في غرب الصحراء، ومهد الطريق لكل المؤرخين الموريتانيين.
وتعززت تلك الأعمال بنتائج الأبحاث الأثرية التي قام بها الباحثون الفرنسيون في مواقع المدن الدراسة (قبة صالح، تـﮔداوست…).
كانت تلك الحصيلة نتيجة مباشرة لبعض جوانب التقدم في مشروع الدولة الوطنية في عهدها الأول، رغم الأخطاء الفادحة لمسار النقاش حول المسألة الثقافية والهوية الوطنية.
مع تصاعد وتيرة “عسْكرة الدولة” ازداد انحدار مستوى الإنتاج المعرفي، رغم ازدياد أعداد “المُنتج المكتوب” كميا، تحت تأثير تقني وسلعي في المقام الأول.
الكتيبات المدرسية ذاتها، بدأت مشوهة وناقصة، لكنها كانت أكثر قربا من منطق التاريخ الوطني، ثم أصبحت كتابات تمجيدية أو سردية فارغة من أي معنى تاريخي جدي.
بغياب المشروع الوطني الجامع، تُعزّز المشاريع قبل الوطنية، مواقعها، وتنتج تواريخها الخاصة، ما يكرّس “الهويات القلقة” ويُنتج مزيدا من الرداءة يجعل “الضمير الجمعي” و “الوعي التاريخي” خارج رهانات اللحظة.
الخوف من المستقبل هو النتيجة المباشرة لفشل الدولة الوطنية في تحقيق طموحات المواطنين، ما يجعل التخندق في الولاءات الريفية أمرا مشهودا وطبيعيا، لكنه يجذّر الريبة التي تستحيل رفضا للآخر في الوطن، جهة أو قبيلة أو طائفة، ما قد يتحول في نهاية المطاف إلى كراهية عميقة.
ومن المستطرف، وربما المُبكي، أن الموريتانيين يتسوّرون بسهولة “محْراب” علْمين اثنين: الطب والتاريخ، بل ويتفننّون في تقويم عمل الطبيب وكتابة المؤرخ، ولا يقيمون وزنا لأي تكوين أكاديمي مهما كانت مستواه أو تعقيده، ولذلك فالكل هو طبيب بالفطرة ومؤرخ بالواقع.
لكن أيا من أولئك لا يحير جوابا عن السؤالات المعرفية القلقة عن مفهوم التاريخ؟ ولا عن منهجه؟ ولا عن تقنية الحبكة التاريخية؟ ولا حتى عن أوليات الوصف والتفسير.
ساحة علم التاريخ مستباحة، تماما كغيرها من العلوم والمعارف، لنفوق سوق الرداءة الفكرية والمؤسسية التي تعمر كل شيء، وتجعل من “كل شيئ” قابلا للبيع والشراء.
يستطيع الجانب الرسمي إنفاق مليارات الأوقية على الأعمال الاحتفالية والفلكلورية، وبجرة قلم، لكنه سيمتنع ويتمنع، بل ويكابر، حين يتم تقديم مشاريع علمية جدية لكتابة التاريخ الوطني، أو لتنظيم الحقل المعرفي والثقافي.
يعتقد أولئك أن “الطابع الاحتفالي”، التشويهي في واقع الأمر حتى في الصور المعروضة على الكتيبات، يكفي لتثمين الثقافة الوطنية، وهو منظور إداري لا تنقصه الوقاحة تماما كالرؤية الأمنية قصيرة النفس واليد أيضا.
كتابة التاريخ الوطني، هو عملية مستمرة، علميا وإيديولوجيا، تتطور بتقدم مشروع الدولة، نجاحا وإخفاقا، وكلما حققت المجتمعات الحديثة تقدما في الاندماج المجتمعي وترسيخ مفهوم المواطنة استطاعت قراءة “الماضي” بنسبية وعقلانية، والعكس صحيح، وفي ظل غياب مشروع وطني جامع تطل المشاريع ما قبل الوطنية، وتصبح جزء من الرداءة السياسية والمؤسسية والفكرية، تمتح من بئرها النتن وتنزح من سواقيها العفنة.
لم يكتب تاريخ موريتانيا الوطني لحد الساعة، ولذلك تمتلئ الساحة بخطابات متشجنة ومعبرة عن الهويات القلقة مجتمعيا، وعن الخوف من المستقبل.
غالبية التواريخ المتداولة، كتبت بأياد غير علمية، غير مؤهلة علميا ولا أكاديميا، باستثناء أطروحات دكتوراه متخصصة موجهة لغايات أكاديمية محددة، وليست موجهة إلى القارئ العادي الذي لا يستطيع معرفة غير الخلاصات السهلة، ولذلك لا يجد بدا من قراءة الكنانيش التي تحوي أسماء الرجال والوقائع الجزئية والروايات الشفوية التي تصلح لتهدئة الأطفال عند النوم، وإن كانت تحوي بعض الفائدة العامة لاسيما إن جمعت المادة الوصفية بشيئ من التحقيق الشخصي.، لكنها تبقى قاصرة عن الوفاء بمطالب البحث العلمي المعاصر.
كتابة التاريخ “الوطني”، هي أولا، مسؤولية الدولة، والتي لا تقيم وزنا لتلك المعطاة بل تعتبر التاريخ مادة مزعجة ومقلقة لاسيما إن دخلت في مواضيع من قبيل المسألة الثقافية والهوية الوطنية.
عندما يغيب التاريخ الوطني تطل وبشكل قبيح “تواريخ” ما ـ قبل الدولة، وتمارس تأثيرها السيئ على الذهنية الجمعية بل تشكل بعض تلويناتها اعتداء فجا على عقول الناس وحرمة شعورهم.