جميل منصور يكتب عن الانقلاب في تركيا ( المقال )

ثلاثاء, 2016-07-19 18:57
متظاهرون أتراك يسيطرون على دبابة انقلابيين

الدرس التركي.. عاجل و آجل العبر 

 

مثلت المكالمة الهاتفية الحاسمة والحازمة التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع إحدى القنوات التركية عبر تطبيق الفيس تايم لحظة فارقة في مسار الانقلاب العسكري بعد أن بدا -حتى تلك اللحظة- ناجحا ومسيطرا.

 

كانت رسالة أردوغان واضحة إلى الشعب، إلى الناس: أمام هذه القوة العسكرية وهذه المحاولة الانقلابية لا نملك بعد الله والاعتماد عليه إلا الجماهير لتنزل وتنازل الانقلابيين في الشوارع والميادين..

 

كانت المبادرة في وقتها ومن قائد يعول بعد الله على شعبه، وكان الشعب سريع الاستجابة.. نزل الناس وبدأوا يتزايدون، تحركت الشرطة والأمن العام على نطاق واسع، كانت المخابرات حاسمة في موقفها، وكان رئيس حزب العدالة والتنمية رئيس الوزراء التركي قد دعا بدوره إلى مواجهة الانقلاب معطيا دورا رئيسيا في تلك المواجهة للأمن والشرطة؛ الأمر الذي بدا حينها غريبا وإن تكشفت جديته وصدقيته بعد حين..

 

وعاش الأتراك ومعهم العالم ليلة طويلة.. نجح فيها الانقلاب ثم فشل وانبلجت أضواء الصبح عن ملحمة بطولية قادها مناوئو الانقلاب، وبدا المشهد جديدا على تركيا التي كانت في السابق تقع أسيرة مستسلمة لقرارات الجيش بالانقلاب فيعيدها أصحاب النياشين سنوات إلى الوراء.. هذه المرة كُسرت إرادة الانقلاب الذي يبدو أن المشاركين فيه قطاع واسع من القوات المسلحة التركية، حسب رتب وأعداد وأنواع المعتقلين حتى هذه اللحظة.

هذه المرة سطر الشعب ومعه قيادة متبصرة مبادرة وتسنده شرطة ومخابرات يبدو أن تكوينها الجمهوري وتأهيلها الديمقراطي بلغا شأوا متقدما مشهدا بالغ التأثير، قدم الناس الشهداء، وحرر مختطفون، وحميت مواقع، ومرغت هيبة العساكر الانقلابيين في الشوارع، وبدا الشعب التركي مصرا على حماية مكاسبه صارما في القطع مع المحاولات الانقلابية.

 

يقال إن الفاصل بين البطولة والخيانة في الأعمال الانقلابية هو النجاح أو الفشل، فإذا نجح الانقلابي فهو البطل وربما المغيّر والمصحح! وإذا فشل فهو الخائن والمجرم وجزاؤه القتل والإعدام.

 

يبدو أن مفارقة أو مقابلة أخرى أصبحت سائدة في عالم السياسة؛ فعند انطلاق العملية الانقلابية ـ التي اعتبرت السلطات أن فتح الله غولن وجماعته يقفون وراءهاـ حبس العالم أنفاسه، وكان واضحا أن الكثيرين ينتظرون المؤشرات والأخبار عن النجاح أو الفشل، هل سينجح الانقلاب فيسيطر، أم يواجَه فينهزم.. قال بعضهم إنه يتابع الأمور والتطورات، ودعا البعض رعاياه إلى التزام الحذر، واعتبر البعض التكهن بمآلات الأمر أمرا صعبا كأنه قارئ كف مبتدئ، وفضل البعض الوصف الذي لا يخفي الانبهار فقال إن المحاولة الانقلابية كبيرة ولم ينس البعض قلقه إزاء الأحداث التي تنكشف في أنقرة وإسطنبول، ودعا البعض إلى تجنب الصدامات الدامية.. إنها الازدواجية في أعلى صورها والبراغماتية بأكثر دلالاتها سلبية.

 

ولما ظهر أن الانقلاب لم ينجح بل إن مؤشرات وأخبارا ـ وربما كان عند البعض أكثر مما كان عندنا معاشر المعتمدين على وسائل الإعلام ـ ترجح فشله أو تشير إليه بدأوا يتذكرون الديمقراطية والاستقرار والحكومة المنتخبة.. وبدأ البعض يراجع سكرتيريته ويبحث إمكانية الاتصال بالرئيس أو رئيس الوزراء أو أحد من أهل السلطة للتعبير عن التضامن، وإن ظل أمل البعض بنجاح الانقلاب مهيمنا عليه، وفقا لما ظهر في عباراته (سياسيون) وتغطياته (وسائل إعلام).

 

لقد امتلك الانقلابيون كثيرا من عناصر نجاح الانقلابات العسكرية، امتلكوا قوة عسكرية هائلة في الجيوش البرية وفي القوات الجوية والدرك.. امتلكوا متعاونين في أسلاك الدولة ومؤسساتها.. امتلكوا تفهم إن لم نقل تقبل أو دعم جهات دولية وإقليمية وازنة.. امتلكوا عنصر المفاجأة بنسبة مقدرة.. ولذلك ظن كثيرون عند أول الأخبار أن الانقلاب نجح أو هو آئل إلى النجاح وأن الأمر مسألة وقت، وعندما أخرج الانقلابيون بيانهم في قناة تي. آر. تي الرسمية تعزز هذا الظن أو تأكد.

 

ولكن أمورا أخرى غابت عن الانقلابيين ويبدو أنهم لم يقدروها حق تقديرها بل إننا أنصار تركيا وديمقراطيتها لم نقدرها حق تقديرها:

 

ـ فوعي الشعب الذي تراكم مع التجربة الديمقراطية خصوصا طبعتها الأخيرة تطور وازداد وتعاظم..

ـ وحجم الانجازات والمكاسب بلغ مستوى متقدما أحس به الناس في اقتصادهم وأمنهم ومعاشهم وسمعتهم ورفاههم ومظاهرهم فضلا عن عزتهم ومكانتهم وأصالتهم.. ولذلك ليس من السهل أن يفرطوا في هذا مقابل بدائل جربوها فخربت بيوتهم وأفسدت عليهم.

 

ـ القيادة التي أفرزتها هذه التجربة تملك من وضوح الرؤية وحب الناس إضافة لشجاعة ومبادرة وجرأة يشهد بها البعيد قبل القريب (حينما سئل مراسل الجزيرة هل أردوغان قادم إلى مطار إسطنبول للهروب إلى الخارج قال: إن من يعرف أردوغان لا يقول هذا! إن كان قادما فللمواجهة)، تملك من هذا ما يجعلها مختلفة عن السابقين.. والتقاء هذه العوامل: وعي تزايد، ومكاسبُ تغري بالمحافظة عليها، وقيادة حاضرة قوية كان كفيلا بتعديل الكفة، أسنده وعززه جهاز أمني مميز كان في الموعد وعلى نحو أذهل الكثيرين.

 

عاملٌ آخر كان مهما ومؤثرا ودالا مع أنه مظهر من مظاهر الوعي وتطوره، ذلك هو موقف المعارضة التركية التي بدت متعالية على الخصومة الشديدة مع أردوغان وحزبه وعبرت ـمن الحركة القومية إلى حزب الشعب الجمهوري ثم لاحقا حزب الشعوب الديمقراطي ـ عن رفضها للانقلاب واصطفافها مع مقاوميه، والأهم أنها كلا أو بعضا فعلت ذلك ولما يفشل الانقلاب بعد.

لقد جاء الدرس التركي هنا مفعما بالعبر عاجلها وآجلها.. فلم تعد القوة العسكرية الوازنة والجو الإقليمي والدولي المساعد كافيين لإنجاح الانقلابات والسيطرة على الحكم، أصبح للديمقراطية بريقها الأخاذ وأصبح للإنجاز جاذبية لا تقاوم.. وأصبحت الشعوب في جاهزية ملحوظة للدفاع عن تلك الديمقراطية وهذه المكاسب والإنجازات، وكان الإعلام ـونوعه الحديث ـ مركب كل ذلك، وذلك أمر مهم وبالغ العبرة، فمكالمة على تطبيق "الفيس تايم" تهزم جيشا من الجنرالات والمعدات والمتآمرين أو تفتح الباب لهزيمته..

 

صحيح؛ لقد كانت مبادرة الرئيس أردوغان في محلها وأبان عن معدن نفيس وشجاعة نادرة وشخصية قيادية فريدة.. وصحيح أن الشرطة التركية والمخابرات التركية أعطوا درسا بالغا يصحح الصورة عن الأولى ويزرع حبا للثانية طالما استعصى على قلوب السياسيين والتواقين للحرية والديمقراطية.. وصحيح أن إعلاميين رفضوا وفنانين رفضوا ومغنين ومغنيات تشبثوا بديمقراطيتهم ورفضهم حكم العسكر.. صحيح كل هذا، ولكن صحيح أيضا أن شعب تركيا هو الذي بدأ وهو الذي قاوم وهو الذي حسم.

 

لقد تجلت في ملحمة إفشال الانقلاب في تركيا ـ والخلاصة موضع اتفاق بين الرئيس أردوغان ورئيس وزرائه الفذ بن علي يلدريم وقائد الجيش الأول الجنرال أوميت دوندارـ قوة الشعب التركي في تعديل ميزان قوة كان واضحا أن الانقلابيين يملكونه عسكريا ولوجستيا.

 

لقد استطاعت شعوب عديدة في التاريخ وعبر العالم أن تسقط أنظمة عتيقة واستطاعت هزيمة آلة القمع عند هذه الأنظمة وأنجزت ثورات معروفة منها القديم ومنها الحديث، ولكن الدرس التركي أضاف شيئا جديدا متعلق بكيفية مواجهة شعب لانقلاب مكتمل الأركان.

 

تعود العالم أن يسمع مشاكل في هذا البلد وضجرا من ساكنته وانتقادا لحكامه فيأتي الجيش موظفا حالا وواعدا بمآل، فيرحب الناس ويصعدون على دباباته ابتهاجا وتأييدا.. أما في الحالة التركية فالأمر مختلف؛ ففي وقت متأخر من الليل ولمواجهة جيش استعمل الدبابات والمروحيات وقاذفات أف 16 فضلا عن الآليات والجنود ينزل شعب أعزل إلا من إيمانه وحرصه على مكاسبه وحبه لقيادته فيهزم كل هؤلاء.. والله إنها للحظة فارقة في التاريخ التركي بل في تاريخ المنطقة كلها، وقد صدق من قال: إن شعوبا كثيرة في مناطق عديدة رفعت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" لكن في تركيا كان الشعار مختلفا "الشعب يريد إبقاء النظام"، وإن كان لي من اقتراح على الكاتبة التركية المشهورة إليف شفق صاحبة رواية "قواعد العشق الأربعون" لطلبتها أن تكتب "القواعد الأربعون في كسر الانقلابات"، وإن رغبت لدي الاستعداد في الترتيب والتبويب لتلك القواعد الأربعين.

 

على مستوى آخر، ورغم أنه ليس من أهداف هذا المقال أن أقارن بين انقلاب مصر المشؤوم وانقلاب تركيا المهزوم ولكن شيئا من ذلك قد يخدم استخلاصي العبر عاجلها وآجلها، الفرق واضح بين شرطة مصر وشرطة تركيا من حيث المدنية والروح الجمهورية، الفرق واضح بين إعلام مصر وإعلام تركيا من حيث التعلق بالحرية وقيمها، الفرق واضح بين معارضة مصر ومعارضة تركيا من حيث الإيمان بالديمقراطية وفلسفة التعاطي مع الآخر المختلف، والفرق شاسع بين فناني مصر وفناني تركيا وممثلي مصر وممثلي تركيا ومغنيات مصر ومغنيات تركيا في فهم رسالة الفن، وأن الفن والحرية صنوان وأن لا عدو أشد على الفن والإبداع والجمال من الاستبداد وحكم العسكر، والفرق موجود بين إخوان مصر والعدالة والتنمية في تركيا من حيث وضوح الرؤية وروح المبادرة وتقدير الحال والمآل، الفرق واضح بين الثقافة السياسية السائدة في مصر وهذه القائمة في تركيا.

لقد بذل الشعب المصري الكثير وأبان عن معدن أصيل في مقاومة الانقلاب وقدم من الشهداء والجرحى والتضحيات ما يليق بمصر ومكانتها، ولكن العوامل التي ساعدت شعب تركيا على كسر انقلابه المهزوم افتقدها أو افتقد أغلبها شعب مصر في مواجهة انقلابه المشؤوم.

 

للشعوب تاريخ مع عساكرها ولشعوب بعينها تاريخ مع دكتاتورياتها، ويسجل السفر السياسي لمسارات الشعوب ملاحم خاضتها هذه الشعوب للتخلص من أولئك العساكر أو من هذه الدكتاتوريات، والجميع يعرف أن إسبانيا كانت من آخر الدول الغربية المهمة تخلصا من ثقل الاستبداد والدكتاتورية، وفي كل أمة يتذكر الكتاب والباحثون أسماء شخصيات أو مجموعات كان لها فضل المفاصلة والقطيعة في تاريخ شعبها مع حكم الدكتاتوريات وتلك العسكرية منها بالذات.

 

وهنا سيسجل التاريخ أن شعب تركيا حسم تاريخه مع الانقلابات والعودة إلى الاستبداد مع رجل اسمه رجب طيب أردوغان ومع نخبة سياسية يتقدمها حزب العدالة والتنمية وتلك محمدة تاريخية عظيمة.

 

من أهم عبر الذي حدث في تركيا أن الشعوب تستطيع الحسم خصوصا إذا أحست بقيمة ما ومن تدافع عنه، وأن القوة العسكرية أمام صمود الناس وحسم القيادة سريعة التراجع حتى وإن أثخنت وقتلت، وأن عناصر القوة وميزانها تعددت وتنوعت ولم يعد أحد يملك مفاتيحها الوحيدة، ويبدو أن من أكثرها أثرا من لا يملك أحد مفاتيحه.

 

لقد صدق الأخ د. محمد الجوادي في وصف ملحمة تركيا حين قال: "شعب عظيم، معارضة عظيمة، حكومة عظيمة، مخابرات عظيمة، شرطة عظيمة، قوات خاصة عظيمة، إعلام عظيم، قائد عظيم = نتيجة عظيمة".

 

عنوان الذي حدث في تركيا هو العظمة.

العظمة لله والحمد والكبرياء له.

للقراءة من المصدر اضغط هنا