"الحراطين والبيظان" في سياق وطني / مختار ولد نافع

سبت, 2016-05-14 10:29

قامت العلاقة بين شريحتي الحراطين والبيظان -أوما يمكن أن نطلق عليه "الناطقين بالحسانية"-  في ماضي ما قبل الدولة الوطنية على علائق بعضها في غاية الألم وبعضها في غاية الحميمية، ولكن قطب رحى هذه العلائق كان هو العبودية كأدنى درجة في السلم الاجتماعي لمجتمع طبقي، ومع نشوء الدولة الوطنية بدا واضحا أن تلك العلاقات القديمة لم تعد مقبولة؛ وإن كان ذلك انطلق بوتيرة في غاية الرتابة بسبب الضعف الذاتي للشريحة المستعبدة، وعدم استعداد الطبقة المتسيدة لتصحيح الخلل من تلقاء نفسها.

 

        ومع فوات فرصة التصحيح الذاتي من طرف الأسياد كان لا بد أن يهُبَّ أبناء الأرقاء -الذين حصلوا على مستوى من الوعي- للثورة على هذه العلاقة القائمة على العبودية والطبقية، وهو ما أثمر خلال عقود  عن اكتمال وقوف شريحة الحراطين على ساقي الاعتداد بالنفس والطموح للمكانة؛ مع قدر كبير من الحفاظ على الروابط غير الاستعلائية مع طبقة الأسياد السابقين، وهو ما يوفر فرصة لإعادة تلاحم بين الشريحتين يستثمر فيه المشترك بينهما في تعزيز اللحمة الوطنية، وفي ما يلي شرح لأبزر دواعي إعادة التأسيس هذه، والأسس التي ينبغي أن تقوم عليها.

 

 

 

لا فصل ولا استلحاق

ثمت العديد من الأسباب لإعادة تعريف هذه العلاقة يمكن إيجازها في صعوبة استمرار اتصالها السابق وصعوبة انفصالها على نحو لاحق، وبشيء من التفصيل يمكن تلمس ذلك على النحو التالي:

  • أن ظروف ما بعد التحرر الذي خاضه الحراطين وقطعوا فيه أشواطا كبرى أهمها الوعي بالذات جعلت من غير المعقول أن تستمر العلاقة على نمطها السابق لأنه حتى الطابع الحميمي في تلك العلاقة قائم هو أيضا على الاستتباع!

 

  • أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي نسجت العلاقة السابقة -وهي ظروف البداوة التي تقلل الفارق بين السيد والمسود كما بينا في معالجة سابقة- حلت محلها ظروف المدينة الاجتماعية والاقتصادية القائمة على تفكيك الروابط الاجتماعية و تعزيز الفوارق الطبقية وخلق الظروف النفسية والاجتماعية المؤدية إلى الإحساس بالتهميش ومن ثم تشظي الهويات.

 

  • وفي المقابل فإن للاتصال أسبابا من أكبرها حجم التشابك القائم –فضلا عن اللغة- على وشائج الماضي و وشائج في الحاضر صنعتها  القابلية الذاتية المعقدة عند المجتمع البيظاني للتكيف  مع التغيرات وروح الانفتاح والتسامح عنده.

هذه الأسباب  مجتمعة هي التي تفسر ما نراه من جدل في علاقة المكونين يُصِرُّ  طرف منه على انفصام العلاقة بطريقة نَكِدَةٍ، ويصر طرف آخر على دمجها بطريقة استلحاقية (معروف طبعا من هو الجانب الأقوى فيها)

 

 

على تقوى من الله ووطنية

 

لذلك لا بد من فتح نقاش جديد بصورة أكثر جدية وأبعد عن الطرح السياسي لنقاش هذه العلاقة، وإذا كان نقاش كهذا يتطلب الكثير من الرصانة والخبرة فإن بداياتها قد تكون مجرد إشارات من هنا وهناك؛ تقدح زناد البدء، ولعل النقاط التالية تعين على ذلك:

 

أولا: أن تتأسس هذه العلاقة على الحرية الواعية: وبشكل أكثر تحديدا أن يتاح للمكونة التي تضررت من علاقة الادماج في الحاضر و الاستلحاق  في السابق -وهي الحراطين- أن تقرر بكامل إرادتها ومن منطق التوازن والحرية الكاملة: نوعَ علاقتها بالمكونة الثانية على نحو ما ترى أنه الأفضل؛ أولا لتحقيق ذاتها، ثم ثانيا للسلم الأهلي والعلاقات الأخوية، فبدون حرية كهذه لا معنى أبدا لمراجعة هذه العلاقة ولا الحديث عن ضرورتها لأن معنى غياب الحرية حضور الإكراه!

 

ثانيا: أن تقوم هذه العلاقة على رفض الثنائية المتكلسة وهي أن المكونتين مكونة واحدة لا تتجزأ ولا تختلف في شيء، او أنهما مكونتين منفصلتين لا توجد بينهما مشتركات شديدة القوة،  لأن كلا النظريتين واضحة البطلان، وبحفر إعادة التعريف المطلوبة عن نقاط المشترك لتعزيزها، وعن نقاط التميز لتكاملها، ستنشأ العلاقة الجديدة التي تحترم حق المجموع في تماثله، وحق المكونات في شخصيتها المستقلة.

 

ثالثا: أن تنطلق هذه المراجعة من أن علاقة الوحدة القائمة بين المكونتين –أو دعونا ننظر لهما الآن على أنهما مكونة واحدة- لا بد لهما من اسم غير اسم "البيظان" لكثير من الأسباب منها أن هذا الاسم يحيل –على الأقل- إلى نمطي العلاقة السابقين: وهما الإدماج في ما بعد الدولة الوطنية، والاستلحاق في زمن العبودية، وأي كلام آخر عما يسمى ثقافة البيظان و"اتبيظين" الأعم من شريحة البيظان؛ ما هو في حقيقته إلا محاولة خداع انخدع بها أصحابها!! تحاول أن تفرق بين جوانب الاستعلاء المادية وجوانبه الثقافية ولعل خير دليل على ذلك تذَكُّرُ أن "اتبيظين" -الذي يراد له أن يكون ثقافة عامة ومجردة ومحملة بكل القيم الإيجابية- هو مقابل –في منشأه- لمصطلحات أخرى مثل "اتحرطين" و"استعبيد" محملة للغاية بالشحن السلبية، وإذا كان هناك من تناسى تلك المصطلحات، وذلك الأصل لمصطلح "اتبظين" فإن كثرا آخرون لم يتناسوه!

 

ولعل من الأسماء المقترحة للعلاقة الوحدية المرجوة بين المكونيتن عند إعادة التأسيس هذه: مصطلح "الناطقين بالحسانية" الذي يقترحه أحد المهتمين بالأمر، وهو بالتأكيد أكثر دقة و تعبيرا عن الأرضية الجديدة للوحدة القائمة على الندية من مصطلح البيظان حتى بعد استبعاد منشأه التمييزي.

 

رابعا: أن يكون الهدف الأسمى لإعادة التعريف هذه هو اللحمة والتوحد  والبناء على جوانب الحميمية في العلاقة السابقة فهو أمر يطلبه الدين وتمليه الرحم الإنسانية والدواعي الوطنية، ثم إنه لا معنى لإعادة التعريف هذه إذا كانت مجرد ترف ثقافي انتربولوجي لا يهمه إلا تحديد نوع العلاقة بين مجموعتين بشريتين، فما نحن بصدده هو تعزيز المشترك الخاص بين مكونيتن وطنيتين سبيلا إلى تعزيز المشترك على الصعيد الوطني وهو ما يقتضي الإحالة إلى النقطة التالية:

 

خامسا: أن لا يكون المراد بإقامة هذه العلاقة على اللحمة بين هاتين المكونتين: التَّقَوِّي على المكونة الوطنية الثالثة وهي الإخوة "لكور" أو الزنوج، وبالمقابل أن لا تكون دعوة تميز الحراطين عن البيظان من أجل تقوية الزنوج على مكونة البيظان، و يمكننا أن نقول بتحفظ : وأن لا يكون الهدف من التمايز هو الاستفراد بنصيب من المحاصصة، وما يجعلنا نتحفظ على هذا القول هو الإحساس بنوع من المشروعية لهذا الغرض عندما تنسد أمام مكونة معينة طرق الحصول على حقها من خلال الانسجام الذائب في المجموع الوطني.

 

 

و كخلاصة فإن هذا المكون الوطني الناطق بالحسانية يوجد الآن في لحظة تفاعل اجتماعي منفحتة بحكم السنن البشرية على احتمالات مختلفة، والذي يرجح أحد هذه الاحتمالات على الآخر هو سلوك هذا المكون نفسه و مدى وعيه لتأثير هذا السلوك على علاقاته المستقبلية.