العقدة من الإسلام/أحمد فآل ولد الدين

جمعة, 2014-06-20 13:16

كنتُ مرةً أحادثُ زميلةً غربيةً فقالت لي إنها مسيحية، لكنها تأخذ من البوذية جانبها الروحي بتسامح، فيما لا تنوي أخذ شيء من الإسلام. فقلت لها بداهةً إنها –والعقلَ الجمعيَّ الكامن وراء فكرها- ترى في الديانة البوذية ديانة خضراء، مثل موضات كفاح الاحتباس الحراري، وتدوير البلاستيك وممارسة اليوغا. أما الإسلام فندّ تاريخي ذو ضريبة، ومشاكس صعبٌ ذو أنياب، يقدم البديل ويسعى لاستعادة قُمرة قيادة التاريخ من الرجل الغربي الأبيض المسيطر عليها منذ حين.

أما الديانة البوذية فديانةٌ لم يحاصر معتنقوها فيينا عام 1583، ولا داستْ سنابكُ خيول معتنقيها فرنسا وإسبانيا والبرتغال، مما عصمهم من التشويه في الكلاسيكيات الغربية المشكِّلةِ للعقل الغربي المعاصر.

وقلْ نفس الأمر عن كافة الديانات الشرقية. فدارسو الديانات الغربيين مثلًا عندما جاؤوا لدراسة البوذية والهندوسية وقفوا أمامهما مشدوهين. إذ نظروا إليهما نظرتهم للسحر الجميل الأخّاذ. فرغم استعصاء الهندوسية على الفهم فلسفياً لسيولة فكرة الألوهية فيها وتعدد آلهتها التي تكاد تصل عددَ معتنقيها، فإن العقل الغربي لم ينشغل بمحاولة هدمها أو نقدها منطقياً، بل انصرف كل النقد للعقيدة الإسلامية. بل إن كثيراً من الكتاب انصرفوا متحدثين برومانسية عن فضائل عقيدة الكَرْما -عند الهندوس والبوذيين- التي تسجن الإنسان داخل زمن دائريٍ تناسخيٍّ عبثيٍ لا يخرج منه المؤمن إلا بعد اكتمال دورة السمسارا التي قد تدوم ملايين السنوات!

لقد وقعتُ فُجاءةً على آية من سورة المائدة تلامس سرّ توجس “أهل الكتاب” من الدين الإسلامي؛ وأهلُ الكتاب بالمعنى الحضاري اليوم هم العالم الغربي وثقافته. تقول الآية: “قلْ يا أهلَ الكتابِ هلْ تَنقِمونَ منّا إلا أن آمنا بالله(1) وما أنزل إلينا(2) وما أنزل من قبلُ(3) وأن أكثركم فاسقون”(4).

تختصر هذه الآية ببلاغة سر التوجس الغربي (المسيحي-اليهودي) من المسلمين في أربع نقاط.

أولاً: يزعجهم أن الإسلام ديانة توحيدية وحْييّة. ومرد هذا الانزعاج، أن توحيدية الإسلام تُفقد الثقافةَ الغربية فَرادةَ التميّز عن باقي الديانات والثقافات. إذ كانت هذه الفرادة ستجعلهم يتِيهون على الدين بأن العقل الأوروبي تجاوز العقول الأخرى بتبنّيه فكرة التوحيد –وإن كان بها غبش- التي يرى معظم علماء الأديان أنها آخر ما يصل إليه العقل البشري في صيرورة تفكيره الديني. إذ يرى علماء الأديان -المتأثرون بفكرة التطور– أن البشرية مرت في فكرتها عن الألوهية بثلاث مراحل: مرحلة التعددية، فالترجيح، فالتوحيد؛ وهي لحظة نضوج العقل البشري.

ثانيا: يزعجهم انفراد المسلمين برسالة مُهيمنة مستقلّة. وداعي انزعاج القوم هنا أن المسلمين مؤمنون برسالة محمد صلى الله باعتبارها رسالة خاتمة مهيمنةً مستقلةً عن النصرانية واليهودية فلسفياً مع ادعاء إرثهما. وهذا يعني أن هذه الرسالة عندما تقدم نفسها للدنيا تتقدم باعتبارها آخر ديانة توحيدية متكئة على الوحي تنتشر في أصقاع المعمورة. وهذا التحدي ما زال قائماً، حتى من الناحية الواقعية البحتة، منذ أكثر من 1400 عام. فلم تأت ديانة توحيدية مهيْمنةٌ ولا يبدو من خلال وضع العمران والاجتماع الحالييْن أنها ستأتي.

ثالثاً: يزعجهم كذلك أن المسلمين مؤمنون بموسى وعيسى وبما جاءا به. فهذا الاعتراف الإسلامي بالديانتيْن يوقعهم في حرج عظيم. فإيمان الإسلام بالديانتيْن يمنحه شرعية داخل المنظومة الفكرية لهما مما يضع معتنقيهما في حرج منطقي معه. ثم إن اعتراف الإسلام بموسى وعيسى وكتابيْهما يأتي مصحوباً بتحدي التشكيك في ثبوت الكتابيْن كما هما، مما يضاعف الانزعاج من الفلسفة الإسلامية ويعقد العلاقة المركّبة بها. ولعل هذا الانزعاج قد يتضاعف بعد تأكيد الدراسات النقدية الحديثة فكرة التحريف التي كان القرآن سباقاً إليها. إذ أصبح من شبه المتفق عليه في أدبيات دارسي الكتاب المقدس -حتى بين القُسُس- كون الكتابيْن نصيْن تاريخييْن فَعَلَ فيهما التاريخُ المتعرّجُ والنساخُ الخطاؤون الأحبارُ الطامحون الأفاعيل.

رابعاً: العامل الآخر في الحرج الحضاري من الإسلام هو ما أشارت إليه الآية ختاماً بقولها “وأن أكثركم فاسقون”، أي أن المسلمين في معظمهم يحترمون دينَهم ومُخبتُونَ لربهم، بعكس أصحاب الديانتيْن الأخرييْن اللتيْن يقل بين أتباعهما الالتزام الديني. فالمسلمون في معظمهم مؤمنون بالإله الواحد وممسكون عن الموبقات، ويحرصون على الصلوات. إذ يغلب على الشارع المسلم والإنسان المسلم نمطٌ من التدين للخالق، والإخبات له أكثر مما يظهر عند الغير. هذا واقع داخل المجتمعات الإسلامية وواقع ملموس في حيوات المسلمين الغربيين.

هذا “الالتزام الديني” المقابل للفسق عند الآخر بلغة القرآن، أدى إلى نتيجة حَريِةٍ بالتأمل ومستفزةٍ للخصم. فقد أذعنت كل الحضارات وتنمطت واستسلمت حضارياً إلا الإسلام. فقد أصبح قصارى الواحد من أفراد الأمم غير الغربية أن يكون غربي اللون والطعم والشكل والعقيدة والمظهر، فيما ظل المسلمون الوحيدون المحتفظون ببصمتهم الخاصة، وهويتهم الفيّاضة. فهم الذين يمتلكون نظاماً قيمياً عالمياً مستقلاً عن المحكية الغربية الكبرى.

يتجسد ذلك في مرجعيتهم الأخلاقية المتكئة على الإيمان، وذاكرتهم الملهِمة البديلة لعصور التنوير الأوروبية. حتى إن أي فتاة مسلمة تسير اليوم في شارع عام ترسم لوحة لرفض الهيمنة والتنميط وإخراج البشر في قالب حضاري واحد؛ هو قالب الإنسان الغربي المنتصر حضارياً في هذه اللحظة.

لذلك، لم أتفاجأ عندما توسّل دالايلاما إلى الغربيين أن لا يفسدوا عليه البوذية بتحويلها إلى موضة بحتة، في الوقت الذي كانت أجراس الخطر تقرع في الغرب كلما ولد طفل مسلم بين ظَهرانيهم. فالإسلام دينٌ جادّ يمثل بديلاً ومنافساً حضارياً، وما خطاب توني بلير الذي ألقى قبل أسابيع، مطالباً فيه الغربيين نسيانَ الخلاف مع الصين وروسيا والانصرافَ إلى الخطر الاسترايجي المتمثل في الإسلام الذي ليس منكم ببعيد.

أزعم أن هذه الحقائق كانت في لاوعْيِ زميلتي الإسكندنافية وهي تقتحم البوذية واثقةً، وتتهيب الاقتراب من الإسلام توجّساً.

بقلم الأستاذ أحمد فآل ولد الدين

* المقال منشور يوم 22 مايو 2014 بصحيفة “التقرير”

....................................