أبو العباس ولد ابرهام لـ"مراسلون": اليسار متواضع ولا يزعم أنّه صوت الله (مقابلة)

أحد, 2015-03-29 19:47
الزميل أحمد سالم ولد باب والكاتب والباحث أبو العباس ابراهام

أجرى الحوار وقدم له : الأستاذ أحمد سالم ولد باب

حين أمسكت القلم لأكتب مقدمـة بين يدي هذا الحوار، وجدتُني أقف موقفا وقفه الدكتور طه حسين يوم أراد أن يكتب مقدمة "ضحى الإسلام" لصديقه أحمد أمين.

لو أثنيتُ على عباس بما أعرفه فيه؛ لقال الناس: حابى صديقَه!.. ولو جحدتُ مزاياه؛ لخنتُ حَقَّ الأمانة قبل أن أخون حق الصداقة، ذلك أنني أعرف من فضائله الشيءَ الكثير..

أقنع صاحبُ "الأيام" نفسَه بأن إحجامَه عن الثناء على صديقه لِرَأْيٍ قد يقوله الناس، فضلا عن أنه "خيانة منكرة، وظلم قبيح"، فهو نوعٌ من سوء الظن بالنفس وعدم الثقة بها، لأنه لا ينبغي للكاتب "أن يُصْدِرَ فيما يرى من رأي عما يقوله الناس فيه أو ما يمكن أن يقولوا، وإنما هو مدين لنفسه ولقرائه بما يعتقد أنه الحق".

وَغَنِيٌّ عن البيان أنني أقنعت نفسي بما أقنع به الدكتورُ نفسَه..

كانت سنواتنا - معشرَ الطلبة والمتدربين الموريتانيين بمكناس - في النصف الثاني من العقد الأول من الألفية الجديدة (2005 - 2010)؛ هي "سنوات عباس" بلا منازع على حد تعبير الدكتور السيد ولد اباه في مقاله الممتع "سنوات جمال".

في تلك السنوات الجميلة كانت مجالس طلبة الدراسات الإسلامية؛ هي أكثر مجالس الطلبة ثراء وخصوبة وعطاء بما كان يتخللها من نقاشات فكرية جادة.. وسرعان ما انجذب عباس إلى تلك المجالس، فقد كان محبا للنقاش والحوار.

أذكر أن علاقة خاصة ربطته بطلبة الدراسات العليا من وحدتي التكوين والبحث: "الاجتهاد المقاصدي: التاريخ والمنهج" و"الدرس القرآني والعمران البشري: القضايا والمناهج"، فقد قاسمهم الاهتمام بقضايا تفسير النص الديني، وتوظيف مناهج البحث المعاصرة في تأويله، (وهي مناهج لا أعلم لها رجالا في بلدنا سواه وسوى الدكتور السيد ولد اباه)، ولعله تعرف عندهم لأول مرة على عملاق الفكر الأصولي أبي إسحاق "الشاطبي"، ثم رأيتُ - لاحقا - أنه أثرى تلك المعرفة بما كتبه المفكر الكندي الفلسطيني الأصل "وائل حلاق" حول هذا الرجل.

عرف هؤلاء عباسا محاورا صبورا، مؤدبا، يجيد الإصغاء، ويتكلم بهدوء.. وَأَلْفَوْهُ قارئا نَهِمًا، ذَا جَلَدٍ عجيبٍ على القراءة المتواصلة دون كَلَل..

وأغلب الظن أنه وجد فيهم رحابة صدر وسعة أُفُقٍ، وقدرة مدهشة على "تخريج مناط" النقاش و"تنقيحه" بعد ذلك.

وقد لاحظت - آسفا - أن من خَلَفُوا هؤلاء - من الطلبة اللاحقين - رموه واتهموه بما لم يتهمه به الجيل الأول، وهو الجيل الذي خَبَرَهُ وعرفه حق المعرفة.. قلت في نفسي متحسرا: ألم يَسَعْهُمْ ما وَسِعَ سابقيهم وهم أغزر علما، وأَصَحُّ فهما، وأوفر لُحًى إن اقتضى الأمر ذلك؟

أزعم أن نقاشات حي "الزيتون" (وهو الحي الذي كنا نقطنه بمكناس)؛ أتت على أغلب القضايا التي تشغل بال المثقفين، ليس في بلادنا فقط، بل في عموم البلدان الإسلامية والعربية.. من تلك القضايا: اليسار، والعلمانية، والإسلام السياسي، وتجديد قراءة التراث... ولا يخامرني شك أن كُلَّ مَنْ شَهِدَهَا يذكرها بالخير والشوق.

وحول تلك القضايا كان حوارنا هذا.

كلما تذكرت "أيام عباس" حننت إليها كحنين ولد أحمد يوره إلى "أيام حنة":

عَلَى النَّهْرِ مِنْ ثَوْبَانِ نَفْسِيَ حَنَّتِ ** وَحَنَّتْ لِأَيَّامٍ كَأَيَّامِ حَنَّةِ

***

مراسلون: لا يعلم أكثر القراء أنك كنت قارئا شغوفا بكتب سيد قطب ومحمد قطب ويوسف القرضاوي وغيرهم من أقطاب الحركة الإسلامية.. كيف حصل هذا التحول؟

أودُّ أولاً القيام بملاحظة. وهي أن ما نُقدِّمُه عن ذواتنا هو فهمٌ داخلي، وغالباً وضعيٌ، لها. والذّاكرة ليست استعادة بقدر ما هي تحوير وانتقاء للوقائع. لقد قرأتُ سيرة حياة كيركغارد (مع أنّه كيركغورد) التي كتبها منذُ سنوات جواكيم غارف. وقد حاول غارف أن يقولَ لنا إنّه ليس علينا تصديق كيركغورد في قولِه أنّه مفكرٌ ديني؛ وإنّما يجب أن نقرأه أنّه شخص علماني، برغم قشرته الأصولية.

وما أريدُ أن أقوله عن نفسي هو أنّني لم أتحوّل. صحيح أنّني قرأتُ كثيراً لهؤلاء (ربما ليس بشغفٍ دوماً، وإن لم يخلُ من الاهتمام ومحاولة البحث عن الإجابات). وهوّ أمرٌ ما زِلتُ أفعله، وإن من منظور دراسي وبحثي أكثر مما هو نهل، وبالتأكيد أكثر مما هو استلاب. والآن إليك القصة كما أتصوّرُها: في منتصف التسعينيات ضربتني، وأنا مراهق، موجة من الغرور قلتُ فيها إنني تطوّرتُ من قراءة القصص والروايات والأدب العربي والغربي وأنّه عليّ "الصُّعود" إلى "الفكر". وفي موريتانيا أواخر التسعينيات كانت المكتبات، العامة والتجارية، في بداية انحسارِها؛ وكان "الفكر" يقال لخطابة "الصحوة" الآخذة في الانتشار حينَها. وإضافة إلى صداقتي في حينها مع بعض المكتبات الخاصة التي عادَ أهلُها من المغرب العربي بكتابات القرضاوي والأخوان سيد ومحمد قطب ومنير شفيق وأنور الجندي وحسن الترابي وراشد الغنوشي ومحمد عمارة ومحمد سعيد العشماوي وغيرهم. وقد أقبلتُ على هذه الكتابات باهتمام. ويذكِّرُنا فوكو أن المعرفة ليست لذة بقدر ماهي محاولة لتوطيد الذات والدخول في لعبة النفوذ. وبقدر ما نهلتُ من هذه الكتابات، وغيرِها طبعاً، بقدر ما فتحت لي فرصاً للنقاش والأنس مع المحيط المثقف.

 وأقولُ الآن، من منظوري الآني الاستدراكي، أنني كنتُ حينها في مشكاة الاعتذارية، وخصوصاً أنني كنتُ حينها أدخلُ في بعض الجدالات الاعتذارية والتوفيقية بين الحياة الصوفية، التي شكلت خلفية اجتماعية لي، والحياة العصرية التي طمحَ إليها جيلي. ويبدو أنّني وجدتُ في الجانب الاعتذاري التّوفيقي لدى هؤلاء دفعاً مهماً لرغبتي الفكرية الوليدة. كان سيِّد قُطب، برغم جانبِه التّكفيري للحداثة (أو على الأقل للتصور الغربي لها)، يقدِّمُ خدمة للمشروع الاعتذاري وخصوصاً في "المستقبل لهذا الدين" وفي مشروع التفسير الأدبي للقرآن. ولم يكن جانبه التصادمي مع ما اعتبرتُه في حينها "تقدماً" مزعجاً لأنه، حتى وهو يفعلُ ذلك، كان يضع الإسلام في مماحكة وبالتالي في أنطلوجيا (مكمنها الندية والمزاحمة) مع العالم المعاصر. ولكنه بمرور الوقت لم يعد يشدُّني. في المقابل كان كتاب "شبهات حول الإسلام" لمحمد قطب يجذبني في حينها لما بدا لي، وأنا مراهق، حججاً "دامغة" ورداً لـ"الشبهات"، وبالتالي تشريعاً للحياة، التي يعتذرُ عنها، عن طريق إيجاد موطئ لها في عالم ينبذها خطابياً. أما القرضاوي فكان في تلطيفاتِه وفتاويه، التي سخر منها المتشددون ووصفوا كتابه "الحلال والحرام" بـ"الحلال والحلال"، يُعطي لمراهق مثلي ثقة في انفتاح الدين وعدم تحجره. إذن لقد وجدتُ حينها في هذه الكتابات مصادقة بين الإسلام والعصر الذي نطمحُ له.

الآن آتي إلى سؤالِكَ: كيف جاء التحوُّل. وهو طبعاً سؤالٌ أرفض افتراضه التخندق مني. فبرغم استفادتي من هذه المشاريع إلاّ أنّها كانت بالنسبة لي أدوات للتفكير ولم تكن تمثِّل بالنسبة لي أي مشروع حزبي أو سياسي ولم تصدّني عن قراءة أشياء أخرى واستلهامها. لقد جاء "التحوّل" من الخيارات التوليدية (لنستعمل هذا المفهوم السقراطي) التي أتاحتها هذه الكتب. فقد فتحتني على استشهادات دائمة بليوبولد أسد وروجيه غارودي وغوستاف لوبون وول ديوارنت، وهم مفكرون كانت كتابات الإسلاميين تستشهد بهم دوماً وتستندُ عليهم. وعندما بدأتُ أقرأ هؤلاء الجهابذة وجهوني إلى خلفيات أخرى. فقد وجهني غارودي، وهو يساري فرنسي بنزعة صوفية إسلامية، إلى اليسار وإلى ما سمّاه "فلسفة العمل" وهوّ مشروع توفيقي بين الأسئلة الكبرى والدور النضالي الإنساني (البراكسيس) المتضمّن في الماركسية والصوفيّة وحتى في نيتشة وفيختة. غوستاف لوبون وجهّني إلى مسألتين: إعادة ترتيب المعطيات الخامة عندي عن التاريخ الإسلامي إلى تلخيص حضاري والاهتمام بالروح الثقافية وتحليل "عقلية الجماهير". وهكذا وجدتُ نفسي في الكليانية الهيغلية وقولها بجوهر وروح الثقافة. وهذا مشروع التّكميم وهو عكس روح التفكيك التي تُشغلني الآن، ولكنّه في حينه كان ملهماً. وقد أبعدني عن "الفكر الوعظي" الذي لا يُحلِّلُ التّاريخ بقدر ما يصفي منه شعارات حزبية. مع ليوبولد أسد بدأتُ أتساءل عن خلفيّته. وبالاستعانة بلوبون وجدتني في قراءات في الحضارة الغربية وصراعاتها الروحية والمجتمعية.

بنهاية هذه المرحلة كان الاهتمام قد تحوّل. وقد وجدتني في مشروع حداثي لكنه نقد قويٌ للحداثة، وليس مشروع الافتخار والاستناد عليها كما لو أنّها مشروع مكتمل حتى معرفياً (هذا ما يفترضه "الإعجاز العلمي في القرآن" و"الطب النبوي"). إذن أنا في مشروع النضال ضدّ الوضعية باعتبارِها قائمة على تاريخ من الظلم والتراكم. هذا المشروع بعكس مشروع الإسلاميين التقليديين لا يهتم بالدفاع عن "الحضارة" أو زعم الأحقية بها أو الاعتذار عنها أو البحث عن "أستاذية العالم" (مشروع حسن البنا) بل يهتم بنقدها بإثبات قيامِ "عظمتِها" على التفاوت والسيطرة والاستغلال وإثبات تغلغل هذا الخطاب في أنظمة التشريع، ليس فقط في العلاقات الاجتماعية المباشرة، وإنما في صياغة أنظمة السيطرة للغة والمعاني والدين والتأويل وتوزيع الثروة وتشريع ذلك التوزيع؛ ثمّ إن هذا المشروع هو فهم لأنظمة السيطرة هذه وتوليد استراتيجيات بشرية واجتماعية لمجابهتها باتجاه عقلنة أكثر عدالة.

مراسلون: على خلاف المعهود في بلداننا الإسلامية والعربية؛ بدأتَ حياتك الفكرية في وقت مبكر، أعني قبل بلوغك الثلاثين بسنوات.. كيف تَسَنَّى لك ذلك؟

لا ريبَ أنّك تقصد بـ"حياتي الفكرية" حضوري في النقاشات العامة في بلدي منذُ كنتُ طالباً جامعياً. ولكن يجب أن لا ندعَ هذا يخدعنا. فلقد كانت الحياة الثقافية في موريتانيا هشة بما سمح لطالب جامعي يافع أن يكون صاحب عمود صحفي بارز في البلد وأعطاهُ فرص حك الأكتاف مع "النخبة". وهذا ليس عائداً إلى أي مؤهلات استثنائية فيّ بقدر ما هو عائد إلى شحِّ الأدب والممارسات الفكرية الحداثية في هذا البلد، وخصوصاً في مطلع الألفيّة. ثمّ إنّ اختلاف بضاعتي أعطاني موطئ قدم؛ فأنا لم أكن، عمداً، حافظ أشعار أو ورّاداً للصور النمطية والأمثالية في كتاباتي، رغم أنّني كنت أقرأ المصادر التقليدية المألوفة. فكنتُ أخصخصُها بغيةً للنادر والمتميِّز. وكنتُ حريصاً على إقحام عناصر تثقيفية غير مستحضرة في ثقافتِنا العامة في كتاباتي. وبمرور الوقت صار هنالك قُراءٌ لما أكتبه. إذن كانت لي مقاربة تسويقيّة؛ ولكن باطنُها أيديولوجي، (أقصد بالأيديولوجيا المسلمات المعرفية أو البديهيات الأساسية للفهم أو شروط إنتاج الخطاب) وهو أن محنتنا هي محنة عولمية وكونية تستدعي استعارات عابرة للثقافة.

مراسلون: تنحدر من أسرة صوفية عريقة.. هل عانيتَ تناقضا بين الصوفية واليسار؟

إن الصوفية اليوم هي رمزٌ للإسلام الروحاني، القابع في المجال الفردي والطمأنينة الذاتية، لأنّه كما يبدو للكثيرين، مشروع الدين بالقلب لا بالسيف؛ وبالذائقة، لا بالزّجر. هذه ليست هي الصوفية التي سيجد اليسار، كما أفهمُه، معها صراعاً وجودياً.

على أنّ هذا تبسيطٌ؛ ولا يحلّ المشكلة كليّةً؛ ولن نعدم وجود يساريين يرون في هذه الروحانية نسخة "محاكاة" (لنستخدم مصطلحاً لفيلسوف ما بعد الكولونيالية، هومي بابا) تقوم فيها الصوفية باستبطان رغبات الهيمنة وتحوُّلُها إلى نمط تصرف وهوية. ولا شك أنه يمكن الاستعانة بتحولات الصوفية التاريخية لدعم هذا، فالصوفية لم تكن دوماً حركة خصخصة للدين أو حتى روحنته. والشاطبي نفسه يقدِّمُ محاججات ضدّ الصوفيّة شبيهة بمحاججة معاصرينا ضد السلفية: وهي تقديسهم وتغليبهم للوسائل على الغايات ونأيُهم بالدين عن الترشيد وتقطيسهم له بعيداً عن الغايات الاجتماعية. ونلاحظ أن معظم الحركة الجهادية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كانت حركة صوفية (مثلاً حركات جان فيشان خانودوست محمد في أفغانستان وعز الدين القسام، الذي كان شاذلياً، والطريقة الصالحية بالصومال والمهدي بالصومال وعمر المختار ومحمد بن علي السنوسي في ليبيا وعبد القادر الجزائري في الجزائر وعبد الكريم الخطابي في المغرب والشيخ ماء العينين وسيدي ولد مولاي الزين في موريتانيا والحاج عمر الفوتي في السنغال الخ)؛ بل وإن الجهادية في سيناء في مصر ظلّت حركة صوفية حتى بداية تسعينيات القرن العشرين.

وما أريد أن أقوله هو إن انكفاء الصوفية إلى مشروع إصلاح الذات بدل المغالبة السياسية، وخصوصاً العسكرية، هو مشروع نَجَمَ من تحولات تاريخية. وقد يبزغ لنا يساري قائلاً إن هذا مشروعاً "أخروة" و"غيرية" (بالمعنى الذي عند جاك لاكان) تأخذُ فيه الصوفية هويتها من "المرآة" ومن تحديد الهيمنة الحداثية لها هويتَها. ربما هذا صحيح. ولكن أين هو إطار لا يسلم من التشكل بناء عن الغيرية؟ وليست الحركات الإسلامية، بمطابقتها للشريعة والقانون وباستبطانِها للفهوم العلمانية للدين، غير حركات أنتجتها الحداثة بنفس المعنى.

في المقابل يقولُ اليسار: أنا مُنتج الحداثة ولكنني في نفس الوقت نضالاتُ مهمَّشيها والمكتوين بها والباحثين عن تحويرها وإعطائها وجهاً إنسانياً أو قلبها إلى "مدينة فاضلة" أو لا سلطوية. إن اليسار متواضع ولا يزعم أنّه صوت الله. في المقابل هو يقول: دعونا نحارب المسؤولين عن التراتبية. اليسار، كما أراه، هو مشروع مغالبة سياسية وفكرية، ولكنّه لا يعترف بشرعية ثورة على أسس غير أسس العدالة والمساواة الاجتماعية. وهكذا فهو لا يحب ثورة على أساس الاختلاف الطقوسي أو على أساس إعادة التقنين على أساس لا يحترم تساويّ المواطنين.

يمكنني تلخيص التباين في نقطتين: إن الصوفية باشتغالها في مجالات الشعور والتجربة المتعالية لا تبدو متضاربة مع اليسار السياسي. ومن ناحية أخرى، يبدو لي أن اليسار، وهو مشروع فهم أنظمة السيطرة ومقاومتها، لن يعتقد أن التنظيمات المشيخيّة الصوفية محايدة اجتماعياً؛ بل هيّ تستخدم في لعبة السيطرة الاجتماعية وإبعاد الحالة الأفقية للمجتمع. من هذا المنظور الأخير والخاص يمكن أن أقولَ إنّني وجدت تناقضاً بين نمط اجتماعي أعرفه وبين التزام فكري تقدمي. ولكن، كما يمكنك الملاحظة، لا توجد عمامة على رأسي.

مراسلون: عندما أقرأ كتابا مثل "أرنستو تشي غيفارا: أحلامي لا تعرف حدودا"؛ أشعر بالحنين إلى تلك الأيام التي يتحدث عنها، لكن هذا الحنين سرعان ما يخبو و يخمد عندما أتذكر ما آلت إليه الأمور في ظل العجوز "كاسترو".. هل من عَزَاء؟

أتفِّقُ معك شيئاً ما. ولكن لاحظ شيئاً: ليست يساريّتي كاستروية بأي حال. وليس النموذج الذي أفكّرُ من داخله نموذج كوبي. ولن أشعر يوماً أن هنالك ما يترتّبُ على يساريّتي في كوبا.

والآن يمكنني استغلال بقية المساحة في الاستئناس. فأنا أقرأ من حينٍ لآخر في الشأن الكوبي. قرأتُ منذ سنوات مذكرات كاسترو (حواره مع إغناسيو رامونيه) ومؤخراً رواية "وداعاً للبحر" الشهيرة لرينالدو أريناس. وما أوّدُ أن أقوله هو أنّه، بعكس ما نعتقده فإنّنا لا نعرفُ كثيراً عن كوبا. أولاً هي في حالة طوارئ منذ الستينات، وتحت حصار أعتى إمبراطورية في التاريخ. ويجرِّمُ القانوني الأميركي ويُقاطِعُ أي شركة تتعامل مع كوبا. ومع ذلك معدلات الصحة والتعليم فيها أفضل من معدلات الصحة والتعليم في واشنطن. وقد ساهم تصديرها للثورة في هزيمة الاستعمار العنصري في الكونغو وناميبيا وزيمبابوي وحتى جنوب إفريقيا. طبعاً هي ليست في نعيم (مع أن الروائي غراهام غرين تساءل عن فيدل كاسترو: "هل هو في النّعيم أم هل هو في الجحيم"). كوبا تعاني. ولكن لا يجب إغفال الخلفية. كان الروائي الكوبي، رينالدو أريناس، يقدّم، على معارضته الشديدة لكاسترو، صورة أكثر تعقيداً تُظهر لنا أزمة كوبا باعتبارها متعدِّدة الجوانب: جزءٌ يأتي من البيروقراطية الكوبية وهلاوسها الأمنية وحجم المصادرة "الثورية"، ليس فقط من النظام (مع أن النظام أنهى حالة الثورة منذ السبعينيات وتحوّلت بيروقراطيته إلى طبقة ما بعد ثورية) بل أيضاُ من جماهيره المتعصبة؛ أي تحول الثورة إلى هويات أحيائية عيارية؛ وجزءٌ يأتي من الكنيسة الوثوقية؛ وجزءٌ يأتي من الإمبريالية الأميركية. عندما نتحدّث عن كوبا فنحن لا نتحدّث عن دولة طبيعية.

مراسلون: في كتابه الشهير "الأسس الفكرية لليسار الإسلامي"؛ خاطب الدكتور خليل عبد الكريم خصومه من الإسلاميين بقوله: «وَسَّعْتُمْ خيمةَ النصوص؛ فتعمقتْ هوةُ التخلف والنكوص».. بغض النظر عن الموقع الفكري للدكتور خليل، هل تختصر هذه العبارة جوهرَ الخلاف بين "اليسار" وما يسمى بـ"ـالإسلام السياسي"؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فهل لك أن تَزِيدَ هذا المعنى إيضاحا؟

لا أعتقد أنّها تختصر، أو حتى تُمثِّلُ وجه الخلاف. لا أعتقد أن "الإسلام السياسي" هو حركة نصانية، أو أنّه حركة نصانية فقط. أي أنني لا أعتقد أن الإسلام السياسي مجرد حركة تنقِّحُ النصوص وتنطلقُ منها، بعيداً عن الصراعات الدنيوية المتشعبة. أعتقد أنّهم يعتقدون –تماماً كما يعتقد الاستشراق - أنّهم حركة نصانية، وهو ما ُتترجِمه مفاهيم "‏الصحوة" و"العقل الإسلامي" و"السلف". ولكن ليس علينا تصديق النّاس في أنسابِها. ما يقوله الإسلاميون عن ذواتهم هو نرجسية بالمعنى اللاكاني (أي أنّها هوية تتوطّدُ بالردِّ والتكيُّف مع الغيرية). في المقابل تبدو لي الحركة الإسلامية حركة "تعيش في العالم" (بتعبير هايدغري) وتُنتِجُ "الحقيقة" وتستخدم النصوص استخداماً أداتياً ورغائبياً.

صحيح، وأنا أقولُ هذا كدارس للعلمنة، أن "الإسلام السياسي" الحديث يتعلّق بتوسعة المجال اللاهوتي/السياسي ليطابق الدولة الشمولية الحديثة، ومؤخراً يُضيِّقُه ليتماثل مع النيوليبرالية، وذلك عكس المجال ما قبل الحداثي، الذي بثنائية "السياسة" و"الشرع" يقلِّص المجال السياسي الديني، ويبدو، بالنسبة لمنظورِنا الحديث، أقرب إلى ظاهرية ابن حزم منه إلى شمولية حسن البنا. ولكن هذه قصة الحداثة عموماً، التي يقول لنا فوكو أنها تتعلّق بتمديد السياسة إلى الحياة الأهلية وأجساد الشعب. ولقد نظرَ كثيرون إلى الإسلام السياسي الحديث باعتباره خطاب قوممة للدين يقوم على معيارية الجسد الديني والمجال العام الديني ويُمركزه في التصور الوطني الحديث.

أما بخصوص خلاف الإسلاميين واليسار فهذا صعب الاختزال. أولاً هو ليس بتلقائي، وخصوصاً في السياسة، لأن هذه الأطياف تتحالف، أو تتحالفُ بعض تشعباتِها، كما يقول ُ لنا النموذج في موريتانيا وتونس والسودان (وحتى في مراحل تاريخية في مصر وسوريا واليمن). أما في أوقات التطاحن، وهي بطبيعة الحال الأكثر درامية وإثارة، فهو يأخذُ أحياناً شكلاً طبقياً أو جغرافياً (مثلاً يأتي البعض بثنائيات الساحل والجبل في تونس أو ثنائيات الطبقة الوسطى وأسفل الطبقة الوسطى في مصر) هذا عدا جوانبه الفكرية المختلفة التي تأخذ بشكل عام صراع "التّقدميّة" ضد "المحافظة" أو الاشتراكية ضد اقتصاد السوق، الخ.

مراسلون: كلما رجعتُ إلى المشروع اليساري السائد، راودني شعور بأنه "مشروع فوقي"؛ يستحيل أن يَصْنَعَ التغيير في بلد نصفُ شعبِه أمي، والنصف الآخر يظنه إلحادا..

دعني أولاً أتلاطف مع هذه الصِّياغة. فمن ناحية يبدو أنها تتيح مماهاة بين "التغيير" و"السلطة" وإلاّ لأتاحت إمكانيات تغيير غير سلطوي، وإن نخبوي "فوقي". وثانياً هي تحيل اليسار إلى "الفوقية" وفي نفس الوقت لا تتيح له إمكانية الفعل، الذي يهرب الآن إلى "التحتية". ومن ناحية ثالثة فإن هذه الصياغة، التي تنفي عن اليسار إمكانية التأثير هي نفسها متأثرة باليسار وتستخدمُ مصطلحاته وقوالبه الذهنية.

ولكن بعيداً عن "السفسطة" (مع أن السفسطة هي التفكير، كما ينبئنا نيتشة) فإن الدّارس للتاريخ الاجتماعي والسياسي الموريتاني سيكتشفُ حتماً المساهمة الأبرز لحركة "الكادحين"، وإرهاصات اليسار قبلها في الحركات الوطنية لما قبل الاستقلال، في الوعي السياسي والفكري في هذا البلد وفي توطيد نموذج وطني للنضال والسياسة. وبمعنى ما من المعاني فإن الممارسة السياسية في موريتانيا مازالت رهينة الثقافة التي شكلّها، إلى جانب قوى اجتماعية وسياسية أخرى، يساريون. ومن الواضح أن هذه الحركة نجحت في تحويل الخطاب اليساري إلى منبر لتنظيم العمال والفلاحين. وهذا ما يقومُ ضدّ فكرة النخبوية المشاعة في نقد اليسار الموريتاني.

من أين تأتي دعاوي هذه النخبوية؟ إنّها تأتي من استفاقتِنا على بروز جديد للمصلح وارتباطه بحركة شبابية جديدة تلوك مصطلحات جديدة وغير مفهومة دوماً من قبل المتابع المتوسِّط. نعم، من هذا المنظور هنالك بعدٌ "فوقي". ولكن هذه مشكلة في الغطاء الفكري لأي حركة. جانبها الأكاديمي ليس كلُّه مُتاحاً لكلِّ أحد، بما فيها اليسار الشعبي نفسه. ويُظهر لنا مؤخراً التنابز بين نووم تشومسكي وسلافويجيجيك كيف يمكن أن يكون نقاش "الفوقية" و"التلقائية" حِدياً حتى في أوساط اليسار.

مراسلون: يُتَّهَمُ اليساريون العرب بتقليد ومحاكاة نظرائهم الغربيين.. ما هي مساحات التقليد والإبداع في فكر هؤلاء؟

يُقال أيضاً أن الإسلاميين بتبنيهم الديمقراطية قد تغرّبوا. ولكن هذا لا يحترمُ العلائقية بين الشرق والغرب. منذ وقتٍ مبكرٍ كانت "العالم ثالثية" مكوِّناً أساسياً من مكونات اليسار الغربي. أي أن العكس هو الصّحيح أحياناً: اليسار الغربي يستندُ على نضالات العالم الثالث سواءً كانت حركات التحرر أو، في مرحلة ما، الماوية، أو التحرر الجزائري (لنفكر مثلاً في فرانز فانون) أو تجارب الحكم الشعبي المختلفة أو القضية الفلسطينية، التي هي اليوم رافد أساسي في حركات محاربة العولمة و"احتلوا وول ستريت"، وسواءً كانت، على المستوى الأكاديمي، "دراسات الثانويين" القادمة من الهند والمنتشرة بسرعة في الأكاديميات الغربية.

بمعنى من المعاني فإن اليسار هو مشروعٌ لنقد الغرب. (ويقولُ لنا المفكر الهندي ديبيش شاكرابارتي أن "الغرب" موجودٌ عندنا من خلال "الحداثة السياسية" ولكنّه أيضاً مُحيَّدٌ فينا). فالتصدي للرأسمالية، وهذا يعني، رفض التحوُّلات الطبقية للدولة أو ارتباطَها بمصالح فئة ضئيلة أو محاولة تلطيف هذه التحولات وإعطائها "وجهاً إنسانياً" (هذا مشروع الاشتراكية الديمقراطية)، هو جوهر المشروع اليساري. هذا التّصدي بدأ أولَ ما بدأ في الغرب، ولكنه لم يكن بمنأىً عن النضالات ضدّ الهيمنة الرأسمالية خارج مجال الغرب. وخارج الغرب يرتبطُ هذا المشروع أيضاً بمكونات غير برجوازية وبالحركات الزراعية وبالثقافات والتواريخ المحلية. ومن هنا يأتي ادعاء اليسار الأممية لأنّه اعتقد أن أزمتنا أزمة عالمية، لا قُطرية، تقوم حلولُها على محاربة السلطة، التي بطبيعتِها مَفسدة عابرة للمجالات (اللاسلطويون) أو باعتبارها أممية بطبيعتها، ومن هنا رأى بعضهم أن البرجوازية هي أممية وليست فقط وطنية (الماركسيون).

مراسلون: كتبتَ كتابا عن التاريخ الموريتاني قد يكون في طريقه إلى النشر.. ما الذي يضيفه هذا الكتاب؟

كانت الفكرة من هذا الكتاب أن مشروع سرد قصة حياة الشعوب "الموريتانية" لم يُستوفَ بعد لأن أهم عناصر هذه القصة مازالت غير مُدمجة في التواريخ العامة الموريتانية. وقد جاء كتابي لرتق هذه الثغرة. وكان هذا يعني إيجاد مئات المعطيات والإحالات التي لم يُقحِمها المؤرخون في السرد العام للتاريخ. فقد استفدتُ من بعض الوثائق والمصادر التي ظلت مغبرّة في الرفوف فنفضتُ عنها الغبار ونهلتُ منها. وقد قدّمت صورة أعتقدُ أنّها موثّقة، وإن كانت غير مألوفة دوما، لتاريخ موريتانيا.

مراسلون: يشكو قراؤكَ من ميلك إلى الإغراب والتعقيد في الكتابة.. وإذا كان مُفَكِّرٌ في حجم الدكتور السيد ولد اباه يعترف بأن أعمالَ الفيلسوف التونسي "أبو يعرب المرزوقي" صعبةُ المتابعة على غير المتخصصين؛ فإنه لا عذر لك؛ لأنك تخاطب قُرّاءً عاديين ليسوا متخصصين في الفلسفة..

لي صديق يتأتئ. وقد قال لي مرّةً أنّه لا ينتبه لتأتأتِه إلاّ عندما يخبره بها أحد (تقليداً أو إشارة). وهذه هي نفس قصّتي مع ما وصفتَه بـ"الإغراب والتعقيد في الكتابة". يتهيأ لي، رغم هذا، أن كتاباتي تصل الرأي العام، وأنّها ليست تماماً في برج عاجي. والآن دعني أقولُ شيئاً بخصوص صعوبة المصطلحات: المفاهيم تُكمكِمُ التجارب وتختصرها؛ إنّها لغة، لها تاريخها الجماعي. ولا يمكن ترجمتُها دون تضحيّة بروح النّص.

الآن دعني أقول شيئاً بخصوص بعضِ نواحي الثقافة عندنا. وحتماً لا أريد به الحديث عن "خصائص" و"سمات""الثقافة الموريتانية"، كما فعل البعضُ مؤخراً (وبمنتهى الاستشراق). بعضُنا، بخلفيته الشِّعرية، يرى في الكتابة التجريدية مجرد ترف، وهو يحدِّدُ وسطية "المفهوم" و"الواضح" بموقفه هو. وانطلاقاً من ذلك يمكنه أن يحدِّدَ ما هو ديمقراطي وما هو إغرابي. ولهذا جذور في ضاربة في تشويه المستورد واستكراه "غريب اللغة" و"أعجمها"، ولهذا جذور قبائلية تربط بين الأصالة والألفة.

يبدو لي أن هذه الثقافة عشائرية. ودريدا رأى في الأخوة حالة عنصرية. في المقابل يبدو لي أنّه يجب بناء ثقافة تدعم البحث والاشرئباب للفهم وإعمال النظر. لأن هنالك تراتبيات أبدية. وقد أوردَ ابن قُتبية في "عيون الأخبار" أن أعراباً نظروا "إلى رجلٍ أنفه كأنّه كورٌ من عِظَمِهِ"، فضحكوا منه، فقال: "ما يضحكُكم. لقد كنا في قومٍ ما يسموننا إلاّ الأفيطس". يبدو أنه يجب الاعتراف بالتمايزات اللغوية كجزء من تشعب التخصصات وتعدد الروح الفكرية التي تسود في مختلفِ المجالات وضروب المعرفة.

لقد تحدّثتُ مؤخراً مع بعضِ المتخصصين في الدراسات الأمنية، واكتشفتُ أنني كقادم من دراسات "الشرق الأوسط" محصنٌ ضد كثيرٍ من المفاهيم التي طوّروها في حقلهم المعرفي المثير. ولذا اكتفيتُ بالاستماع والمتابعة وتقييد الملاحظات والسؤال عن ما لم أفهمه. إن صيغة "فوق كلِّ ذي علم عليم" الموجودة في الأثر ترتِّبُ لوجود مرتبية قابلة للتسلق بالمجهود الذاتي، كما ينبئُنا المتصوفة. وهذه الصيغة مهمة لأنّها تجعلنا نرفضُ الكسل المعرفي لأن هنالك أشواطاً بعيدة، ولأنها تجعلُنا نفكر فيما هو أصعبُ مما نعتقد بصعوبته. كم من قارئ يمكنه الآن فهم الكندي أو الفارابي أو ابن باجة أو ابن عربي أو المُلا صدرا من المحاولة الأولى؟ قرأ ابن سينا أرسطو عشر مرات قبل أن يفهمه أخيراً. وطوّر العرب ثقافة الشروح والتآليف الإيضاحية. والمحظرة الموريتانية تعلِّمُنا أن النصوص الأصلية تحتاج للطرر والحواشي والهوامش. برأيي، وأنا عانيتُ كثيراً في فهم المستعصي، أنه لا يجب على القارئ المعاصر أن يتوقّعَ المعرفة كتوقع الوجبات السريعة.

مراسلون: ارتفعت منذ بعض الوقت أصواتٌ تنادي بتجديد قراءة التراث على ضوء آليات التأويل المعاصرة.. ما الضرورة التي تدعو لذلك؟

ظهر مفهوم التجديد كخطاب وجودي في لحظات الأزمة. وطبعاً هو، هكذا، لا يخلو من شوائب هذه الأزمات وعوالقِها المفاهيمية. ولاشكّ أن له جذور قروسطية قديمة، ثورية وإصلاحية. ولكنه في عصرنا يأتي أيضاً من إصلاحية القرن التاسع عشر بكلِّ حمولتها الليبرالية والدينية. ويتفرّعُ ويبرزُ في مشروع "تجديد الفقه الإسلامي" (وهذا مشروع حسن الترابي، مثلاً، والإسلاميين "الوسطيين") وإن كان موجوداً بصيغ أخرى في مشاريع "نقد العقل" الديني الحداثوية. ومن السهل أحياناً إيجاد الجذور الاستشراقية لهذا المشروع لأنه يفترض أن "التراث" جامد ولا يتجدّد من تلقاء نفسه أو من تلقاء الحياة التي تُنتِجه؛ ولأنه يطابق الإسلام بـ"التراث" وبالنصوص ويفصله عن التاريخ. انطلاقاً من هذا الفهم يبدو البعض محكوماً بنزعة وضعية تجعله يعتقد أن "استعادة" الإسلام هي مسألة نصانية يمكن تحديثُها بنقرة زر وبموافقة "الإسلام" مع العصر، وكأن الإسلام كان نائماً في الكهف ثم "استيقظ" و"صحا" فجأة. الحقيقة أنّ مفهوم "التراث" ينبع من نزعة علمنة للدين ومن نزعة "أصولية" تعتقد أولاً بنظمية ومعيارية الإسلام وثانياً بإمكانية تلخيصه وتخليصه من الشوائب المنهجية أو العصورية. هذا استسلام لفصل الأصولي ما بين الإسلام التاريخي والإسلام النصوصي. وهو تفكير إجرائي وسياسي وبنيوي حُوِّل عبر العصور إلى سياسة. وهو، هكذا، نبوءة تُحقِّقُ ذاتها بنفسها، كما يقال.

مراسلون: على امتداد تاريخ التشريع الإسلامي؛ أثبتت قواعد تحليل الخطاب الشرعي التي وضعها الأصوليون، نجاعتَها وكفايتَها التفسيرية، ورغم أن تلك القواعد لم تُغْفِلْ الجانبَ الإلهي للوحي، فإنها عملت على "أَنْسَنَتِهِ"، ابتداء من تقرير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لمناوئيه من الخوارج أن الله فَوَّضَ الحكم في كتابه إلى الرجال، وانتهاء بالشاطبي الذي تحدث عن "مقاصد وضع الشريعة للإفهام"، وأكد جريانَ القرآن على معهود العرب في الكلام، وضرورةَ تنزيل فهمه على المعاني المشتركة للجمهور، والعناية بالسياق حاليا كان أو مقاليا... إلخ.

ألا ترى أن هذه القواعدَ قادرةٌ على تجديد ذاتها، وتطوير قدرتها التحليلية، وأنها أجدر بالاعتماد من قواعد التأويل المعاصرة؛ التي تُتَّهَمُ بأنها تحاول هدمَ الدين وتجاوزَه؟

من الصّعبِ علينا تحديد ما هو الدين، لأن الترسانة النصوصية التي يماهيها الخطاب الأصولي والاستشراقي بالدين هي ترتيبات تاريخية متخلّلَة بأنظمة الهيمنة وأنظمة "إنتاج الحقيقة" والأيديولوجيا و"إرادة المعرفة" و"إرادة الحقيقة". هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن ما سمّيتَه بقواعد تحليل الخطاب الشرعي هو ترسانة وضعية أنتجها العصر العباسي في إطار تفتُّحِ ثقافته على عولمة قروسطية معينة إن هذه القواعد التي تُقدّمُ اليوم أنها مقدسة هي منتجَة تاريخياً. وكما قيل عبر التاريخ، مع الاعتذار من الغلاف الذكوري للكلمة: "هم رجال ونحن رجال".

من ناحية أخرى، إذا كان النقاش هو ما هو المنهج الأفضل لاستعادة هذه الروح الدينية أو الكشف عن أغراضية النصوص، فإن النقاش هنا ليس بين رجال ورجال فقط أو بين منهج حديث ومنهج قديم، بل بين منهج يشكِّكُ في بناء تصور موضوعي بعيداً عن الأدلجة وعلاقات القوى والتأويل وبين منهج يزعم إمكانية استعادة، ليس فقط كلّ العهد النبوي، بل واستخلاص مواقف العهد النبوي من السياسة والتقنين والنقاشات في القرن الواحد والعشرين. حتى الخميني لم يجرؤ على هذه المثالية. بل قال أن منهجه يزيد على المنهج النبوي.

مراسلون: يُصرُّ الكثيرون على أن العلمانية واليسارية ترادف الإلحاد..أذكر أن لديك رأياً آخر.. بل إنك تذهب إلى أبعد من ذلك حين تقول إن مجرد توظيف المنهج الماركسي، مثلا لدراسة ظاهرة ما لا يعني"ماركسية" ذلك الدارس.. هل يتعلق الأمر بما يسميه الدكتور عبد الوهاب المسيري "النموذج التفسيري"؟

أكيد.. يبدو لي هذا بديهياً. ومع أنني لستُ على اطلاع بالظروف التي استخدمَ فيها المسيري هذا المفهوم. إلا أنّ هنالك البعد المنهجي للماركسية. ويتذمّر الماركسيون الأصوليون من ‏"سرقة" الأكاديمية للماركسية وتحويلها إلى آلية ترفية للبرجوازية. وربما لا ينطبقُ هذا على المسيري، القائل في مرحلة ما إنّه "ماركسي على سنة الله ورسوله"، والذي لم يكتفِ بالإنتاج الأكاديمي؛ بل كان مناضل ممارسة ورجل "براكسيس".

أودُّ التعقيب قليلاً على فكرة تكفير اليسار والعلمانية: نشأت هذه الممارسة في سياق معروف: إما سياق رفض التشريع الفكري والسياسي لسقوط الخلافة العثمانية في 1924 (بالنسبة لتكفير العلمانية)؛ أو سياق الحرب الباردة ومترتباتها على الحياة السياسية والفكرية الإسلامية (بالنسبة لتكفير اليسار). وقد نجحت الهيمنة الأميركية في تجييش الكنيسة والمسجد ضدّ اليسار. وفي إندونيسيا سوهارتو أسفرت حرب التكفير المرعية أميركياً عن قتل حوالي مليون يساري. واستطاع شاه إيران، غير المعروف بتقواه، في سحق حزب "تودة" مُوظِّفاً الحركة الدينية. وكان من السهل تجنيد الخطاب الديني ضدّ هرطقة اليسار وتكفير الاشتراكية. وأحياناً كان دُعاة القومية الدينية هم أشخاصٌ شَكّكَ كثيرون في إخلاصهم الديني كمحمد رضا بهلوي وكمحمد علي جناح، الذي مثله مثل دافيد بن غوريون، أقاما دولتين على أسس دينية رغم جزم الكثيرين بإلحادِهما. وسُرعان ما تحوّل مُدعو التقدمية كالملك حسين في السبعينيات وكالحسن الثاني في السبعينيات إلى مطاردي سحرة اليسار تحت يافطة دينية. وقد وجدت المشيخيات الخليجية في الاحتراب مع ناصر فرصة في تجنيد الإسلام السياسي ضدّ فكرة الجمهورية والاشتراكية. ونعرف اليوم أنّه لذات الأسباب تحمّسَ النِّظام السعودي ضدّ فكرة الديمقراطية المتبناة إسلامياً لأن هذا يقوِّضُ شرعية نموذجه. وسُرعان ما ضرب الإسلاميون جناحهم الاشتراكي (مصطفى السباعي مثلاً) واتخذوا قشرة رأسمالية. ويجب أن نذكر أنه حتى ثلاثينيات القرن العشرين لم تكن هناك مشكلة في أن يصف أحمد شوقي الرسول عليه السلام بـ"إمام الاشتراكيين" (كما في قصيدة "وُلِدَ الهدى")؛ ولكن هذا سيغدو هرطقة في فكر الستينيات والسبعينيات. أعتقد أن قضية التكفير تُعيق الحوار السياسي، بل تهربُ منه، وتحوِّلُه إلى صراع الهويات، كما أنّها لعبة من لا فكر له وسلاحٌ للتحصين من النقد بالنسبة للبعض الآخر.

مراسلون: لا يخفى على أحد بوادر التحول الاجتماعي العميق الذي تمرُّ به موريتانيا.. ما "السيناريوهات" المحتملة لمآلاتِ هذا التحول؟

أولاً ما هي هذه التحوُّلات؟ طبعاً ليست هناك مرحلة بلا تحولات اجتماعية. المجتمع هو نهر هرقليس. ولكن بعض التحولات أشّدُ من بعض. ما نشهده في موريتانيا هو بشكلٍ عريض تفكيك متسارعٌ للعقود الاجتماعية القديمة: فمن ناحية تتفكّكُ التحالفات الاجتماعية بين المجتمع البيضاني والمجتمع الحرطاني بسبب انسلاخ الإطار التقليدي للتبعية (الإطار شبه الإقطاعي والتبعية الإنتاجية الزراعية والرعوية). والسبب في هذا هو تدمير اقتصاد التوريد للحياة الكفافية التي توطدّت فيها هذه التبعيات، وفشلت الدولة المنسحبة في حياكة تحالفات أو تبعيات مبنية على اقتصاد عصري. وبطبيعة الحال تفشل الدولة في حياكة وئام اجتماعي يتخطى جرح الثمانينيات. وسنوياً يتحوّلُ "عيد الاستقلال" إلى موسم احتجاج على شرعية الدولة التراتبية والرّيعية.

منذ التسعينيات والدولة دمية في يد الدائنين الدوليين وتحت حذاء الإصلاحات الهيكلية وشروط المانحين والهيمنة السياسية للمساعدات الدولية (لقد كتب الكثير في فهم "المساعدات الخيرية" على أنّها نوعٌ من الحرب"). وفي أواخر التسعينيات كان لموريتانيا من السيادة ما يكفي لطرد الملحقين الفرنسيين الذين كانوا مثل "خبراء الاتحاد السوفياتي" في المعسكر الشرقي (رغم أنّها دفعت الثمن بقبول مطلب العلاقة مع إسرائيل). ولكنها اليوم تحت بسطار المانح الدولي الذي سُرعان ما فرض عليها دوراً أمنياً في إطار ما ينوب عن "الأفريكوم"، وجعل من النظام، تماماً كنظام التشاد وإثيوبيا، خطوطاً دفاعية جنوب الخط العربي الإفريقي.

ومن الناحية الاقتصادية الاجتماعية فقد فُرِضَ على موريتانيا خفض التعرفة الجمركية وتوجيه اقتصادِها لبناء البنى الأساسية لاقتصاد السوق، كالطرق وأنظمة الشحن ورفع الحماية عن المنتجات المحلية، وذلك على حساب الاقتصاد الاجتماعي كدعم الطاقة أو التعليم. رغم هذا فشل مشروع عصرنة نواكشوط/نواذيبو (فمثلاً زادت نسبة الزحمة رغم توسيع الشبكة الطرقية) ورغم ما يُقال عن ضرورة "تقريب الإدارة من المواطنين) إلاّ أن مشروع تقليص الحكومة، وهو مشروع نيوليبرالي فرضه المانحون، نفى الإدارة وقوّى، بدل أن ينفي، البيروقراطية أو يُحسِّن خدماتها.

من الواضح أن مشروع 2005 القاضي بتجاوز الطائعية بنظام ديمقراطي مبنيٍّ على ازدهارٍ أطلسي ومنطقة حرة قد فشل فشلاً ذريعاً. والطائعية هي الاعتقاد أنّه يمكن بناء ديمقراطية بلا مُعارضة، والعمل على تصفية المعارضة واستبدالها بمعارضة صورية أو انتهازية أو بتحالفات تقليدية وبدعاية غوبلزية. ومنذ 2008 ونظام الجنرال عزيز يجدِّدُ هذا المشروع بحيوية، وبنفس التكلفة الطائعية: السجون والزبونية والرشوة السياسية.

هل سيسقط بنفس الطريقة الطائعية أم أنّه سيورِّثُ التراكمات التاريخية للأجيال القادمة؟ إنّ نظامه حتماً ليس مخلداً أو محصناً. المشكلة مشكلة الباقين.

موقع مراسلون: أتوقع أن من الصعب عليك تعيينُ كتابٍ محدد يعجبك في مجال ما.. لذا سيكون سؤالي عن أول كتاب ينصرفُ إليه ذهنُك في المجالات التالية مثلا : التاريخ، الفلسفة، الروايات، السِّيَر الذاتية، الفقه الإسلامي، أصول الفقه، التفاسير القرآنية، اللسانيات.. 

أجدُ صعوبة في الإجابة على هذه الأسئلة المعيارية وأعتقدُ أنّها تريد إجابات من جِنسِها، وهو أمرٌ، على الأقل في حالتي، اختزالي وزائف. لذا أقترحُ استبدال هذا بالإجابة عن آخر ما قرأتُه في هذه المجالات. وهذه إجابة عبثية لأن آخر ما أقرأه لا يعطي فكرة عنِّي، فأنا "طائر العين" وقارئ "بدوي" رحال أنهل من مختلف العشب، وعلى رأي التشبيه الموريتاني "أقفز فوق رؤوس الأشجار". آخرُ كتاب تاريخٍ قرأتُه هو كتاب "1848: عام الثورة" لمايك رابورت. في الفلسفة كان آخر كتاب قرأتُه (للمرة الثانية) هو "حالة الاستثناء" لجيورجو أغامبن. آخر رواية قرأتها هي "موت فيرجيل" لهرمان بروخ. آخر سيرة ذاتية هي "ذات دولة" لساري نُصيبية. في الفقه الإسلامي كان آخر شيء قرأتُه هو "فتاوي العالمكيري"، وفي التفاسير؛ "روح المعاني" للألوسي. لقد طال عهدي باللسانيات، ولكنني قرأتُ منذ فترة كتاباً في فلسفة اللغة هو "كيف يمكن فعل أشياء بالكلمات" لجي أل أوستن.

موقع مراسلون 

...............................