منصفون في قضية ولد الصلاحي (الحلقة الثانية)./القاضي عبد الله ولد شماد

خميس, 2016-05-26 11:48

في نهاية شهر يناير الماضي كتبت تدوينة عن القاضي الذي أصدر أمر الإفراج الفوري عن محمدو ولد الصلاحي في مارس 2010 القاضي جيمس روبرتسون James Robertson وذلك للإشادة بعدل القاضي المذكور.
واليوم سأتحدث عن أول موظف رسمي أمريكي (بل أول شخص رسمي على الإطلاق) ينصف ولد الصلاحي، وهو الرائد طيار المتقاعد في البحرية الامريكية والمحقق العسكري ستيوارت كوتش Lt.Col.V.Stuart Couch المشهور بلقب Sue Couch.
إلتحق بالبحرية الامريكية عام 1987 وسجل لدراسة القانون في جامعة اديوك Duke University العريقة حيث حصل على شهادة الباكلريوس في القانون مما أهله للعمل في التحقيق الجنائي العسكري، كما واصل دراساته القانونية في جامعتي كامببل Campbell University وجورج واشنطن GWU حيث حصل على شهادة الماجستير في القانون من الأخيرة أثناء فترة توقفه عن الخدمة نهاية تسعينيات القرن الميلادي الماضي.
في يوم 11 من سبتمبر 2001 تعرض "كوتش" لصدمة نفسية وحزن شديدين ليس فقط بسبب حجم الهجمات التي وقعت ذلك اليوم وإنما أيضاً لأن صديق عمره الطيار مايكل هروكز Michael Horrocks مات في تلك الهجمات حيث كان مساعد طيار طائرة شركة United في رحلتها 175 وهي الطائرة الثانية التي ضربت في ذلك اليوم البرج الجنوبي لمركز التجارة العالمية. أصيب المحقق كوتش بأزمة إكتئاب شديدة وأبدى حماسه وإستعداده للمشاركة في التحقيقات ومتابعة وعقاب المتورطين في الهجمات.
وكان له ما أراد !!.
حيث تم تعيينه من طرف الرئيس بوش الإبن بعد مرور شهرين فقط على الهجمات ضمن فريق محققين عسكريين مع عدة لجان عسكرية لتولي التحقيق مع المتهمين المحتملين في قضية هجمات 11 من سبتمبر. ونظرا لرتبته العسكرية وخبرته في التحقيق وشهاداته في القانون فقد أسند له ملف سجين وصف بانه "أهم وأخطر سجناء غوانتانامو وقائد خلية هامبورغ المسؤولة عن الهجمات وثاني شخصية في تنظيم القاعدة في أوروبا" محمدو ولد الصلاحي !!.
والواقع أن هذه الصفات كتبت بالحبر الأحمر على ملف محمدو إثر التحقيق مع المعتقل المشهور اليمني رمزي بن الشيبة والذي ذكر (تحت التعذيب طبعا) أن محمدو هو من أكتتبه للالتحاق بالقاعدة وهو من أشرف على إكتتاب وتدريب فريق المهاجمين القادم من مدينة هامبورغ الألمانية !! (الفريق الذي اختطف طائرة United 175).
وهي صفات اقنعت المحقق كوتش في البداية ان ولد الصلاحي هو: (الشخص صاحب اليدين الأكثر دموية من بين سجناء المعتقل).
في مقابلات مع عدة وسائل إعلام أمريكية مثل مجلة Wall Street Journal و موقع National Security Archive وقناة وموقع مبادرة Democracy Now ..وغيرها يصف الرائد البحري كوتش قصته مع القضية التي غيرت حياته ووضعته في مركز النقاش الوطني حول التعذيب وأخلاقيات العدالة والتحقيق الجنائي (قضية محمدو ولد الصلاحي)، فيذكر انه في اليوم الأول من عمله كمحقق في معتقل غوانتانامو (في شهر أكتوبر 2003) كان يتفقد غرف التحقيق وأثناء سيره في الرواق سمع صوت موسيقى صاخبة وصراخا بلهجة غير اللغة الانجليزية يتبعه سب وكلام بذيء بالانجليزية وصوت ضرب وضجيج لا يحتمل !!. وتقدم نحو الغرفة مصدر الصوت فوجد الباب مفتوحا حيث تمكن من إلقاء نظرة الى الداخل ليجد معتقلا يلبس ثوبا برتقالي اللون مقيد اليدين والقدمين مثبتا على البلاط بطريقة لا يستطيع معها ان ينهض واقفاً وكان يتحرك بشكل لا إرادي بطريقة إلى الامام والخلف (اهتزازي) ويحرك شفتيه كأنه يصلي (يرتل أدعية) وكانت الغرفة شبه مظلمة لا يوجد فيها غير ضوء معلق من السقف مقابل رأس الشخص المذكور، وأثناء محاولة الرائد الدخول للغرفة تم منعه من طرف رجلين مدنيين كانا بالقرب من المكان، وذلك رغم أن الرائد كان في زيه العسكري وعرفهم بشخصه ووظيفته ولكنهما منعاه ودفعاه للخروج بطريقة فجة !!.
منذ تلك الحادثة في يومه الأول في المعتقل تولد إنطباع لدى الرائد كوتش وتشكلت صورة غير جيدة في ذهنه عن طُرق التحقيق في غوانتانامو. وهي الصورة التي تأكدت لديه بمرور الوقت أثناء دراسته لملف ولد الصلاحي وإجرائه بعض التحقيقات معه حيث خلص إلى قناعة راسخة بأن محمدو تعرض لعمليات تعذيب نفسي وبدني قاسية وبطرق مستمرة وممنهجة. من ذلك على سبيل المثال لا الحصر: "تعريضه لعمليات إعدام وهمية وعمليات الحرمان الحسي (تعطيل الحواس) وعمليات التلاعب البيئي (أي تغيير الطقس من حوله بأن يُدخل منزوع الثياب في غرفة ضيقة شديدة البرودة وبعد ذلك يتم إدخاله مباشرة في غرفة شديدة الحرارة ويتم تكرار العملية عدة مرات) وتم التحايل عليه وإيهامه أن الولايات المتحدة اعتقلت والدته وأحد إخوته وأنه تم إحضارهما لمعتقل غوانتانامو وأن والدته هي المرأة الوحيدة الموجودة في المعتقل"، كما تم أخذه عدة مرات على متن زورق في جولة ليلية في البحر حيث تعرض للتهديد بالقتل عند طريق الإغراق ..إلى غير ذلك من أنواع التعذيب.
ولا حظ الرائد كوتش من خلال دراسته المتأنية لمحاضر إستجواب محمدو أن الرجل كان في البداية (ولفترة طويلة) لا يعطي القدر الكافي من الأجوبة التي طلبها المحققون، وهو ما يعرف في تقنيات الإستجواب بمصطلح "عدم التعاون". غير أن تلك الحال تغيرت منذ نهاية صيف سنة 2003 حيث تغيرت طريقة أجوبة محمدو بالكامل وأصبح يعترف بكل ما يواجهه به المحققون من تصريحات رمزي بن الشيبة،إضافة الى أنه اصبح يتحدث عن سلوكه الخاص بطريقة تشبه الهذيان !!. وأثناء جمع الرائد كوتش للأدلة أدرك أنه لا يوجد ضد محمدو غير تصريحاته الخاصة وتصريحات رمزي بن الشيبة ضده وكان السؤال الأكثر إلحاحا هو: لماذا يتحدث محمدوعن سلوكه الخاص (أشياء لم يُسْألْ عنها ولا تهم التحقيق) ؟؟!!.
بعد ذلك طلب الرائد من فريق المخابرات العسكرية الذي تولى جلسات التحقيق الإبتدائي أن يزوده بأدلة تكشف الظروف المحيطة بجلسات التحقيق مع محمدو ؟؟ ولكنه لم يتلقى أي رد !!.
وفي يوم من الأيام وأثناء تصفحه لملف محمدو عثر الرائد كوتش فجأة على نسخة من بريد إلكتروني مكتوب من طرف أحد الحرس المشرفين على غرفة محمدو مرسل إلى طبيبة نفسية في الجيش الأمريكي وجاء في تلك المراسلة أن محمدو يعاني من نوبات هذيان وهلوسة وتبين من خلال رد الطبيبة النفسية على تلك الرسالة أنها على علم بأن ظروف اعتقال محمدو والتحقيق معه تتضمن من الضغط ما يسبب له إنهيارا ذفسيا وعصبيا. وأثناء تفحصه لتلك الوثائق توصل الرائد عن طريق أحد زملائه لنسخة من إتفاقية الأمم المتحدة ضد التعذيب والمعاملة المهينة واللاانسانية والتي صادقت عليها الولايات المتحدة عام 1996 وتبين له أن مفهوم التعذيب وفق تلك الإتفاقية يشمل التعذيب النفسي والذهني. مما أكد للرائد ان المعاناة النفسية التي تعرض لها محمدو ترقى الى درجة التعذيب وتبين أن المادة 15 من تلك الإتفاقية تقرر أن "كافة انواع الأدلة المتحصلة من أي شكل من أشكال التعذيب غير معتبرة ولا قيمة لها أمام العدالة". كما وقف الرائد كوتش على حقيقة أن محمدو تعرض لتعذيب جنسي-نفسي حيث كان في بعض الأوقات يتم إدخاله في غرفة مليئة بصور جنسية خليعة ومعها صورة ومجسم لمهد طفل صغير (وذلك للضغط النفسي عليه من طرف المحققين بعد أن علموا أن محمدو سبق له الزواج ولم يُرزق بأطفال بالإضافة إلى حالة الحرمان الجنسي له كمعتقل).
في تلك الفترة لم يكن لمحمدو هيئة للدفاع عنه وكانت قناعة الرائد كوتش أن الأدلة المتحصلة من التعذيب لن تصلح أدلة إدانة أمام محكمة عادلة وبدأ يفكر في طريقة للاستقالة والخروج من هذه القضية الظالمة (الخاسرة) في أقرب وقت.
بدأ في التفكير الجدي بكتابة مذكرة يرفعها لرؤساءه حول الخلاصات التي توصل لها.
وفي يوم من أيام الأحد (خلال فترة إجازة) كان يصلي في كنيسة في مقاطعة فولس شيرش Falls Church بولاية فرجينيا وسمع القديس يذكر في موعظته أن على الانسان أن يحترم كرامة الآخرين وبعد خروجه من الصلاة قرر أن يُطلع رؤساءه المباشرين على قناعاته.
وبعد عودته مباشرة من العطلة كشف لرئيسه في فريق التحقيق عن موقفه القانوني والأخلاقي وطلب الإعفاء من مواصلة التحقيق مع محمدو ولد الصلاحي، وكان مما كتب في مذكرته الطويلة المؤثرة : ( ..إذا كانت تقنيات التحقيق هذه تعتبر تعذيبا وفق إتفاقية جنيف فإنها بالتأكيد ستشكل مخالفة جنائية لمضمون إتفاقية جرائم الحرب..وبصفة واقعية فإنني أعلن إعتراضي الأخلاقي على تقنيات التحقيق التي إستخدمت مع هذا المعتقل"محمدو" ولهذا السبب وحده أرفض مواصلة التحقيق معه في أي جانب من جوانب التحقيق).
كانت الإستقالة بمثابة القنبلة التي إنفجرت فجأة في البنتاغون وأحدثت جدلا مهنيا بين كافة السلطات المشرفة على معتقلي غوانتانامو وكان لها صداها الكبير في وسائل الإعلام وواجه الرائد على إثرها تهديدا ونقاشا حادا وضغوطا غير مباشرة من طرف رؤسائه في العمل خاصة من طرف الجنرال روبيرت سوان Gen. Robert .L.Swann ولكنه لم يبالي بكل ذلك بعد أن أراح ضميره.
بعد ذلك تم تكليف الرائد كوتش بالتحقيق في ملفات عسكرية خارج غوانتانامو لمدة ثلاث سنوات وفي تلك الفترة منحه وزير الدفاع الأسبق رامسفيلد ميدالية الشرف المهني (وهي في الوقاع عبارة عن وسام يمنح تلقائيا لكل ضابط خدم في معتقل غوانتنامو)، كما حاز سنة 2007 على وسام العدالة مقدما من طرف نقابة القضاة والمحامين الأمريكيين ABA. وفي شهر نوفمبر من نفس العام (2007) تم منعه من طرف البانتاغون من المثول أمام لجنة تابعة للكونغرس للتحقيق في الخروقات التي شهدتها التحقيقات العسكرية.
في أغسطس 2006 تم تكليفه بمهمة قاض استئناف في محكمة الإستئناف العسكرية التابعة للبحرية الأمريكية.
ومنذ سنة 2008 عاد ستيوارت كوتش لبلدته مدينة شارلوت عاصمة ولاية كارولينا الشمالية حيث تم تعيينه قاضي محكمة الهجرة بتاريخ: 2010/10/15 بالإضافة إلى عمله كأستاذ للقانون العسكري في كلية شارلوت للحقوق Charlotte School of Law.
....
تم نشر القصة الكاملة لتجربة الرائد البحري كوتش في كتاب تحت عنوان Terror Courts: Rough Justice at Guantanamo Bay ( محاكم الرعب: العدالة الهائجة في خليج غوانتنامو) من تأليف جيس بريفن Jess Bravin الصحفي بمجلة Wall Street Journal حيث صدر الكتاب في إبريل 2013 عن دار Yale University Press.
..
عاد الرائد كوتش إلى بلدته شارلوت بعد سنوات من الغياب ليواصل حياته في مجالات عمل جديدة، ولكن السجين محمدو ولد الصلاحي لم يرجع بعد إلى حضن عائلته ووطنه منذ أن سلمته سلطات دولته للمخابرات المركزية الأمريكية ذات مساء من يوم ذكرى إستقلال الوطن 28 نوفمبر 2001 ليعيش منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا تجربة من أقسى وأفظع تجارب الإعتقال في العصر الحديث دون أن توجه له تهمة واحدة !!.
أسأل الله تعالى ان يفك أسر محمدو ولد الصلاحي وجميع أسرى المسلمين.
..يتواصل بإذن الله تعالى..