تنشأ الصراعات غالبا عندما يكون هناك عجز في أنظمة القرار أي النقص في الوعي أو التنبؤ بإمكانية نشوب الصراعات في بلد أو منطقة مشحونة بالتناقضات وتختلط فيها الحقائق بالمغالطات ويسودها مناخ من عدم الثقة بين جميع الأطراف سواء أكانوا فاعلين اجتماعيين أو سياسيين كل ذلك يدخل في نطاق المؤشرات الدالة على قرب الانفجار وللأسف فإن الكثير من هذه المؤشرات يوجد في بلدنا في الوقت الحالي فليست هناك آلية للتنبأ بالنزاعات وبالتالي العمل على نزع فتيلها قبل حدوثها . وللأسف فقد وصل خطاب التفرقة إلى أشده وتزايدت النزعات العرقية والفئوية والعنصرية من جهات متعددة ووصل مناخ عدم الثقة بين الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين إلى حد السباب والخروج على الضوابط الأخلاقية والقانونية المتعارف عليها.
ونظرا لانتشار رواسب الخطاب التجزيئي عن وعي وعن غير وعي في الكثير من الخطابات التي تعرفها الساحة السياسية في الوقت الراهن فإننا نقدم فيما يلي تعريفا إجرائيا للخطاب التجزيئي نشفعه بأهم الخصائص المميزة له خاصة في الحالة الموريتانية :
الخطاب التجزيئي هو كل خطاب ينطلق من مرجعية غير قانونية تمثلها الكيانات الجزئية السابقة على وجود الدولة أو الموازية لها كالإتنية و الطائفة و القبيلة والفئة الاجتماعية و الجهة إلخ... وبالتالي فالخطاب التجزيئي يتعارض بحكم الطبيعة مع الخطاب القانوني الذي ينطلق من مرجعية الدولة ككيان جامع لمواطنين أحرار ومتساوين ضمن هوية جامعة أو هويات متعددة بحسب طبيعة الدول والمجتمعات .
وبناء على ذلك يمكن القول بأن الخطاب التجزيئي يتميز بالخصائص التالية :
* الخطاب التجزيئي هو الخطاب الذي يفرض التنوع والاختلاف فيما هو متجانس : في الحالة الموريتانية كل الخطابات الفئوية التي تعمل على تفتيت المكون الواحد من الداخل مثل المكون العربي الذي يتكون من عنصرين قد يوجد تفاوت بينهما في بعض النواحي لكنهما من الناحية الثقافية والاجتماعية مكون واحد وجزء لا يتجزأ.
* الخطاب التجزيئي هو خطاب الانكفاء على الذات والخصوصية الثقافية الضيقة في مقابل الخصوصية الثقافية التي هي مطلب مشروع للشعوب والجماعات داخل الهوية الجامعة في الحالة الموريتانية هو الخطاب الذي يعمل على تكوين هوية موازية تؤسس لنزعة انفصالية غير مشروعة.
* الخطاب التجزيئي هو خطاب الهوية الأحادية وخطاب الهيمنة وعدم الاعتراف بالتنوع الثقافي الخطاب الذي لا يحترم الخصوصيات الثقافية للشعوب والأقليات في الحالة الموريتانية كل الخطابات التي تؤسس لأولية عرق على آخر ومكون على آخر وثقافة على أخرى أي كل خطاب لا يضمر المواطنة والمساواة أمام القانون.
* الخطاب التجزيئي أخيرا هو الخطاب الذي يدعى المساواة في مجتمع غير متساوي ولم توجد فيه حالة المساواة الأصلية لتؤسس لعقد اجتماعي منصف : وهو في الحالة الموريتانية كل الخطابات التي لا تعترف بالتفاوت الاقتصادي الذي يعود إلى غياب العدالة التوزيعية لأسباب تاريخية موضوعية مثل الاسترقاق وآثاره الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والنفسية.
بناء على هذه الخصائص الأربع التي هي أكثر التصاقا بالحالة الموريتانية نستطيع القول بأن خطاب التجزئة هو كل خطاب لا ينطلق من مرجعية الهوية الجامعة التي حد وسط بين الهوية الأحادية والهويات المتعددة. وفي الحالة الموريتانية تتميز الهوية الجامعة في مفهومها الصحيح بأنها : أقوامية – ديناميكية – منصفة :
* أقوامية : لأنها قائمة على دعامة دستورية تحمي التنوع الثقافي للبلد وتدافع عنه.
* ديناميكية : لأنها تستبعد الخصوصية الثقافية الضيقة والغيرية الثقافية الجذرية والوجود الأحادي وهيمنة عرق على آخر ومكونة على أخرى.
* منصفة : لأنها قائمة على مبدأ التوزيع العادل للثروة والمعرفة والسلطة بين مواطنين أحرار ومتساوين.
بناء على ذلك فإن الهوية الجامعة هي الهوية القائمة على معقولية الانفتاح والتنوع والاعتراف المتبادل ونبذ الوجود الأحادي والنزعة الاستبعادية والخصوصية الثقافية الضيقة وتتيح للجميع التمتع بحقوق متساوية.
إن بناء الثقافة الجامعة والهوية الديناميكية يقتضي جذب مختلف الجماعات باتجاه الاندماج المؤسساتي وهو ما سيؤدي بالتدريج إلى توليد مزاج عام وشعور بالانسجام بين المكونات الفرعية والثقافة الجامعة. وهنا تلعب المدرسة الدور الأبرز في تجاوز أهم التحديات التي تواجه الهوية الموريتانية الجامعة سواء فيما يتعلق بالمسألة الثقافية أو إشكالية توزيع الثروة.
ولعل حجر الزاوية في إعادة توزيع الثروة هو معالجة المشكلات التي تطرحها الفروق التربوية والاجتماعية والاقتصادية بين الفئات الاجتماعية لأنها هي الأساس الذي تقوم كل السياسات التربوية والاقتصادية والاجتماعية في الدول الديمقراطية الرامية إلى تطبيق العدالة بين المواطنين.
في الحالة الموريتانية سنركز على الفروق الاقتصادية والاجتماعية التربوية لأنها في اعتقادنا هي الأساس الذي تقوم عليه الفروق الأخرى.
والحقيقة أن للفقر أسبابا كثيرة في مجتمعنا بعضها جوهري يتعلق بوقائع اجتماعية تاريخية معروفة تنجم عنها بالضرورة في كل زمان ومكان أوضاع مادية ملازمة لها كالفقر ومعنوية مثل النظرة الدونية ، وبعضها عرضي ناجم عن عرضية الظروف الاجتماعية والتاريخية (كالجفاف ، وسوء التدبير ، والعقليات والكفاءات والمهارات الخاصة... إلخ).
الفروق الجوهرية هي التي من شأنها أن توجد وليس في الإمكان ألا توجد بالنظر إلى الحتمية التاريخية التي تحكم العلاقة بينها وبين النتائج المترتبة عليها في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية..أما الفروق العرضية فلا توجد فيها علاقة ضرورية بين الأسباب والنتائج لأنها قد توجد وقد لا توجد لظروف عرضية محضة.
ومن أمثلة الفروق الجوهرية في المجتمع الموريتاني تلك الناجمة عن ظاهرة الرق وهي توجد بالضرورة في كل المجتمعات البشرية التي عرفت تلك الظاهرة وبالتالي ليس ثمة اختلاف بينها إلا في حجم تلك الظاهرة ووطأتها. ولعل من أبرز الآثار المترتبة على تـلك الظاهرة انعدام الملكية والنتائج المترتبة عليها مثل :
- المشكلة الاقتصادية : الفقر والتهميش والجريمة وجنوح الأحداث ...
- المشكلة التربوية : الجهل والتسرب المدرسي وما ينجر عنه من انعدام الكفاءات الضرورية للحصول على الوظائف في الدولة
- الآثار النفسية والاجتماعية : التراتبية الاجتماعية والنظرة الدونية
أما الفروق العرضية فهي ناجمة عن أسباب عرضية يتساوى فيها الجميع وهذه هي حال بعض الشرائح الأخرى في المجتمع الموريتاني.
بناء على ذلك فإن العمل بمبدأ المساواة أمام القانون والمساواة أمام الفرص وهي الدعوى التي يتذرع بها الكثيرون يقتضي وجود حالة من المساواة الأصلية في المجتمع بين مواطنين أحرارا ومتساوين لكن بما أن المساواة الأصلية لم توجد يوما نظرا إلى انتشار العبودية في المجتمع إلى عهد قريب جدا فإن المساواة الصورية أمام الفرص التي نتحدث عنها هنا هي مجرد مساواة صورية تتنافى في الواقع مع العدالة.
إن وجود العبودية معناه انتفاء الملكية وانتفاء الملكية معناه الافتقار إلى الأسس الضرورية لبناء الشخصية في كل النواحي : التربوية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية ..بل الافتقار إلى الإنسانية ذاتها ! فهل هناك مكون آخر من مكونات مجتمعنا يشارك الحراطين في هذا الوضع ؟ هذا الأمر لا يعني الاستهانة بمعاناة المكونات الأخرى من الفئات التابعة تقليديا لكن وجود الملكية الدائم لدى هؤلاء جعل الفروق التي يعانون منها تندرج في نطاق الفروق العرضية التي يمكن أن توجد ويمكن ألا توجد والتي تتعلق أساسا بالنواحي النفسية والاجتماعية .
وعليه فإن العمل بمبدأ المساواة أمام القانون في هذه الحالة يتعارض مع العدالة وهذا يعني أن الفجوة ستظل قائمة بينهم وبين إخوتهم وستتسع مع مرور الزمن وستكون لا محالة بؤرة لتوترات اجتماعية لا تنتهي . وحتى ولو وجدت مساواة صورية على المستوى القانوني والدستوري وعلى المستوى الشكلي في الحياة السياسية فإن المساواة الفعلية تظل موضوعيا مطلبا بعيد المنال نحتاج في تحقيقه إلى تغيير الواقع المادي العنيد وهو أمر لا يمكن أن يتم بين عشية أو ضحاها ، وتغير العقليات والصور النمطية الراسخة في الذهنية الاجتماعية وفي نسق التمثلات المرجعية للفرد في مجتمع لا يزال تقليديا في بنيته وتصوراته.
المدرسة الموريتانية الحالية (وخصوصا المدرسة العمومية للأسف) تمثل نموذجا للمساواة الصورية أمام القانون بين مواطنين أحرار لكن غير متساوين في الأصل وعليه فإن المدرسة في شكلها الحالي تعيد إنتاج الفوارق الاجتماعية لأنها أصبحت في جزء أساسي منها مأوى لفئات اجتماعية بعينها نظرا لوضعها الاقتصادي المتردي للأسباب التي ذكرنا.
وغني عن البيان أن وجود هذه الفروق وتأثيرها السلبي الكبير على مكونة مهمة من مكونات شعبنا ليس مبررا بأي حال من الأحوال لإثارة الكراهية بين مكونات الشعب الواحد من خلال دغدغة العواطف من خلال خطاب الإنكار أو خطاب رد الفعل المبالغ فيه .
وفي تقديرنا أن حل هذه المشكلات بشكل جذري يمر عبر مبدأ التمييز الإيجابي في الميادين الاقتصادية والتربوية : الدعم المكثف للزراعة المطرية و إنشاء المناطق ذات الأولوية التربوية (ZEP) التي تضمن المساواة المدرسية بين جميع الفئات الاجتماعية.
وسيؤدي إصلاح المنظومة التربوية وإعادة تحديد أهدافها وعلى رأسها المساواة المدرسية وتقوية النسيج الاجتماعي مع مرور الزمن إلى تحقيق هدفين استراتيجيين مهمين لمستقبل التعايش في البلد وهذان الهدفان هما : التوصل إلى حالة المساواة الأصلية التي لا معنى للعدالة من دونها و من ناحية أخرى سيوفر ذلك الإصلاح من تلقاء ذاته الشروط الضرورية لترسيخ الهوية الجامعة وسنكون بذلك في منأى عن النزاعات والحروب الأهلية.