القُضَاةُ وَوَسَائِلُ الإِعْلَام.. (منشور سابق)../ القاضي أحمد ولد المصطفى

اثنين, 2017-01-02 11:10
القاضي أحمد عبد الله المصطفى

تَنْبِيه: كتبتُ هذا الموضوع، ونشرته على صفحتي هذه مساء يوم 07 إبريل 2015، على الساعة: 21:06، ولا يزال عليها، ولما رجعتُ إليه وجدته ما يزال يعيش اللحظة، ويمثل رأيي الشخصي في مسألته، فأعدتُ نشره كما نشرته أول مرة..

تقتضي ممارسة مهنة القضاء، وما تتطلبه من حياد واستقلالية، وبُعْدٍ عن المؤثرات الخارجة عن ماهية الخصومات، التحفظ والانعزال..
بيد أن التطورات الحاصلة في العالم، وخاصة ما يتعلق منها بثورة وسائط الاتصال التي دخلت كل بيت، بل كل يد، وشبكات التواصل الاجتماعي، جعلت العزلة مستحيلة، ومساحة التحفظ ضئيلة..
ثم إن ولوج الإعلام لكل مكان، واستهدافه بشكل مكثف للأماكن "المحصنة" دونه كالقضاء مثلا، وضغط الرأي العام عليه، ولجوء الأطراف إليه، جعل من عزل القاضي عنه أمرا صعبا، وظالما في بعض الأحايين..
لا شك أن مفهوم واجب التحفظ يكتنفه بعض الغموض، ومع ذلك يحظر على القاضي بشكل محدد إفشاء سر المداولات، أو الإدلاء العلني برأي شخصي في القضايا المعروضة على المحاكم، وبشكل عام يحظر على القاضي كل تصرف من شأنه المساس بمقتضيات الشرف والرزانة والمهنية..
تسمح الفقرة الثانية من المادة 14 من النظام الأساسي للقضاء في موريتانيا للقضاة دون إذن مسبق بالقيام بأعمال علمية وأدبية وفنية، والتطرق في الصحف والجرائد للمواضيع ذات الطابع المهني والفني، وتحظر عليهم ما سوى ذلك..
وتخرج من نطاق مقتضيات النص أعلاه مواقع الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية، الذي يبقى التعاطي معها على إباحته الأصلية..
التعديلات المقترحة على النظام الأساسي، تستحدث شرطا على الترتيبات السابقة، يمنع على القاضي ـ فيما أذكر ـ الإشارة لصفته في المواضيع المذكورة..
وفي ضوء ذلك يمكن القول إنه لجهة القانون حتى الآن يحق للقاضي التعاطي مع وسائل الإعلام المسماة، والظهور فيها..
إلا أني أرى شخصيا أن ذلك يجب أن يكون في الحدود الدنيا، وفي حالات قليلة، وفي إطار المواضيع المهنية والعلمية والثقافية، وبضوابط التحفظ المعتدل..
فلا شك أن الحضور الدائم في الإعلام للقاضي يضر به، وبمقتضيات مهنته التي لا تتماشى فعلا مع أضواء الإعلام..
فلا يحسن بالقضاة أن يصبحوا "نجوما في وسائل الإعلام"، والتعبير لصحفي مغربي معروف، ولا "الإسراف" في الظهور الإعلامي، والتعبير لكاتب مصري..
لاشك أن القضاة الموريتانيين لم تكن لهم نشاطات تذكر في وسائل الإعلام، إذا استثنينا تلك التي يمثل فيها القاضي مرفقه، في إطار تكليف رسمي..
غير أنه في السنوات الأخيرة، ومع ثورة الإعلام في البلد، ودخول دفعات شابة للقضاء بدأ ظهور القضاة في وسائل الإعلام يتزايد، وبدا مرحبا به لدى وسائل الإعلام، وقطاعات من الرأي العام، ولم تضايقه السلطات من أي مستوى من مستوياتها..
لا يثير ظهور القضاة حتى الآن في وسائل الإعلام، ولا في شبكات التواصل أي جدل في بلادنا، لكني أتوقع أن الأمر سيختلف كلما أزداد العدد، وتنوعت الموضوحات المطروقة من طرفهم..
في بعض الدول العربية أثار موضوع ظهور القضاة في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي جدلا كبيرا، وطالبت قطاعات من الرأي العام بمنعه، وطلبت تنظيمات القضاة الخاصة بهم ذلك..
في دولتين عربيتين مركزيتين مُنِعَ القضاة بشكل قاطع من الظهور في وسائل الإعلام مطلقا، وفي إحداهما شمل المنع شبكات التواصل، وفي الأخرى كان المنع بناء على طلب من القضاة..
ولم يتم المنع من خلال تعديل النظام الأساسي للقضاء، بل تم بقرار من المجلس الأعلى للقضاء، في إحداهما أيدته المحكمة الإدارية العليا..
في بعض الدول الأخرى ما زال الجدل قائما، ولم يحسم بعد، ويتشعب مستحدثا مفهوما جديدا يسميه بعض الكتاب والباحثين: "استقلال القاضي عن وسائل الإعلام، وعن الرأي العام" كأحد مقومات استقلالية القضاء..
من طرائف الجدل المذكور أن أحد المتقاضين في إحدى الدول العربية طلب عزل قاض عن نظر قضيته، وإحالتها إلى قاض آخر، بعد رؤيته لتغريدات له على تويتر..
في الدول الغربية الوضع مختلف، فالحرية طاغية، واحترام القضاة يتزاحم مع الخوف من "سطوتهم" القانونية..
أفكر في بعض الأحيان أنه يمكن لبعض المتقاضين أن يواجه القاضي الممارس بمواقف إيجابية عبَّر عنها في تعليق أو إعجاب، مما يقتضيه التفاعل في شبكات التواصل باعتبارها تؤشر لإمكانية الانحياز لخصومهم..
تترافق الدعوات بحجب القضاة عن الظهور في وسائل الإعلام، مع دعوات مماثلة لحجب وسائل الإعلام عن شأن القضاة، وعن العمل القضائي، وتركه جانبا بعدم التعرض له في التغطيات، لما في ذلك من ضرر على المصلحة العامة..
أعتقد أن الأمرين لا ينفصلان، فلا يمكن في هذا الزمن الذي تَقْتُلُ فيه وسائل الإعلام وتُحْيِي، أن يمنع القاضي من التعاطي مع وسائل الإعلام، وتترك الأخيرة تنهشه من غير بينة، أو تَبَيُّن، وفق ما كنت أسميه في نقاشاتي مع الزملاء "محاكمة القاضي غيابيا"..
كما أن المقتضيات العامة لحرية التعبير، تقف بحزم في وجه دعوات منع القضاة من التعبير عن آرائهم في وسائل الإعلام، وكما قلت في منشور سابق "زمن حرية التعبير يشتت حجب التحفظ"..
وكذلك حقهم الطبيعي في ممارسة هواياتهم الأدبية والثقافية والعلمية التي تنفصل عن ممارساتهم المهنية..
النقاش مفتوح../أهـ..

 

القاضي أحمد عبد الله المصطفى