تاريخ عزيز على صفحات كتاب معاوية!

أحد, 2016-12-04 12:08
د. افاه ولد الشيخ ولد مخلوك

إن القاسم المشترك بين المهتمين بأنفسهم في عالم السياسة، قديمها وحديثها، هو مشاغلة الرعية والدهماء بأمور تلامس وجدانهم، لتصعقهم وتجعلهم في سبات عميق؛ ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب.

الشيء نفسه يمكن تتبعه مع خلق الإنسان، ولك أن تتصور أن أول من جزأ المصحف الشريف كان نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر؛ بإشراف من الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق، لتكون حجة له ويدا عند عبد الملك بن مروان ليعزل سليمان عن ولاية العهد، ويتخلص من عمر بن عبد العزيز رحمهم الله جميعا.

 ولعل أبهى صورة من مغالطات الناس في العصر الحديث من حكامهم، وهي لعمري إحدى الكبر في عصر التقزيم المعرفي والأخلاقي؛ الذي نعيشه أهل المنكب البرزخي، حملةُ الكتاب التي ملأت صحرانا مطلع الألفية هذه، بإشراف وزارة الداخلية في حكم المستبد الطائعي، لتكون صفحات الكتاب سجلا للتزوير والظلم والتنكيل والمخدرات، كاتبة في مقلوبها أحداث تاريخ وأخلاقيات أمة وسلوكيات شعب وحكامه، وقديما قيل "إذا كان للباطل جولة فإن للحق صولات وجولات".. (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون)

الأمر نفسه، الحافر بالحافر، يعيده خلف العقلية ولابس البزة؛ في الدعوة إلى إعادة كتابة تاريخ المقاومة الموريتانية في مشاغلة ... وتلاعبا بسلوكيات ومشاعر القوم تسويقا لشعار للحملة وتمجيدا للذات وتكريسا للتسلط وللغرابة التي تعددت عنده بألوان "جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود".

ولئن كان التنبؤ بالنيات أمر شك وريب لا يعلمه إلا فاطر الكون؛ فبربكم لماذا أقدم ولد الطايع على حملة الكتاب؟ ولماذا يعيدها عزيز في التاريخ؟ صحيح أن للكتاب وللمعرفة الدور الأكبر في نمو البلاد والعباد وإصلاح الدارين، وصحيح أن تاريخ كل أمة يجب الحفاظ عليه لأن من لا ماضي له لا حاضر له كما يقال، لكن تشابهت الحملتان في المضمون وفي الظاهر وفي نفس الفترات الزمنية؛ أي إن كلا من الرجلين جعل الشعار في آخر حكمه وحين اشتداد الأزمات عليه، (تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون)..

 إن المتأمل في الإعلام الموريتاني اليوم ليلحظ تسويقا مزعجا لتاريخ المقاومة المجيدة الكريمة الصادقة بشكل مريب مكشوف مكذوب، لأنها مقاومة قليلة المدة الزمنية كثيرة الفائدة وكبيرة المردود؛ عرفها المجتمع بحكاياته التلقينية الشائعة حينها وخلدها في شعره ومجالسه، وحين قيام الدولة الحديثة وقبل سلطة الكلمة وسياط المعرفة الإعلامية سطرت في كتب المدارس "معركة لكويشيش" مثلا وغيرها، وأنشئ قسم للتاريخ في جامعتنا اليتيمة وكتبت عشرات الرسائل عن المقاومة في مراكز البحث ومجالس المعرفة حسب المصادر المتاحة المعقولة والمنقولة "لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون.

" لقد وَلّدت هذه الدعوةُ الرئاسية لإعادة كتابة التاريخ الموريتاني مولداتٍ "كهرونفاقية" بحرية وجوية ومائية من النفاق والتلفيق والتزلف، فأشعلت الندوات والقصص الخيالية وأثارت النعرات القبلية وسمت مسميات بشر لا توجد أصلا وتواريخ مفضوحة في مجتمع قاوم بصدق وتواريخه تقريبية بالسنوات، ناهيك عن الأيام والساعات وعدد ثواني المعركة وسرعة الرياح وحالة الطقس ودرجة الحرارة وتوقعات الأمطار، ولك أن تتصور هذا في مجتمع تواريخه مكتوبة بـ"عام اجراد".. "لعماي الحمر".. "عام كحت لحمير" ..الخ..

 إن الرعية السليمة في تفكيرها، الواعية لمستقبلها، المتعظة بماضيها؛ لا تنجرف وراء هذه الترهات الشكلية العقيمة (ما تذر من شي ء أتت عليه إلا جعلته كالرميم)، وإن المثقف الحق ليس بالببغاء الذي يردد كل دعوة محاباة وطمعا، (وما عند الله خير وأبقى)..

 إنكم معاشر المثقفين وأضرابهم لو كنتم تدرون لجعلتم أصابعكم في آذنكم واستغشيتم ثيابكم غير مطالبين بمأمورية ثالثة ولا رابعة، ولا كاتبين خلافا سياسيا مع فرنسا شهوة ولعبة بيد عزيز البلد؟ تصوروا تاريخ بلد ومقاومة وأمة؛ يقدم غامضه على ناصعه وخفيه على جليه - على الأقل بروايات من كتب وقصص الذاكرة الجمعوية -  "مطار أم التونسي" مثلا، ما هي أم التونسي؟ يقال إنها ليست "لكويشيشي" ولا معركة " بوكادوم برأس الفيل" ...الخ..

 ثم تصور أن يطبلها المطبلون للحاكم لأنها من جهته الجهوية أو أن مقاوميها من محيطه الاجتماعي القبلي؛ وتلك نكات أغلب المنظرين في الإعلام وكتاب التاريخ الجديد في مجالسهم الخاصة... إنها السوءة والشنارة.. فـأي درك سنهوي إليه؟ وأي تاريخ سنكتب؟ وبأي آليات علمية واضحة سنعيد ذلك؟

إن من مناكر الحكام المتشبثين بكراسيهم الفاتحين صناديق تمويلهم المقدمين لأهليهم أن تأثير أفكارهم وشطحاتهم وطمعهم لا تقتصر على مدة تحكمهم ولا من يحكمون، بل ستبقي حتمية في الأرض وساكنتها تغذيها القلوب الطامعة المصفقة لذوي المغرر بهم أمدا بعيدا؛ تعيد نفسها بصيغ وألوان وطرق مختلفة مقاسة بالطول والعرض لكل فترة كما هو الحال مع حملة الكتاب "الذاك يوحل في كتاب" و"إعادة كتابة التاريخ".

فهل سيفهم عزيز الدرس ويترك الناس على ما هم عليه؟ أم هل سيفهم الشعب حملات التضليل هذه؛ ويعرف ماضيه لحاضره؟ ومتى ستبقي كل دعوة من الحاكم تشرع لها أبواب الإعلام والجامعات وحناجر المتثاقفين؟ (وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون) ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 كتبه: د. افاه ولد الشيخ ولد مخلوك