رحلة التيه في شعاب فارس .. / د. معمر محمد سالم

أحد, 2016-09-18 13:23
د. معمر محمد سالم

يستمر محمد ولد أمين في طرق الممل من الدروب بأحلام ومطولات أقرب ـ في الغالب ـ إلى المناحة منها للكتابة أو التوصيف، من ذلك (رحلته الفارسية) الأخيرة التي غلبت عليها "نوستالجيا" عهد قريب أو دارسٍ عاشه بأوربا حين أمضى سنوات في عمل شبه رسمي بإحدى بعثات بلاده الدبلوماسية من جهة ، وادعاء حنين وتعلق بحضارة بلاد فارس من جهة أخرى، وهو الهيام الذي قاده إلى إعلان تعلقه (بالشاهنامه) : ( كتاب الملوك) أو (قرآ ن الفرس) كما سماه ابن الأثير، وهو ملحمة للشاعر الساساني المعروف بالفردوسي كتبها بعبقرية لا تنكر، مقلدا إلياذة "هوميروس" بذكر وتمجيد تأريخ وسجايا ملوك الفرس، سيما المجوس منهم الذين أضفى عليهم أحيانا مواصفات إلهية، وقدم بنزعة شعوبية هالة من التقديس والإجلال لقومه، التحمت فيها الحقيقة التاريخية بالأساطير الميثولوجية والخرافات والميل الدائم للتهكم على غيرهم من الأمم خصوصا العرب، الذين توحي الملحمة وتصرح أنهم ( بخّسوا) الأمة الفارسية وحاولوا "طمس" معالمها بعد الفتح الإسلامي، . بل هاجمت مقاطع منها الإسلام والمسلمين رغم ادعاء كاتبها انتسابه للإسلام!!. 
و( قرآن الفرس هذا) هو الذي أهدى نسخة منه رئيس (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) محمد خاتمي إلى البابا يوحنا بولص الثاني خلال زيارته للفاتيكان سنة 1999، باسمه ممثلا (للثورة الإسلامية ) التي عدها ولد أمين في (وجدانيته ورحلته الفارسية ) : " أكبر ضربة وجهت للشوفينية والقومية المتعصبة خلال القرن المنصرم" 
ومن مقاطع هذه الملحمة التي يمتدح فيها الطوسي مشهد غَدْرِ وقتل الصحابي الجليل، عبدالله بن حذافه السهمي، سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرف كسرى يقول الطوسي في الشاهنامه:
لما جاء ..
ذلك المرسال الخوار، 
الذي كان أعور العين ولم يكن يمتلك فرسا أصيلة ,
بانت شفرة السيف الحادة بين رقبته وقميصه..
ومن مقاطعها في سياق يوحي ويشير إلى معارك ذي قار والقادسية :
(قد بلغ الأمر بالعربي،
من شرب لبن الإبل، وأكل الضباع،
الطموح إلى تاج الكيانين.. ،
فأفٍ لك يا فلك السماء)!!
فهل أن ولد أمين في سفره البعيد مع الشاهنامة، لم ينتبه إلى ما حُشيت به من كُره وشعوبية، عل ذلك يخفف من ترنمه وتواجده، أم أنه مثل الخميني وخاتمي الذي أهدى نسخة منها للبابا باسم ( المسلمين)؟!! و لا يرى في كره العرب شعوبية؟!! ولا في التغني الأسطوري المتعصب بأمجاد الفرس شوفينية؟!! وهل ولد أمين في تقديره الشخصي أن ما يزيد على 6000 بيت من التغني الخرافي بالساسانيين وتبخيس غيرهم هو تجلٍ من تجليات الثورة الإسلامية الصحيحة التي بشر بها الخميني ورفع شعار تصديرها وما زال من خَلَفوه يحملونه ويطبقونه على أراضي جيرانهم العرب وإخوتهم في الدين بضراوة إلى يومنا؟!!. 
لم يذكر الأستاذ محمد ولد أمين مزارات أخرى كثيرة في إيران غير قبر الخميني، أوصلته إليها "رحلته الفارسية"، فهل عرض عليه أصدقاؤه رؤية وزيارة المزار الوهمي ل" أبي لؤلؤة" المجوسي قاتل الخليفة عمر بن الخطاب، الذي كان منذ عهد الشاه والخميني ممولا من مال الدولة وحولوه في العقود الماضية إلى تحفة معمارية كبيرة مرصعة بالجواهر والأحجار الثمينة، ظلت تحظى بالرعاية والعناية التامتين من طرف الرسميين الإيرانيين، أم أن التقية منعتهم من ذلك؟!!.
ولم يكتف الكاتب في هيامه الفارسي الذي تحيَّر فيه واضطرب وذهب كل مذهب، بوصف مشاعره، وإنما زاد عليها بإنكار حقائق التاريخ والواقع، الذي يدمي العين والقلب، فهو يقول " أنا بكل بساطة لا أفهم لماذا يعتبر بعض العرب أن إيران عدو استراتيجي لهم لأنني لم أجد دليلا واحدا على صدقية تلك المزاعم , لم أجده في كتب التاريخ .. ولم ألمحه في خرائط الجغرافيا) !! فسبحان الله فإن كان يعني بالتاريخ نشأة إيران من عهدها الساساني إلى اليوم فلا أعرف ماذا أقول!! لأن عشرات إن لم تكن مئات أمهات كتب التاريخ تتحدث مجمعة بإسهاب أن أول ما بدأ به مؤسس الدولة الساسانية أردشير بن بابك 226 م هو احتلاله ما يليه من العراق وقتله وإبادته ساكنيه، لأن أرضه كانت مجدبة ومزدحمة بأهلها ويريد رفاهية وبسطة عيش على حساب جيرانه ( كما هو حال قادة إيران اليوم) واستمر الأمر حتى وفاة هرمز الثاني 309 م الذي تنفس بعده جيرانه العرب بعض الراحة قبل بلوغ ابنه سابور المكنى ب ّ( ذي الأكتاف) الذي أرسل سجينه الشاعر لقيط إلى قومه قبيلة أياد كثيرا من رسائل التخويف تصف ما أعده هذا الساساني من عدة لإبادتهم :
سلام في الصحيفة من لقيط *** على من في الجزيرة من إياد
أتاكم منهم سبعون ألفا *** يجرون الكتائب كالجراد
على خيل ستأتيكم فهذا *** أوان هلاككم كهلاك عاد
ولما كانت العرب تؤرخ لما يعترض حياتهم من حوادث عامة، فقد أرخت قبيلة إياد بخروجها من العراق على إثر هذه المذبحة التي قام بها سابور، ويصف أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك، تحقيق أبي الفضل بن إبراهيم( ط2 القاهرة 1968، الجزء 2 ص 58:) ـ وقد عُلم من مقال سابق لمحمد ولد مين أن له على الطبري موجدة ـ يقول الطبري بعد أن وصف غزو سابور لجنوب العراق " وتقدم نحو هَجَر وسفك فيهم من الدماء سفكا صورت بسيلانها كسيل المطر حتى كان الهارب من أهلها يرى أنه لا ينجيه منه غار ولا جزيرة في بحر، لشدة بطشه وكذلك فعل بعبْد قيس"
وهجر هي عاصمة منطقة الأحساء في الجزء الشرقي من المملكة العربية السعودية الآن. ويقول أبو منصورعبد الله بن محمد بن اسماعيل النيسابوري في كتابه: غرر أخبار ملوك الفرس وسيرهم، طبعة باريس، بدون تاريخ، ص: 50 : " قالت امرأة من بني أياد لسابور أيها الملك: إن كنت تطلب ثأرا فقد أدركته، وزدت، وإن كنت تعم قبائل العرب، فاعلم أن لهذا قصاصا ولو بعد حين" 
وقد صدقت المرأة، فجاء القصاص الأول مع نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس الميلاديين في أول عمل مشترك تزعمته قبيلتا بكر وشيبان بقيادة الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي حين حرر الحيرة واستمرت من بعده السيطرة عليها في الفترة ما بين 525 حتى 825 م. 
ثم جاء الرد الثاني الحاسم في معركة ذي قار التي قاتدها قبيلة بني شيبان و اختلف المؤرخون في تحديد زمن وقوعها بشكل دقيق، رغم تقاربهم بشكل عام، فذهب الأصمعي إلى أنها عام الهجرة الأول، بينما أشار أبو عبيدة إلى أنها وقعت عام البعثة الأول وذكر ابن حبيب أنها حدثت قبل الهجرة، واعتبرها المسعودي لتمام أربعين من مولده صلى الله عليه وسلم وذكر ابن الفدا أنها وقعت متزامنة مع معركة بدر، وفي كتاب العلل لأحمد بن حنبل، تحقيق طلعت قوج جراح أوغلي، انقره، 1963، الجزء 1 ص: 2 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هذا أول يوم فض الله فيه جنود الفرس بفوارس من ذهل بن شيبان، وبي نصروا" وأورد المؤرخون : الأصمعي، والحميري، وابن كثير أن بني شيبان اتخذوا ـ قبل إسلامهم ـ شعارهم : يا محمد .. يا محمد.. وهذا تأكيد قوله صلى الله عليه وسلم :" وبي نصروا".
وقد عرف يوم ذي قار عند العرب بيوم " قراقر، ويوم الحنو حنو ذي قار، ويوم الجبايات ويوم العجرم، ويوم الغذوان، ويوم البطحاء، بطحاء ذي قار.." وكلهن حول ذي قار كما قال الطبري..
وقال أبو النجم العجلي بعد إسلامه مفتخرا بذي قار:
نحن أبحنا الريف للمختار *** يوم استلبنا راية الحبار
بـسفل البطحاء من ذي قار.
وفيها يقول الشاعر الكبير الأعشى قيس :
وجند كسرى غداة الـحنو صبـحهم منا كتائب تزجي الموت فانصرفوا
لما رأونا كشفـنا عن جماجمـنا ليـعرفوا أننـا بكر فينصرفوا
قالوا: البـقيّة والهندي يحصدهم ولا بقيّة إلا الـسيف، فانكشفوا 
جحاجـح، وبـنو ملـك غطـارفـة من الأعـاجم، في آذانـها النطف 
لما أمالوا إلى النشاب أيديهـم ملنـا ببيـض فـظـل الهام يخـتطف 
وخيل بـكر فما تنـفك تطـحنهـم حتى تولوا، وكاد اليوم ينـتـصف 
لو أن كـل معـد كـان ـ شاركـنـا في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف
ثم معركة ذات السلاسل محرم 12 للهجرة مارس 633 ومعركة المذار من العام نفسه في صفر 17 ابريل ومعركة البويب التي استشهد فيها شقيق المثنى مسعود الشيباني وقال المثنى كلمته المعروفة " يا معشر المسلمين لا يروعنكم مصرع أخي فإن مصارع خياركم هكذا" وفيها يقول الشاعر الأعور العبدي:
هاجت لأعور دار الحي أحزانا *** واستبدلت بعد عبد القيس خفانا
وقد أرانا بعد والشمل مجتمع *** إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
أزمان سار المثنى بالخيول لهم*** فقتل الزحف من فلاس وجيلانا
سما لمهران والجيش الذي معه*** حتى أبادهم مثنى ووحدانا
ويكفي الوقوف على وصية المثنى وهو على فراش الموت لسعد وهو يتهيأ للنصر الحاسم نصر القادسية، لمعرفة أن معركة الفرس كانت معارك مصيرية، وتاريخية، وقد أورد نصها الطبري الجزء 3 ص: 490 " ألا يقاتل عدوه وعدوهم ـ يعني المسلمين ـ من أهل فارس، إذا استجمع أمرهم وملؤهم في عقر دارهم وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مدرة من أرض العجم، فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم وأن تكن الأخرى فاءوا إلى فئة ثم يكونوا أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرة عليهم"
ولم ينته تاريخ الفرس الحافل بالكراهية للعرب والمسلمين عند هذا الحد، وقد زاد من إيقاعه وصول الصفويين للحكم في مستهل القرن السادس عشر ونشر عقيدتهم، التي هي الحاكمة إلى اليوم في إيران وتغذي التوسع وأطماع الامتداد وعقدة الكراهية التاريخية القديمة للعرب التي تأخذ مع كل جيل وعهد أشكالاً للتعبير الوقح عن نفسها إلى درجة يرى ويشم ويسمع من بعيد رشحها، ولا يستطيع كتمه كبار ساستهم وكبار مثقفيهم وكبار قادتهم أو التستر عليها و واستغلال مبدأ "التقية" الذي يؤمنون به عقيدة وسلوكا وسلاحا..
أما القول أنكم لم تلمح في خرائط الجغرافيا ما يدفع للاعتقاد بخطر إيران، فعلك تشتغل في عالم بلا خرائط!! ألا ترى أرض السواد بكنوزها وثروتها، وقد وقعت بين مخابلهم في تحالف شرير تسلموها لهم في نهايته على طبق من ذهب من طرف من كانوا يسمونه" الشيطان الأكبر"؟!! ألا ترى أحمدي نجاد يطير على خرائط مرور أمريكية في الجو والأرض، ليحط في المنطقة الخضراء تحت حراسة المارينز، ألا تسمع التصريحات تلو التصريحات من أكبر المسؤولين الإيرانيين، يعتبرون أن بغداد غدت مدينة من مدنهم؟!!
ألا تسمع تصريحاتهم اتجاه البحرين؟!! ألا تشاهد احتلالهم للجزر والمياه العربية في الخليج الذي لا تمانع أنت من تسميته فارسيا ولا ترى في ذلك استفزازا!! ألا تشاهد ما يقومون به في الشام وفي جنوب الجزيرة العربية؟!! ألا تشاهد في كل لحظة ويوم تناسل الخرائط التي تصنع إيران بالدم العربي والحروب الطائفية العربية وتفتيت النسيج الاجتماعي لكل بلد عربي؟!! أم أن الدوافع التي جعلتك تطلق على الشهيد صدام حسين أكثر مرة وتصر على ذلك صفة " المغامر المشهور" هي أنه استشعر هذا الخطر وعمل على تفاديه، واستشرف حقيقة الخميني وحقيقة مشروعه الطائفي البغيض الذي تعرى اليوم وسقطت كل أوراق التوت التي كان يتستر بها..
. قرأت قبل أيام مرافعتكم عن ولد لمخيطير، وتابعت قبل ذلك ما قمتم به من أدوار إعلامية حين كنتم وزير إعلام ولد عبد العزيز، وقرأت أثناء ذلك ما تبين لي لاحقا أنكم كتبتموه تحت اسم مستعار ( الحسن ولد المختار) وأجد نفسي اليوم حائرا في إصراركم على الكتابة بأسلوب ومنهج، يخرق صاحبه ـ في الغالب ـ قواعد المسلك العلمي ومبادئ العقل الكلية ويدعي في الغالب احترامهما..