البعد الثقافي لشخصية المرحوم محمد سعيد ولد همدي: "خيارُ حياةٍ ومَسَارُ صراع"*

اثنين, 2015-10-26 00:43
محمد عبد الله بليل يلقي العرض باسم فريق العمل المكلف بالبعد الثقافي للراحل.

إن أقل ما يمكن أن يقول الناظر - وَلَوْ طَرْفَةَ عَيْنٍ - في المنتج الثقافي للقامة الفكرية الفارعة المرحوم محمد سعيد ولد همدي؛ هو أن الرجلَ أورث كنزا ثقافيا متنوعا، مبدعا وعميقا، لا يمثل إلا جزءًا  - لكنه مُعَبِّرٌ - من البعد الثقافي الثري، الواسع للرجل.. سنحاول دراسته خلال هذه الكلمات، ابتغاء تَقَفِّي منابع وثوابت ومسارات خيارت هذا الطود الثقافي الشامخ  في الحياة، ومعاركه من أجل انتصار وترسيخ تلك الخيارات.

لقد تذوق المرحوم سعيد - ذلك الهَجِينُ البيولوجي والثقافي والنِّتَاجُ الخالص لباطن منطقة آدرار -  الكتابةَ باكرًا، وهو الذي نشأ في محيط جغرافي ومناخي عركته ثقافةُ الممانعة والصمود وأسبقيةُ وتفوق وقُدْسِيةُ العمل على "مداعبة" الدواة والقلم، كما دَبَغَتْهُ التربية الصارمة والخالصة؛ وفق التقاليد البدوية الممزوجة في تناغم تام مع القيم "القُصُورِيةِ" لحواضر الصحراء، فصيرتاه إنسانا متجذرا وراسخا ومتصالحا مع منابع ومدارك القيم التاريخية المتوارثة، مُشَبَّعا ومعتزا بثقافة المدارس المحظرية الأربع بالبلد: المدرسة الروحية (الإيمان والأمانة)، ومدرسة الحياة (الزهد والإنفاق)، ومدرسة الحكمة (التبحر العلمي والتواضع)، ومدرسة الثقافة (الموسوعية والذكاء).

كما مكنه التكوين الدراسي العصري بمدارس أطار وباريس، مرورا بسين لوي بالسنغال، من تعزيز و ترسيخ قيم الانفتاح وفهم وتقبل الآخر، وإن كان سعيدٌ يفضِّل القولَ أن ذلك عائدٌ إلى تمثل  مجملِ قيم "بلاد البيظان" كما سطرتها   Odette de Pugaudeau "حب  الصراع، الشعور بالمسؤولية، ضرورة مواساة الجار، تذوق البساطة والتواضع، كتمان الأفراح (لا تلك المتعلقة بالمائدة والشُّهرة)، عادة الأدب مع البشر والحيوان، وإتقان فن  الصمت والإصغاء". 

كان محمد سعيد رحمه الله، وهو الابن المدلل الذي ولد في بيت عِزٍّ وثراء، والمولود لأبيه همدي (الدّهاه)؛ الذي سارت الركبانُ بذكره الحسن، حتى قيل: "أتضحك وما أبوك الدّهاه؟"، كان منضبطا صارما قاسيا مع نفسه أكثر من صرامته مع غيره.. ذا طباعٍ متمردة، بل كان متمردا - بالمعنى الإيجابي للكلمة - ضِدَّ كل "القوالب والنظم الجاهزة".

كتب المرحوم سعيد نصّا مسرحيا بعنوان "حر أم عبد؟" بداية الستينيات، كان باكورةَ دخوله عالم الكتابة والتمرد، وقاده ذلك فيما بعد إلى التخصص في الصحافة، فلما حاز الدبلوم المهني من المدرسة الباريسية للصحافة، كتب - وهو الصحفي المتمرد الأصيل - : "صراحة لم يضف لي التعلم في المدرسة أَيَّ شيء؛  باستثناء بعض تقنيات سكرتاريا التحرير، طرق ووسائل تحرير الملخصات، التقنيات الخاصة لإعداد التقارير الإذاعية و/ أو التلفزية، ديكور الإخراج، الفرق بين الافتتاحيات وأنواع التقارير والختاميات... و في المحصلة؛ فإن مدارس الصحافة لا تُكَوِّنُ إلا مجرد معاونين أو تابعين أو ملحقين أو مساعدين أو هواة لمهنة الصحافة".

ومن ذلك يتبين لنا أن الهواية الأصلية والمَلَكَة الحقيقية للمرحوم سعيد هي الكتابة، كما أن قَدَرَهُ هو أن يكون "رجلَ ثقافةٍ في خدمة الثقافة"، ولم تكن مهنة الصحافة بالنسبة له إلا مدخلا وقاطرة مناسبة إلى عالم الثقافة. ولم يكن سعيد رجل دولة وإن كان خادما للدولة من الطراز الأول، وكان أحد القلة القلائل الذين يعملون على تجسيد فكرة الأمة والدولة، ولا يعتبرونها مجرد تصور أو خيال ذهني.

لم يبذل الرجل القسطَ الأكبرَ من وقته للصحافة، ولا مزاولة الخدمة العمومية والوظائف السامية، بل كان وقتُه الأوفرُ مسخّرا للثقافة؛ باحثا وجامعا ومصنفا وموثقا ومعلقا وناشرا لعناصرَ مُؤَسِّسَةٍ من تاريخ البلد وثقافته، فقد كان رحمه الله مثقفا كبيرا "يكره الالتزامات المسبقة والإيديولوجيات والممارسات النضالية، ويفضل براغماتية التوجه السياسي من غير قيود ولا ماركات جاهزة".

وتتضح دواعي توجه المرحوم سعيد إلى الثقافة في بعض فقرات التأبين - الذي دأب على تسميته "دَيْن الأجيال" - والذي كتبه في حق المرحوم سك مام انجاك، حيث يقول: "إن الذكرى والعبرة والوفاء للأحداث والأشخاص هي مُثُلٌ أصبحت نادرة وعابرة، وهو ما قد يفسر التفقير المفاجئ لقارتنا الإفريقية التي تمتلك العديد من المقدرات و الميزات".

ويضيف سعيد: "إن الحال نفسه منطبق على عالمنا العربي والإسلامي"، وتملأ الحسرة كيان المرحوم سعيد وهو يضيف: "إننا نحن العرب والمسلمين تُقَيِّدُنَا خَصْلَةٌ سيئة؛ هي ترك الآخرين يتملكون اكتشافاتنا ويجنون ثمارها، في حين نكتفي نحن بدور المنبوذ والمتفرج الأعزل مرددين: "أو لم تكن العلوم والتقنيات دَيْدَنَ علمائنا الأفذاذ، إلى أن تم توصيفها من طرف بعض نخبنا مفرطةِ الظلامية بالممارسات الشيطانية؟!".

وسيرا على عادة الرجال العظام الذين لا تغادر أعينُهم المرآةَ الخلفية، كان المرحوم سعيد راسخ الاعتقاد بوجود علاقة  قوية بين الثقافة والتنمية، وكانت له إسهامات في هذا المجال؛ تكاد تَهُدُّ أسس قلعة الفلسفة "الاقتصادوية" للبنك الدولي.

وذات مساء نقاشي ضم نخبة من المثقفين الاستثنائيين، بحضور السيد " مازوريل" ممثل البنك الدولي بموريتانيا بداية التسعينيات، كان سعيد رحمه الله جهوري الصوت دامغ الحجة، حين صدع بأن غاية كل تنمية هي الإنسان، وأن كل إنسان هو "حَمَّالُ ثَقَافَةٍ".

وعليه فإن كل رؤية تنموية لا تأخذ في الحسبان المرجعية الثقافية للإنسان؛ إنما تَحُطُّ من مرتبة الإنسان إلى درجة الحيوان، حيث تجعله موضوعا خاضعا، وحقلا للتجربة طائعا، وليس فاعلا نشطا ولا مستفيدا رئيسا.. ثم حذَّر - ونظرُه مُسَدَّدٌ صَوْبَ السيد "مازوريل" وبقية الحضور - : "إذا لم يكن بد من هذا، ولا إلى غيره من سبيل؛ فلا جناح علينا إذا رفضنا كل نموذجِ تنميةٍ يغفل البعد الثقافي".                                                      

وهكذا كان سعيد رحمه الله مقتنعا بترابط التنمية والثقافة، متحمسا لإمكانية تجسيد ذلك الترابط من خلال السياسات العمومية، فأنشأ "خزانَ أفكارٍ" متميزا عابرا للتموقعات السياسية، متخذا إستراتيجيةَ شرحٍ ومناصرةٍ؛ من أجل إقناع الدولة بتبنّي مشروع تنمية الثقافة وتثمين التراث ضمن مخططها التنموي الشامل.

ومن أجل ذلك استخدم - وبإفراطٍ أحيانا - علاقاتِه الخاصة ووقتَه الثمين وصحته الغالية وسمعته الطيبة ومعروفيته الواسعة وأملاكه الخاصة، وحتى أملاك ذويه الأقربين، حتى وُفِّقَ في تصور وإعداد وإطلاق أول مشروع وطني كبير لحفظ وتثمين التراث الوطني، حيث كان أولَ منسِّقٍ وطني له.

وقد تم إطلاق المشروع بشكل لافت من خلال ملتقى دولي متزامن مع تخليد ذكرى الاستقلال الوطني، في رمزية مشحونة بالدلالات، وذلك بحضور ومشاركة توليفة من الأساتذة الراسخين الوطنيين والأجانب، والباحثين المبرّزين، وبناة الأملاك الثقافية والمواهب الصاعدة والكفاءات غير المعروفة، التي تفضل "الصدقة العلمية في السر"، المتعطشين للثقافة والحادبين والغيورين على هذا اللقاء في كبرياء وشرف.

وقد كانت الكلماتُ الأولى من خطاب المرحوم سعيد - الذي ألقاه بالمناسبة - خارجةً عن التقاليد الدبلوماسية، وأعراف وقاموس الخطابات الرسمية المتعارف عليها، حين أطلق العنان لِبَنَانِهِ ولسانه قائلا: "اللحظاتُ التي يتجسد فيها الحلم واقعا ملموسا هي السعادةُ كلُّها، والاجتماع بهذا الموكب العلمي الفريد والمهيب هو الشرف أجمعه.. إن الحدث إذن تاريخي بامتياز، تتعانق فيه العناصرُ المحدِّدةُ لمستقبل ثقافي للبلد؛ من خلال قراءةٍ جديدةٍ ومُجَدِّدَةٍ لتفاعلات واجباتِ ومحددِّاتِ الأصالة، مع ضرورات ومتطلبات التنمية".

كما كانت كلماتُ خطاب صديقه "مازوريل" - ممثل البنك الدولي بموريتانيا ساعتها متحدثا من أعماق قلبه - مردِّدَةً لنفس المعاني التي قصدها المرحوم سعيد، تفوح منها رائحةُ إقناعيةِ  وقاموسِ المرحوم، والرجوعِ إلى الحق (أوليس الرجوعُ إلى الحق فضيلة؟).. حين قال: "إن التخفيف من الفقر لا يعني فقط زيادةَ الدخل ولا تصاعد الإنتاجية، وإنما يهدف أولا وقبل كل شيء إلى تَمَلُّكِ الجميعِ لخياراتِ وفرصِ العيش الأفضل".. مضيفا: إن "السكانَ الأكثرَ هشاشة لا ينبغي أن يكونوا فقط "مستفيدين" من العون والمساعدة، بل يجب أن يكونوا أيضا فاعلين في معركة التنمية، من خلال استعادة تَمَلُّكِ ثقافاتهم".

وقد عمل سعيد رحمه الله وفريقُه بكل جِدٍّ واجتهاد؛ من أجل بناء الجسد وبعث الروح في فكرة مشروع تثمين الموروث الثقافي، من خلال تحديد أماكن الذاكرة وجرد وتصنيف الأملاك غير المادية أو "التقاليدية"، وإرساء جسور مستدامة بين الثقافة والموروث والتنمية، وإعداد واعتماد معايير تسيير الثقافة والموروث، وصياغة وتفعيل النظام المؤسسي لقيادة السياسات المتعلقة بحفظ وتثمين التراث، وتصور الميكانيزمات المالية لتلك السياسات...

حتى إذا أخذ المشروع شكلَه النهائي، واستوى على عوده، واطَّرَدَتْ ميكانيزماته؛ سَلَّمَ المرحومُ الرايةَ لِخَلَفِهِ، ووفرت له الصحافةُ المكتوبة - الناشئة ساعتئذ - فرصةَ مواصلةِ عطائه، وتقاسم إنتاجه الثقافي المتدفق والمتجدد مع الآخر...

إن الحديث عن المرحوم سعيد دون الحديث عن مكتبته العامرة؛ كمن يتحدث عن خِصَالِ جسد بشري؛ غافلا القلبَ الذي هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله..

مكتبةُ سعيد كنز فريد وثمين، وهي من أهم المصادر والمراجع.. فيها من كل شيء تقريبا..

فيها كتب قيمة، وملفات نادرة، ومطويات مهمة، ومجلات متخصصة، وآلاف الصور القديمة والحديثة، وقطعٌ من الفن التقليدي؛ منها "أَرَحَّالٌ" بديع رائع، تم تحويله إلى مكتب تَغَارُ من جماله روائع الأثاث المكتبي "للويس الخامس عشر".

إنها أروع مكتبة خصوصية للكتب والوثائق والأرشيف، وهي بحق "مكان للذاكرة" لا يخفى، بل تَفْقَأُ نفعيتُه العامةُ عينَ كلِّ ناظر.

مكتبةُ المرحوم سعيد مثلت دائما "حديقةً صغرى للتآلف"، حيث يتنفس أطفالُه مِلْءَ الرئتين الهواءَ النقي، المُهَدِّئَ لروضة السِّلْم والثقافة تلك، حيث تُسِرُّ إليهم الكتب والقطع الأثرية بأحاديثَ عن الكبرياء والعزة والولاء للوطن، كما ترسم لهم طريق الاستقامة  وصِرَاطَهَا القويم، ومكتبة سعيد مكان الحميمية العائلية بامتياز، أَوَلَمْ يُسَمِّهَا أطفاله مازحين "مغارة علي بابا"؟

وعلى سبيل التندر والطرافة؛ كانت تتربع صورةٌ جميلة للمرحوم سعيد وسط جدران مكتبته، وقد سقطت فيما بعدُ في يدي صديق حميم ومعجب رحيم، فَخُيِّلَ إليه أنه مأذون بالكتابة أسفل الصورة، فكتب الجملةَ التالية: "انظروا صورةَ هذا السّباعي الاستثنائي، الذي لا يُحسن تسيير غير هذا النوع من المتاجر!!.. أما بقية القصة فليست للنشر.

وقد دأب سعيد رحمه الله - بكل شرف - على أداء وقضاء ما يسميه "دَيْن الأجيال" اتجاه السلف والرجال البناة من أعلام الشريعة والثقافة والسياسة الذين قضوا نحبهم في حياته، فكتب في حق كل واحد منهم تأبينا رائعا مرصّعا، مليئا بالعرفان والتذكر والتدبر، نافضا غبار التاريخ أحيانا عن أعلامٍ آخرين سبقوهم، وكان لهم تأثير على حياتهم، أو تشابه مع مسارهم العلمي أو النضالي أو الثقافي.

وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد قضى المرحوم سعيد "دَيْنَ الأجيال" في حق كل من: الشيخ عمر الفوتي تال، كان مام انجاك، محمدن ولد سيد ابراهيم، الملك همام، عبد الله ولد عبيد، محمد ولد خيار، حبيب ولد محفوظ، العقيد محمد الأمين ولد انجيان، محمد اليدالي ولد الشيخ، ومحمد الأمين ولد أحمد.. تقبله الله وتقبلهم جميعا مع الصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقا.

وخلال كل التأبينات التي كتبها؛ لم يكن سعيد يخاطب الفقيدَ المُؤَبَّنَ إلا شاكرا وسائلا له المولى عز وجل جناتِ الفردوس نُزُلًا، وإنما كان يخاطب الأجيالَ القادمة، نافضا الغبار وَمُمِيطًا اللثام عن مقاطعَ مجهولة من التاريخ، مُبَيِّنًا أحيانا ما لم تَحْوِهِ كتب التاريخ، ومُنَبِّهًا إلى دروس وعبر قد تضيع إن هي لم يُنَبَّهْ عليها، وتلك كانت دوما إحدى نضالاته ومعاركه؛ أن يكون  مجرد "حارس وخادم للذاكرة".

دونما ريب؛ فإن البعد الثقافي الأبرز للمرحوم سعيد هو طَرَاوَةُ نظره واستقلال فكره، فهو دبلوماسي، والدبلوماسي هو إنسان متمرن على فن التكيف والحركية وتقنيات الأساليب "الناعمة"، وخصوصا اتقاء سلاح واجب التحفظ، شديد المَضَاءِ.

ومع أنه مارس الدبلوماسية و"تأثر بها"، فقد كان دبلوماسيا ناجحا بل مميزا، فلم يكن رحمه الله يغرف من ذلك الينبوع الدبلوماسي التقليدي، بل كان يعبر عن وجهة نظره عند الاقتضاء، تبعا للمواضيع المثارة، والجمهور المستهدف، والوقْع والأثر المنشود.                                         

 والمتتبع لخرجاته الفكرية والإعلامية؛ يلاحظ أنه كان ثاقبَ النظر راجح العقل، لا يجامل في الأساسيات، ولا يخاف في الحق لومة لائم، كل ذلك في لَبُوسِ ومَقَامِ الهيبة والوقار، لا يسعي لرضى أو سخطِ  أي مخلوق.. هَمُّهُ أن يضع عنه إِصْرَ الرأي والموقف، وأن يجتهد في الإقناع بذلك، فإن وُفِّقَ فذلك الهدف والمسعى، وإن كان غير ذلك؛ ظل رابط الجأش، عَاضًّا على رأيه وموقفه بالنواجذ.

تخللت حياةَ سعيدٍ رحمه الله صرخاتُ قلب صادقة وردود فعل متحيزة، لكنها كانت دائما مضبوطةً ومقيَّدة بحدس و"بارومتر" القسط والعدل، وحملِ وثِقَلِ المسؤولية والأمانة.

ففي الموروث الأدبي لسعيد تكمن مقاطع نادرة الجرأة والجودة والأناقة اللغوية، هَيَّجتْهَا غالبا خرجاتُ أو تصرفات بعض الأقوياء في العالم؛ ممن يعطون لأنفسهم دورَ "الشريف" في فيلم "الغرب البعيد"  Far West أو الإمبراطور في "الحضارات البائدة"، فكان رحمه الله يُخرج لهم من تاريخهم وثقافتهم ما يُخجلهم، ولسانُ مقاله مُبَيِّنٌ لهم "أن لستم أجملَ من أنفسكم"!!

إن كان لا بد من إعطاء لقب مهني للمرحوم سعيد؛ فليكن "الباحث الأبدي"، فقد كان رحمه الله دوما يقرأ.. يوثق.. ويعلق على كل ما ينشر حول بلده والعالم العربي والإسلامي، وقد أورث جذاذات علمية حول كتب وأعمال فنية؛ لولاه لَتَخَطَّفَهَا الإهمال والكسل و"الخُمُولُ العلمي"، كما أورث رحمه الله فهرسةً عامة ثرية حول موريتانيا.

نَدَرَ أن يُفْلِتَ باحثٌ من توجيهاته البيبليوغرافية، أو تصفح نوادر كتبه ووثائقه المقروءة، أوالسمعية/ البصرية، وصوره النادرة، أو من الحصول على نصائحه وتوصياته وتصويباته المنهجية، وقد جعلت منه ثقافتُه الموسوعية حول موريتانيا ملجأً للعديد من الكتاب والمُقَارِبِين، من أجل قراءة وتصحيح وتصويب أعمالهم الأدبية والفكرية قبل النشر، أو تقريظها  تقديما أو تقييما.

وتراكميا؛ نسج سعيدٌ رحمة الله عليه مع مرور الزمن لنفسه مكانة ضمن حفنة الشخصيات الإجماعية بالبلد - وقليلٌ ما هم - و هو أمر صعب المنال؛ في بلد ما زال يلهث ويتساءل حول هويته.. بلد ثنائي القومية متعدد الثقافات.. بلد لما يصل بعد إلى منظومة وطنية توافقية.. بلد تتمدد فيه الفوارق المجتمعية مجاليا.. بلد ما زالت بعض التجاذبات القومية والجماعاتية  فيه تضع مبدأ الدولة الوطنية دوما على شفا جرف هار.. بلد تعشش العصبية في كل مواطنيه.. بلد يملأ التحدي قِلَّةً من أبنائه في إرساء وطن واحد وحيد وموحد..

وإلى هذه الفئة القليلة ينتسب - استحقاقا وصدارة - المرحوم سعيد الذي هو وريث إحدى الأسر العريقة، شديدة الارتباط والتعلق بمختلف مراجع وضوابط وروابط وخيارات الشعب الموريتاني.

لم يكن سعيد رحمه الله من الذين يستعجلون في الحكم والقول بأن مسألة الهوية الوطنية محسومة سلفا؛ إذ أنها إسلامية، عربية وإفريقية، وإن أسمعه ذلك قائل أو مُتَقَوِّلٌ أجابه بالإيجاب والإيجاب والإيجاب!!.. مردفا: إننا لما نتملك الهويةَ بَعْدُ، بل هي في طور البناء من خلال وحدة الثقافات المتعددة، سعيا إلى التكامل بين الخصوصيات.

ــــــــــــــــــــــــــ

* قُدّم هذا العرض في حفل التأبين الذي نظمه المركز الثقافي الفرنسي للمرحوم محمد سعيد ولد همدي، وقد ألقاه نيابة عن فريق العمل المكلف بالبعد الثقافي للراحل الأستاذ محمد عبد الله بليل.