ترويض البيظان صعب.. وخسرنا معركة أم التونسي بسبب ذعر "گوميات"/ الحلقة 7 من "تجربة ضابط فرنسي خدم في موريتانيا- 1933-1935

أربعاء, 16/10/2019 - 09:35

ترجمة : الكاتبة مخفية الاسم / Eddehma rim إذا كان الرماة السود استقبلوني بحذر فإن كوميات البظان استقبلوني بلا مبالاة، لست في نظرهم أكثر من نصراني جديد (Nazaréen)، ويبدو أنني لن ألفت انتباههم، لكن عليَّ أن أتعلم منهم التعامل مع الإبل، الركوب والرعي، والمرعى، لقد أوصى علي الضابط "ديفال" كَوميا يدعى "العيد".. "العيد" على خلاف بقية البظان رجل أسمر، شعره أجعد وملامحه ثقيلة.. لفت انتباه الفرنسيين خلال معركة "لكَديم"، وهو مكان قرب "وادان" بآدرار، حيث وقع فصيل من فرقة البدو تحت ضربات الوغد الشهير أحمد ولد حمادي، وكان ذلك في ربيع 1924م. وعلى إثرها أحيط "العيد" بهالة كبيرة من الهيبة وكرمته فرنسا بمنحه وسام فارس من فيلق الشرف.  

في موريتانيا لا يتجاوز فصل الربيع عدة أسابيع، يسميها البظان "تفسكي"، وهي الفترة الرابطة بين منتصف ابريل ومنتصف مايو، تتصاعد فيها الحرارة حتى تسحق البشر وتؤذي البهائم والنبات بالجفاف، جو لا يطيق العيش فيه إلا "ارگيبات" و"أولاد ادليم".. 

في نهاية الشتاء، تقترب التجمعات عادة من نقاط الماء.. في ربيع 1933م  يستعد الجيش هو الآخر للحركة.. يستعد للهجوم الأخير.. تصدر الأوامر لفرقة البدو بكدية الجل بسد المنفذ الشمالي-الغربي للكدية على بعد كلومترات من بئر "افديرك" التي يحتكرها الجيش لبناء قلعة "كَورو"، أما "اعكَل أم اظفيرات" يحتكرها "المهاريست"..

 شعرتُ بالفخر اتجاه بلادي التي توغلت حتى هذا العدم المكاني لتبعث فيه الحياة.

في ظل هذا الوضع سيفتح "لارگيبات" الذين وقّعوا معاهدة سلام مجال الانتجاع في المراعي الموريتانية، لكنهم ينتظرون حتى اللحظة الأخيرة من الصبر على الجفاف للنزول والاقتراب من "آدرار" حيث نحن.

التقدم نحو آدرار سيفرض عليهم الاحتكاك بنا، وسيشعرهم حتما بعدم الارتياح حين يضطرون يوما إلى توفير شاي الضيافة كبادرة ولاء للمعاهد النصراني، الذي يقود كتيبة من المحاربين البظان مَن يصفونهم بالخونة، وهم في نظرهم أرخص من العبيد الرماة الذين يسحبهم الجيش وراءه في كل مكان... سيصبح "ارگيبات" كذلك ملزمين بنحر حوار للفرنسين حرق الله آباءهم وآباء آبائهم في الجحيم (يحرگ بياتهم وبيات ذوك  في السَّعير)،... إضافة للإهانة التي عليهم إخفاءها حين يُجبرون من القائد الاستعماري على تسجيل أفراد عائلاتهم في السّجل الفرنسي.. أما الكارثة الكبرى فستكون يوم  يلزمهم بإحصاء إبلهم، و الفاجعة الأشد حين يطالبهم بدفع الضرائب مقابل الرعي.

لم يدفع "ارگيبات" غرامة لأحد، لا لأمير "آدرار" ولا لقائد "واد نون"... وقَّع قائد "ارگيبات" في "سينلوي" اتفاق السلام النهائي، اتفاقا يمسح شوائب الماضي، ويدفع بموجبه الخاضع الجديد للجيش الفرنسي ثمانية مدافع، وثلاثين مطية .. سيلتزم أصدقاء السلام البعيد بالتصرف من الآن كمواطنين صالحين، بالإخبار عن تنقلاتهم، بدفع مقابل حق الرعي، ودفع الضرائب المتعلقة بالتجارة، وحتى خضوعهم للإحصاء، لقد تعهّدوا بالمساهمة في حماية الأراضي الموريتانية، وأن يمنعوا قدر الإمكان غارات بقايا المنشقين من أبناء عمومتهم من وادي الذهب، وأن يسهلوا عمل قوات الشرطة الفرنسية التي سمحوا لها بزيارة مخيماتهم.

هذا هو الاتفاق، أما الواقع فشيء آخر.. ما يفعلونه حقيقة هو بعث طلائع استطلاع لتحديد أماكن وجود "المهاريست" وتحاشيهم. إنها حرب التخابر واللعب على الذقون.

انتدبتُ لمهمة استطلاعية في الشمال مع حفنة من "كَوميات"، كانت وجهة مهمتي الأولى هي تجمعات "اركَيبات".. لم نصطحب الرماة السود وهذا يعني أننا لا نحمل أسلحة أتوماتيكية، عندما رأينا لأول جمعا من "اركيبات" خالطتني هواجس خشية من وجودي مع "كوميات" بمفردي، تقدم نحونا فريق صغير مترجلا، لا تبدو عليه الرغبة في القتال، لكن "البظان" لا يؤتمنون.

 في تشخيص القيادة المدنية... أعداؤنا "البظان" مقاتلون من نوع خاص، لا يقاتلون مجتمعين، بل أشتاتا، كل اثنين على ربوة، يطلقون النار من كل الاتجاهات، أما "كَوميات" فلا يصلحون دعما قتاليا فعند الطلقة الأولى يفرون، لا خوفا، لكن ليظفروا بحرية المناورة، يبحثون عن قتال في جبهة معاكسة.

ومهما كان فهم لا ينصاعون إلا لإرادتهم... ترويض البظان يصطدم بالإخفاق التام دوما، قيادتهم صعبة، لا يمكن تقييدهم في وضع هجومي، ولا يمكن استخدامهم في قتال متقارب.

تتركز طريقة "كَوميات" في القتال، على الالتفاف حول العدو ليطعنوه من الخلف، لا يحتاجون التوجيه.. إنهم مقاتلون حقيقيون، غير أن خسارة معركة أم التونسي تعود لهروب "كَوميات" ذعرا من ساحة القتال، ذلك ما أدى للكارثة، بالإضافة إلى محدودية عدد الرماة، فالرماة هم الدرع الحقيقي لفرقة البدو.. فالعدو من البظان في كل مكان وجاهز.

لقد كان موت "ماك ماهون" ناتجا عن تقصير من النقيب في ضبط الحراسة، حيث أهمل وجود طلائع الاستطلاع والأجنحة.. لن ننسى أن وضعه المهزوم قاده إلى محاولة الانتحار حين وجد نفسه وحيدا عاجزا.. وقد حال بينه "كَوميات" الناجون مع تنفيذ رغبته، والدليل البرقية التي بعث بها إلى قائد قوات موريتانيا، يقول فيها: « يؤلمني أن أطلعكم على أني الأوربي الوحيد المتبقي على قيد الحياة»

- يتواصل بإذن الله -

تصفح أيضا...