جناية «النسخ» على الإسلام والمسلمين

خميس, 2014-06-12 11:37

في علوم القرآن الكريم التي انتجها المسلمون الاوائل باب «النسخ»، قالوا فيه ان في القرآن الكريم ناسخا ومنسوخا، وانه على ثلاثة انماط: نسخ الحكم، نسخ التلاوة، نسخ الحكم والتلاوة. نسخ الحكم يعني نسخ حكم متقدم بحكم متأخر بحيث يصبح العمل به لاغيا رغم وجوده نصا. أما نسخ التلاوة فيبقى العمل بالحكم مع أنه حذف من النص القرآني، اما نسخ الحكم والتلاوة فيزعمون أن آيات نسخت حكما وتلاوة، وان سورة الاحزاب كانت اطول مما هي عليه الان بمرات.ما حقيقة النسخ وهل في القرآن الكريم نسخ؟. القرآن الكريم نص بسيط ومركب، واضح وملتبس، آيات محكمات وأخر متشابهات، يحتوي على نظرات في الإله والوجود والخلق والطبيعة والإنسان، وعلاقة الإله بالبشر وعلاقة البشر بالكون وما فيه من جماد ونبات وحيوان الى جانب علاقاتهم بعضهم ببعض، وقصص عن شعوب بائدة، ورؤى عامة سياسية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية. افكار ومواقف محكومة بمنطق رسالة سماوية جاءت لتجديد دعوة التوحيد التي اصابتها تشوهات نتيجة تداخلات وتفاعلات بين افكار وحضارات وقيم ومناهج دينية وفلسفية، رسالة حوت صيغا ومواقف محددة ومواقف دون تحديد أو قطع، نهايات مفتوحة ونهايات مغلقة وجازمة، تسمح بتعدد القراءات والاحتمالات والخيارات، تنطوي على فرضيات وفروض، وإجابات مبدئية وعامة تترك للمؤمنين بها نوافذ وأبوابا مفتوحة للتفكير والتقدير في ظروف متغيرة وتطورات ستشهدها حياتهم وحياة خلفهم الى يوم الدين، على خلفية كونها الرسالة الخاتمة. نزل القرآن الكريم على العرب، وهم جماعة شبه بدوية في بنيتها الاجتماعية، لم تعرف الانتاج المعرفي والتفكير المجرد (لم يتجاوز عدد من كانوا يجيدون القراءة والكتابة في مكة اثناء نزول القرآن الكريم الـ 17 شخصا)، مجتمع دورة حياته بسيطة وقليلة العناصر والأبعاد، لم يكن على تماس عميق مع حضارة تلك العصور وانجازاتها العلمية والفلسفية، نص هز مجتمعهم وخلخل قيمهم الاجتماعية، واستفز ملكاتهم وخبراتهم الحياتية، وشكل تحديا كبيرا لقدراتهم العقلية فكان التعاطي والتفاعل معه، خاصة في المراحل الأولى، عمليا ومنسجما مع احتياجات الدعوة والتبشير بالدين الجديد تركز على ما وضحه الرسول الاعظم حول الالوهية والتوحيد وتقنينه للعبادات والمعاملات.غير ان وفاة النبي المبكرة وضعتهم امام مسؤولياتهم في التعاطي مع النص وبذل الجهد العقلي لفهمه وإدراك ابعاده ومراميه واستنتاج المواقف والمخارج المناسبة، ولما كانت علاقتهم بالقضايا الفكرية حديثة وبسيطة فقد وقعوا في ارباك نتيجة وجود آيات تتحدث عن الموضوع الواحد بعدة مستويات وتأخذ عدة مواقف مثل الحديث عن الخمر فتارة تنهي عن الصلاة للسكارى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ»(النساء 43) وأخرى تقول ان في الخمر منافع للناس ولكن ضرره اكبر»يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا» (البقرة:219( وأخرى تجعله رجس من عمل الشيطان وتدعو الى اجتنابه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(المائدة 90)، والحديث عن الكفار والمشركين وطريقة التعاطي معهم ففي حين دعت آيات الى الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»( النحل 125) وأخرى حرمت الاكراه في الدين «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ»)البقرة 256) دعت آيات أخرى الى قتالهم وقتلهم دون تردد «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ( التوبة 5) وقالت أخرى بـ «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم» (الممتحنة 8). ولما عجزوا عن ادراك كنه التعدد والتباين والتعارض، ولم يجدوا مخرجا لحله قالوا بالنسخ في ضوء قراءة واحدية لمفردة «آية» الواردة في الآية 106 من سورة البقرة «ومَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا» باعتبار كلمة «آية» تشير الى فقرة من القرآن الكريم لها رقم، وآية «وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»(النحل101)، رغم انها لم تتحدث عن نسخ بل استبدال مكان آية بآية، وقالوا ان هذه الآيات المتعارضة ينسخ بعضها بعضا، ووضعوا لذلك قواعد تنسخ فيها الآية المتأخرة الآية المتقدمة، علما ان ترتيب القرآن الكريم لم يتم على اساس زمان نزول كل آية ما جعل الحسم بالأسبقية شديد الصعوبة. وقد اختلفوا على عدد الآيات المنسوخة بين مبالغين قالوا انها 565 آية وبين معتدلين قالوا انها 66 آية، قال بها عبدالقادر البغدادي، وبينهما قول ابن الجوزي انها 247 آية وقول محمد بن حزم انها 210 آيات وقول ابو القاسم هبة الله بن سلام انها 212 آية وقول ابو جعفر النحاس انها 134 آية، وقد روجت روايات على السنة صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام لتأكيد صحة قولهم بالنسخ مثل نقلهم عن عائشة ام المؤمنين «ان سورة الاحزاب، وعدد آياتها في القرآن الكريم 73 آية، كانت 200 آية»، وقول ابي بن كعب: «انها كانت تعادل سورة البقرة». لقد نجت 43 سورة من أصل 114 سورة، هي سور القرآن الكريم، من مقصلة النسخ بينما تعرضت 25 سورة الى التقطيع لوجود ناسخ ومنسوخ و 6 سور لوجود نسخ فقط و 40 سورة لوجود منسوخ فقط، وما زاد الطين بلة قولهم بنسخ القرآن الكريم بالسنة، والسنة بالقرآن( وحده الشافعي رفض نسخ القرآن بالسنة). لقد قاد نقص القدرات الفكرية والبحثية، وضعف القدرة على تصور حالات ووقائع غير مألوفة، وانعدام القدرة على التجريد والتخيل، الى حل المسألة ضمن منطق تبني اسهل الحلول: التخلص من التباين بحذف آيات وتثبيت أخرى عبر ابطال العمل بها عن طريق القول بالنسخ، مع ان مفردة «آية» قد وردت في القرآن الكريم 82 مرة بمعنى علامة، دليل، برهان، اثبات، معجزة، ولم تأت بمعنى فقرة قرآنية ولا لمرة واحدة، حتى الآيتان اللتان استند اليهما القائلون بالنسخ لا تفيدان، كما يقضي السياق، فقرة قرآنية، وقد أطلق عليها هي ذاتها لفظة «آية» لأنها برهان على حقيقة الهية او وجودية او اخلاقية او سياسية او اجتماعية.ترتب على القول بالنسخ عدد من التبعات الخطيرة على الاسلام والمسلمين هي:خلق اضطرابا في طبيعة التصور الاسلامي للإله الذي قدم ذاته الالهية عبر اوصاف وردت في القرآن الكريم عبر اسمائه الحسنى الـ 99 والتي تبرز قدرته الكلية ومعرفته الشاملة لكل ما حصل ويحصل وسيحصل بينما يثير القول بالنسخ الشك بهذه الصورة حيث يظهر الاله كمن يغير موقفه لأنه اكتشف عدم صحته او حدوث مستجدات لم تكن معلومة من قبله فاستدرك ذلك بالنسخ (حاشاه من ذلك)، كما أثاروا الريبة والشكوك في القرآن الكريم كنص مؤسس وثابت وفي كونه موحى من الله عز وجل.أدى القول بالنسخ، وتزامنه مع لحظة تاريخية تأسيسية، لحظة الدعوة ونشر الاسلام والصراع مع الخصوم والأعداء من المشركين والكفار، الى اختيار الآيات التي تتناسب مع المرحلة وتعزز موقف المسلمين في الصراع فاعتمدوا آية «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (التوبة 5)، المشهورة بآية السيف ونسخوا بها 124 آية تتعلق بالمرونة مثل «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»( النحل 125) وأخرى تقول بحرية الاعتقاد «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ»(البقرة 256) وأخرى بالتسامح والإحسان الى المشركين والكفار الذين لم يتخذوا موقفا معاديا من الإسلام والمسلمين»لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»(الممتحنة 8)، وهذا أوهن روح التسامح والصفح، التي هي روح الدين الاسلامي، وسرّع في تدهور المجتمع الاسلامي بشرعنة التعصب والانقسام والقتل المتبادل بين المختلفين، كما افرز تقسيم العالم الى دار اسلام ودار حرب وفتح الصراع مع بقية دول العالم دون قيود او حدود.قدم القول بالنسخ وتحديد الآيات الناسخة والمنسوخة وتبني مواقف متشددة من الآخر المختلف، في ضوء واقع تاريخي، وسيادة عقلية النقل والتقليد المستحكمة بالمسلمين، عامتهم وخاصتهم، للسلفيين المعاصرين قاعدة انطلاق في التعاطي المتشدد والعنيف ليس مع غير المسلمين فقط بل ومع المسلمين الذين اعتبروا مرتدين قتلهم مباح شرعا. عود على بدء، هل في القرآن الكريم نسخ، ولماذا استمر القول به الى الآن؟.ليس في القرآن الكريم ناسخ ومنسوخ، فقد ردت الآيات على ذلك قال تعالى: «الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ»(البقرة 1 و2) وقال: «كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد»(فصلت 42).ومع ذلك فقد قالوا بوجود ناسخ ومنسوخ في القرآن الكريم، واستمر القول به في ايامنا، رغم التطور العقلي والقدرة البحثية، نتيجة سيادة عقلية النقل والتقليد التي فشت في العالم الاسلامي خلال مراحل التراجع والانحطاط وما ترتب عليها من تخلف فكري وسياسي واجتماعي فلم يتقدم القول المضاد الذي أخذه ابو مسلم الاصفهاني ( 254 – 322 ) صاحب تفسير «جامع التأويل لمحكم التنزيل»، وبعده ابو الحسن الماوردي (364 – 450) في كتابه التفسير، ومحمود بن عمرو بن احمد الزمخشري(467 – 538) في تفسيره الكشاف، وفخر الدين الرازي(544 – 606) في تفسيره الموسوعي: مفاتيح الغيب، وقول فقهاء معاصرين كبار مثل الشيخ محمد عبده والشيخ محمد الغزالي والشيخ جمال الدين القاسمي والأستاذ عبدالكريم الخطيب، ذلك ان تجذر عقلية النقل والتقليد قد تحولت في ظروف الانحدار والتخلف الفكري والاجتماعي الى حالة تقديس للأسلاف وتنزيههم عن الخطأ واستنكار مخالفتهم او الرد عليهم الى درجة استهجان فقهاء وعلماء دين كبار لمخالفة ابن تيمية فتوى عمر بن الخطاب حول الطلاق ثلاثا، حيث اعتبرها عمر ثلاثا بينما اعتبرها ابن تيمية واحدة، الى درجة اعتباره ضالا لأنه خالف اجماع المسلمين الذين التزموا بفتوى عمر طوال سبعة قرون (مات الاول عام 728 هجري والثاني عام 23 هجري ) وهي قضية فرعية فكيف لو خالفه في قضية جوهرية.وقد امتد هذا الموقف المتمسك بالنسخ الى ايامنا نتيجة للنقل والتقليد واعتماد مناهج تعليم قائمة على تدريس الفقه دون اعادة نظر او اعمال للعقل فانتقل القول بالنسخ عبر الاجيال عن طريق تلقيه عن مشايخ ومدرسين وتبنيه من قبل فقهاء التقليد على مر العصور. فهذا الثقب الاسود المكون من «الفقهاء» او «علماء الدين» وأتباعهم من العاملين في حقل الدعوة: فقهاء درجة ثانية، دعاة، ائمة مساجد، قراء، ناشرون، مدرسون، شكلوا حلقة مغلقة تحتكر الحديث باسم الدين وتعمل على إعادة انتاج مواقفه من الامور الدينية والاجتماعية والاقتصادية عبر اجترار احكام فقهية قيلت في زمان ومكان له محدداته وشروطه وظروفه الموضوعية، دون اعتبار للزمن وتبدل الاحوال، ومن هذه الاحكام والفتاوى مقولة النسخ في القرآن الكريم التي قضت على اهم سمات القرآن الكريم: تعددية الاحكام وفتح فرص وجود بدائل للمواقف وضعها الله رحمة وسعة وفسحة ليأخذ كل زمان ما يوافقه، فكل من يتبنى موقفا ورد في آية على هدى وله حجة ولا يرد عليه بآية أخرى لان الآيات لا تضرب بعضها بعضا بل تكمل بعضها. يستدعي التطور العقلي والمعرفي الذي نعيشه اعادة نظر شاملة فيما وصلنا من علوم الدين، قرآنا وحديثا، واستخراج احكام جديدة تضعنا على ارضية صلبة للتعاطي مع ظروفنا ومع معطيات العالم المعاصر وإلا بقينا في وهدة التخلف وتابعنا مسيرة التآكل والانزلاق نحو التلاشي.

 

.بقلم الكاتب علي العبدالله

كاتب سوري