إزالة الالتباس من تصريح ولد الددو عن الأشاعرة والماتريدية

سبت, 2016-10-01 13:16
الشيخ العلامة محمد الحسن ولد الددو

تلقف بعض الإخوة مؤخرا كلمة قالها الشيخ الددو عن الأشاعرة والماتريدية، وفرح بها الذين في أقصى اليمين لأنهم رأوا أن الشيخ أخرج الفرقتين من أهل السنة والجماعة، كما فرح بها الذين في أقصى اليسار لأنهم وجدوا مأخذا على الشيخ لأنه "صاحب فكر إقصائي". وينبغي أن يتروى الطرفان قليلا ويتمهلا، وألا يـبْـنـيا نظريات وسرديات على جملة واحدة قيلت في سياق غامض (غامض على غير متابع للشيخ)، فهم بذلك كمن يهرول فرحا لأنه صاد طائرا وهو لم يظفر بغير ريشة، فللشيخ مواقف متراكمة وآلاف الدقائق على الشبكة، وعلى من يتحرى الصدق والإنصاف أن يكون مطلعا على ذلك كله قبل أن يأتي بتلخيص منحرف فينزع فكرة ويترك أساساتها في بحر متلاطم من الأفكار ويبني على تلك الفكرة بنيانه المتهدم، وأستأذنكم في عرض الأمر في نقاط حتى يزول اللبس:
1- لا يأخذ الشيخ على الأشاعرة فقط، بل مآخذه على أتباع بن عبد الوهاب أكثر، وانتقاده لهم أكثر، وقد هاجموه كثيرا، وآخر ذلك الهجمتان الأخيرتان، إحداهما عام 2015 بعد ثناء الشيخ على جماعة العدل والإحسان المتصوفة، والأخرى منتصف هذا العام بعد محاضرة للشيخ عن التطرف وأخذِه على محمد بن عبد الوهاب بعض آرائه في نواقض الإسلام التي ألف فيها، وقال إن بعض تلك الأفعال ليس بمخرج من الملة، فرماه أتباع المذهب بأنه أشعري مبتدع، مثلما رماه اليوم البعض بأنه سلفي إقصائي. والشيخ مجتهد مطلق، لا تستقيم نسبته لأحد مذاهب السنة العقدية، تماما كما لا تستقيم نسبته لأحد مذاهب السنة الفقهية، ولن يأخذ على مذهب عقدي بعض الاجتهادات إلا ظن بعض أهل المذهب المغاير أنه منهم، أو ظن بعض أتباع المذهب المأخوذ عليه أنه يقصيهم، والحق أن الشيخ يأخذ من كل مذهب ما يرى أنه صحيح ويترك ما لم يواقفه لأنه بلغ مرتبة المجتهد المطلق.
2- لا تكاد تخلو محاضرة للشيخ في شؤون الاعتقاد من قوله إن أهل السنة اختلفوا في العقيدة كما اختلفوا في الفقه، ولهم ثلاثة مذاهب في الاعتقاد، مذهب أهل الحديث ومذهب الأشاعرة ومذهب الماتريدية. ثم يذكر أنهم لم يختلقوا فيما حسمه النص، والحق أن الأشاعرة أقرب إليه لأن منهم أشياخه، وأكثر الرجال الذين في سنده دون البخاري أشاعرة، ومآخذه على المذهب السلفي الجديد (مذهب بن عبد الوهاب) أكثر وأشهر، وهي مآخذ كثيرة في إشكاليات الجهاد والولاء والبراء والتكفير.
3- يرد الشيخ عن الأشعري كثيرا مما لفقه له بعض المتأخرين من أنه نفى الصفات ما عدا سبعا، وذلك غير صحيح فالأشعري أثبت لله ما أثبت الله لنفسه، والصفات التي أتى بهن ثمانٍ ولسن سبعا. غير أن الذي يأخذه الددو على المذهب الأشعري هو بعض اجتهادات متأخري الأشاعرة الذين أتوا بما لم يأت به أبو الحسن، كالذي أتى به الفخر الرازي من صفات المعنويات، وليس الخلاف في ذلك حكرا على الددو وحده، بل إن كثيرا من علماء الأشاعرة أنفسهم لم يوافق الرازي على ذلك. فالخلاف المذهبي ناشئ بين الأشاعرة أنفسهم، تماما كالخلاف الفقهي الذي يحصل بين أهل مذهب فقهي واحد.
4- من أول الأنظام التي يدرسها الشيخ لطلابه، والتي كان يدرسها خاله محمد سالم رحمه الله نظم إضاءة الدجنة للمقري الذي هو من كبار علماء الأشاعرة، وحاصل بعض خلاف محمد سالم لبعض اجتهادات الأشاعرة (وليس كلها ولا أكثرها) وقوفه على بعض الأحاديث الضعيفة التي كان يحسب أنها صحيحة مما رواه الحاكم في معرفة علوم الحديث، وكان يأخذ ببعض تلك الأحاديث والده الشيخ محمد عال، وبعد وفاته حصل محمد سالم على نسخة من ميزان الاعتدال للذهبي، وفي الميزان رجال تُكُلم فيهم من رجال الحاكم، فاستدرك محمد سالم على والده بعضَ مواقفه وفتاويه التي استمدها من أحاديث لم يقف على ضعفها من علوم الحديث للحاكم (مثل مسألة صدقة الشريف للشريف). وشكاوى بعض السلفيين من الشيخين عدود ومحمد الحسن في تدريس أنظام الأشعرية كثيرة، وقد شكوا الددو إلى ابن باز وابن عثيمين، فلم يثنه ذلك عن تدريس تلك الأنظام والاستشهاد ببعضها عند الحاجة، وهي معتمدة الآن في مركز تكوين العلماء الذي يرأسه الشيخ.
5- كلام الشيخ وخاله رحمه الله، من أن على أهل المذهب السلفي أن يراجعوا اجتهاداتهم، أو قولهما ذلك عن أهل المذهب الأشعري أو الماتريدي، إنما هو كلام عام أريد به الخاص، فالشيخان لا يقصدان عامة ما في المذهب ولا يدعيان ذلك، ولا يرُدّان كلما جاء به معتقدو الحنابلة ولا رفاقهما من الأشاعرة والماتريدية، بل يرون أن في مذهب كل فرقة من تلك الفرق ما يؤخذ وما يرد لأنهم غير معصومين، ويرون أن من صميم تلك المذاهب اجتهادات خاطئة يؤجر أصحابها ولا يؤزرون.
6- خلاف الددو إذاً مع الأشاعرة وخلاف خاله قبله، هو خلاف جزئي لا كلي، مثل خلافهما مع مختلِف المذاهب العقدية والفقهية الأخرى، فهما مجتهدان مطلقان يتعذر حصرهما داخل مذهب واحد، وإذا رأى قاصر النظر حديثهما عن مآخذهما على مذهب حسِب أنهما من المذهب الآخر أو حسب أنهما يقصيان مذهبه، فعلى آخذ قول واحد لهما أن يحذر وأن يكون ملما بدروسهما المسجلة، ومطلعا على مكنون الأنظام والمتون التي درساها في أيام التحصيل حتى يكون حكمه عليهما منصفا لا جائرا.
7- كل مذهب عقدي إنما هو جزئيات متفرعة خرجت من كليات متأصلة، وللشيخ نظرية مشهورة في أن كل مذاهب أهل السنة في الاعتقاد (أهل الحديث والأشاعرة والماتريدية) تتوافق في كلياتها المتأصلة، وأن العودة لتلك الكليات أسلم للجميع، ولو أن الصحفي الذي حاور الشيخ أدخل في سؤاله الحنابلة الجدد مع الأشاعرة والماتريدية لأجاب الشيخ بنفس الإجابة وتحدث عن أتباع بن عبد الوهاب وابن تيمية بمثل ما تحدث به عن الأشاعرة والماتريدية فزال الالتباس، فالشيخ يرى أن التئام الجميع تحت مذهب أهل السنة والجماعة أولى من هروب كل طرف تحت اسم آخر (سلفي أو أشعري أو ماتريدي)، ولا تخلو محاضرة له من حضه على تعاضد الجميع منشدا قول عبد الملك: 
انفوا الضغائن بينكم وتواصلوا -- عند الأباعد والحضور الشّهّد
حتى تلين جلودكم وقلوبكم -- لمسود منكم وغير مسودِ 
8- نظرية أبي الحسن الأشعري رحمه الله في تأسيس مذهبه نظرية مشهورة، استمدها من خصومه من المعتزلة فرد عليهم بمذهبهم في إعمال العقل (وأبو الحسن معتزلي سابق)، ولم يختف مذهب المعتزلة إلا بعد جهد كبير من الأشاعرة والماتريدية، فزال حمل ثقيل كان على كواهل الأشاعرة وأهل الحديث من غير الأشاعرة، وإنما خصومة الأشاعرة الكبرى كانت ضد المعتزلة ومنحرفي الفلاسفة، وليس مع غيرهم من أهل الحديث (وأغلب علماء الأشاعرة أهل حديث أصوليون خلافا لما يتوهمه البعض)، فقصد الشيخ الددو أن على الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث (الحنابلة بالخصوص) أن يبذلوا نفس الجهد في إرجاع الناس تحت راية واحدة وهم قادرون على ذلك، ولم يعد ثمة داع لخصامهم فهم ليسوا خصوما، والخصومة وهْمٌ عند بعض المتأخرين من أتباع تلك المذاهب، ورأي الشيخ معروف وموافق للتلخيص الذي خرج به الألباني رحمه الله في بحثه عن أهل السنة والجماعة.
9- إذا كان الشيخ يكتم مذهبه في الاعتقاد (وأحسب أن له مذهبا جامعا في لب مذاهب أهل السنة) فإني أنصفه في كتمانه، لكثرة ما شاع من الجهل وسوء الفهم وقد قال ابن الجوزي إن أقل موجود في البشر هو حسن الفهم، فالددو بذلك ينتهج طريقة الزمخشري رحمه الله حين قال: 
إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به -- وأكتمه كتمانه لي أحزم
فإن حنفيا قلت قالوا بأنني -- أبيح الطلا وهو الشراب المحرم
وإن مالكيا قلت قالوا بأنني -- أبيح لهم لحم الكلاب وهم همُ
وإن شافعيا قلت قالوا بأنني -- أبيح نكاح البنت والبنت تحرمُ
وإن حنبليا قلت قالوا بأنني -- بغيض حلولي كريه مجسِّم
وإن كنت من أهل الحديث وحزبه -- يقولون تيس ليس يدري ويفهمُ
ومذ أفلح الجهال أيقنت أنني -- أنا الميم والأيام أفلح أعلم
والجهلاء في زمن الزمخشري متقدمون بقرون ضوئية على الجهلاء في زماننا.
عشتم طويلا.

من صفحة المدون محمد لغظف ولد أحمد على الفيس بوك