في الدولة المدنية المعاصرة، ذات السيادة على إقليم محدد، بواسطة الاعتراف الدولي، وجملة من القوانين الوطنية، لا يوجد معنى لمفاهيم فقهية تقليدية عديدة، مثل مفهوم "الأرض الموات"..
فمن خلال الدستور، وقوانين مثل القانون العقاري، والمدونة المعدنية مثلا، تحتكر الدولة ملكية سطح وباطن جميع الأراضي الوطنية، وتنظم إجراءات منحها واستغلالها على أي وجه..
وإضافة لهذا، يندحر مفهوم "الأرض الموات" بواقع أن الدولة مُلزمة بحماية كل شبر من أرض الوطن مهما نَأَى، في وجه الاعتداء الخارجي، ومن أي تَعَدٍّ داخلي غير مرخص، وتعرفُ جميعَ الإقليم، وتعلمُ بما فيه من معادن من خلال آلية الخريطة المعدنية المنصوص عليها في المدونة المعدنية، ولها وجود إداري وقانوني وسياسي، واقعي، ومفترض في كل نقطة من الوطن..
عند استغلال الأرض بدون الإجراءات التنظيمية للدولة يُعتبر الفاعل مُتَعَدِّيًّا في حكم القانون، ومن يستبعد ملكية الدولة لجزء من الأرض وحقها في تنظيم استغلاله يذهب بالناس إلى منطق الملكية التقليدية من طرف القبائل والمجموعات، ووفق ذلك المنطق لا موات في الأرض الموريتانية فكل أجزائها مملوك ملكا لا يندرس ولا يتقادم، والدفاع عنه مسألة شرف..
يطرح التعايش بين أجزاء من المنظومة الفقهية التقليدية، والقوانين الوطنية التي تحكم الدولة المعاصرة إشكالات كثيرة، تتجلى أحيانًا في الفتوى وفق أجزاء من الفقه التقليدي بما يخالف قوانين الدولة المدنية المعاصرة..
ولهذه الإشكالات وجه آخر، يتمثل في الفتوى فقها بما تكرسه القوانين الوطنية أصلا، وحشد الأدلة الفقهية مؤازرة للقانون تحصيلا لحاصل..
ولئن كان بعض المُفْتِين يُؤتى من قبل ضعف استيعابه وفهمه لمفهوم الدولة المدنية، وقوانينها ونظمها، وشدة تعصبه لعموم الفقه، فإن البعض الآخر لا يُؤتى من هذا القِبَلِ..
أتعجب من إيمان بالدولة المدنية المعاصرة انشرح به الصدر، ودعوة إلى التجديد الفقهي، وتجاوز الكثير منه ترددت عبر منابر مختلفة لا تستوعب معنى سيادة الدولة على الأرض، ولا تُلقي بالًا للقوانين الوطنية النافذة الناظمة للحياة العامة..
وتَبقى الفتوى بما يخالف القانون مسألة عامة، إن لم تكن مطبقة، يقع فيها الكثير من علمائنا، تقتضي نقاشا واعيا، بعيدا عن التجاذب..