أتذكر قبل ستة عشر عاما، وحين كنت ذات ضحوة بين يدي ضباط الشرطة، أثناء عملية تفتيش دقيقة للسيارة والمنزل، عثروا على ورقة كتب في أعلاها اسم النائب محمد محمود ولد امات، وفي باقي الصفحة أسماء بعض ضباط الشرطة، من بينهم أحد الذين باشروا اعتقالي واستجوابي.
لم تكد عينه تقع على اسمه حتى تغيرت ملامح وجهه، وشخصت عيناه بنظارات حادة ومريبة تتنقل على خط مستقيم بيني وبين الورقة، ثم دس الورقة في جيبه، وانتهز فرصة انشغال زملائه بالتفتيش، ليخلص بي نجيا، وينزوي معي في ركن قصي، فسألني بلهفة وصوت بحته المفاجأة، ماذا في هذه الورقة.. لماذا يوجد اسمي مع أسماء ضباط آخرين من زملائي لديك.. وما علاقتنا بالنائب محمد محمود ولد امات...؟؟
لاحظت أن القلق والحيرة كانا باديين على قسمات الرجل، وكلمات أسئلته يسابقها تشوفه للجواب، فلم أشأ أن أفرج كربته على الفور.. تأملت الورقة تأملا تمثيليا وقلبتها ذات اليمين وذات الشمال، وقلت: هذا خط يميني بالتأكيد، لكن لا أتذكر سبب ورود أسمائكم في هذه الورقة..
كان الرجل قلقا ومرتابا، حاول معي أكثر من مرة معرفة سبب وجود اسمه لدي، رافعا الصوت ومُحدا زاوية نظراته أحيانا، ومتمسكنا وراغبا أحيانا أخرى، وواعدا بالمساعدة ساعة التحقيق، غير أنني كنت مصرا على موقفي، ولفرط تشتت ذهنه وتأثره بالأمر، صادف أثناء عملية التفتيش مشروع بيان لإحدى الجهات السياسية المعارضة في الخارج كان يعد للنشر، فلما سألني عنه قلت هذا بيان قديم سبق وأن نشر، ولا شك أنكم قرأتموه في الصحف، وقد تسلمت كباقي الصحفيين نسخة منه، ولم ينتبه الرجل ـ لشدة الارتباك الذي ألحقته به الورقة ـ إلى أن فحوى البيان كان جديدا ولم ينشر من قبل.
وأثناء نقلي من مفوضية "لكصر واحد" إلى مدرسة الشرطة بغية تسليمي إلى إدارة أمن الدولة في بداية مشوار جديد، لاحظت أن الرجل غارق في التفكير وقد أهمه أمر الورقة وأغمه وجود اسمه فيها.. فقررت أن أودعه بتفريج غمه وتخفيف همه ـ ولعلها لحظة رقة أوحى إلي بها منظر مقبرة لكصر ونحن نمر بجانبها، حيث منامة كثير من الأحبة وأصحاب الجاه والسلطان ـ وقلت له: ما في الورقة لا يدعو إلى القلق أو الخوف، فلا هو يتعلق بقائمة مرشحين للاغتيال ولا للاعتقال ولا لأي مكروه، بكل بساطة، هذه رؤوس أقلام دونتها من مؤتمر صحفي عقده النائب محمد محمود ولد امات بعد الإفراج عنه، والأسماء الموجودة هم الضباط الذين قال إنهم اعتقلوه من منزله وانتهكوا حصانته البرلمانية، وكنت أنت بينهم.
عادت هذه القصة إلى ذاكرتي وأنا أتبع الجدل بشأن دعوة أحدهم البارحة على إحدى القنوات المحلية لاعتقال محمد محمود ولد امات.
ثقوا أن منفذي سياسة الاعتقالات على الرأي، ودعاتها ومحرضيها، دوما محرجون وحائرون وخائفون.. فارحموهم يرحمكم الرحمن.