مدن سعيدة... وأخرى منكسرة / مقال

أربعاء, 02/10/2019 - 14:06

لا أحب المدن المنكسرة، ولا تلك المتباهية. فهما تنطويان على ثقل يبدد خفة السفر ويطفئ بهجته.

دمشق، مثلاً، كانت فردوساً جميلاً بأناقة أرواح سكانها، بطعامها، بعمارتها القديمة، لكن رائحة الخوف تثقل هواء ذلك الفردوس. كان عليك أن تخفض صوتك إذا أبديت ملاحظة بسيطة، وربما تجد نفسك في محل ريبة دون أن تقول شيئا، لمجرد أنك صحافي. وكان من الممكن أن يداهمك الحزن، لا بسبب أذى يمسك شخصياً، بل لرؤية العدوان يقع على آخرين ليس بوسعك أن تمد لهم يد العون.

للأسف، تبدد الفردوس وبقي الخوف. انتفض الناس ضده؛ ففقدت المدينة ما يحبونها لأجل، بينما تضاعف الخوف حتى صار خيمة سميكة تُغلِّف ما تبقى من المدينة. وربما سيجعلك هذا الألم تختنق بالبكاء علناً في مدينة سعيدة، عندما تقاطعك سيدة «تبعثون إلينا بمهاجرين يبددون اطمئناننا ويأخذون وظائفنا» وتضطر لذكر فراديسنا المفقودة، وتغص بكلمة دمشق عندما تنطقها لتقول للسيدة: «بلادنا أيضاً جميلة، وأنتم ساهمتم في تدميرها».

روما، مدينة حرة، تضغط على سكانها بطريقة أخرى: بالبذخ! جمالها متفاخر. فخامة العمارة، كرنفال الألوان في الملابس والورود والمطعم الغني، تجعل زائرها مبهوتاً محسوراً مثل كافر أرى المعجزة بعد أوان الاستغفار.

لم أكن أول من اكتشف أن روما تجبر زائرها على السير مرفوع الرأس؛ لكن هذه الوضعية لا تعني تفاخر الزائر وغروره، بل على العكس. المدينة تجبره على ذلك الانتباه ليتأمل جمالها الذي ينثر بهجة سريعة الزوال ويُخلِّفُ ندبة في القلب.

لو كان لي أن أختار موطناً لما يتبقى من حياتي فهو فيرونا. في أي بيت على بعد من كليشيه فيللا جوليت. جمال فيرونا متواضع وقريب من القلب، وطعامها مصنوع بحب، والقمر قريب جداً، يمكن أن تلمسه من مكانك في الشرفة.

أفترض أن دمشق وروما ليستا المثالين الوحيدين اللذين يرهبان زائرهما بصنعة القوة أو صنعة الجمال، ولا أظن أنني المسافر الوحيد الذي أحسهما على هذا النحو؛ لأن مبدأ القوة يسري على علاقة الإنسان بالمكان الذي يزوره.

من أنت؟ من أين جئت؟ وأين تقف؟ أسئلة تحدد موازين القوة بينك وبين وجهات السفر.

في مدن الشمال الواثقة من نفسها يبدو الغرباء الجنوبيون أكثر هشاشة ويرون أنهم غير جديرين بها، والعكس بالعكس؛ فالصلافة الاستعراضية أبرز سمات الزائرين الشماليين الذين يتصرف الكثير منهم وكأنهم مُلاَّك المدن الجنوبية المنكسرة.

أفكر الآن بثلاث رحلات كبرى: رحلة رفاعة رافع الطهطاوي، مؤذن أول بعثة تعليمية إلى باريس الذي كتب «تخليص الإبريز في تلخيص باريس» ورحلة جوستاف فلوبير إلى مصر والشرق ورحلة نيكوس كازانتزاكيس إلى مصر.

رأى الطهطاوي في باريس وبشرها قدوة، نقل متعجباً عادات المائدة، بل ومن النظافة الشخصية، ومن عادة النوم «على شيء مرتفع، نحو سرير».

كان أمامه في باريس التي سافر إليها عام 1826 مشردون ليس بوسعهم أن يجلسوا إلى مائدة، أو يناموا على سرير. يسرقون طعامهم من الأسواق أو يلتمسون الفضلات في القمامة. وكان بها أشكال من الانحراف تأباها القاهرة، ولكنه كان حيياً عند وصف ما لم يُعجبه، أو في إبداء ملحوظة لا تناسب سلوكاً معيناً مع تقاليد الإسلام.

أدوات المائدة وتقاليد الطعام، التي أعجبته عرفها المصري واليمني والعراقي قبل آلاف السنوات من رحلته، وكانت موجودة في بيوت المصريين الموسرين في زمنه وقبل زمنه.

استناداً إلى الوثائق المختلفة وعقود العقارات وكتب الأدب رسمت نيللي حنا صورة حياة الطبقة الوسطى المصرية في القرون الـ16 و17 و18 وقد كانت طبقة واسعة تضم نحو ثلث سكان المجتمعات الحضرية، من كبار التجار والعسكريين والعلماء ورجال التعليم. لكن الطهطاوي لم يكن من تلك الطبقة عندما سافر لكي يعرف كيف تعيش، ولم يذهب مسلحاً بتاريخ وثقافة مصر الفرعونية وعاداتها، رغم ما يبدو في كتابه من اطلاعه على تاريخ علوم الدولة الإسلامية.

فلوبير، جاء إلى القاهرة بعد ثلاثة وعشرين عاما من ذهاب الطهطاوي إلى باريس، جاء بمنطلقات غير التي ذهب بها الطهطاوي. جاءنا غازياً مغامراً، يتسقط الغرابة، ويتصيد أخبار بائعات الهوى والمشردين والشواذ ويضيف على نوادرهم من خياله، دونما استعداد لتفهم المكان في لحظة من تاريخه.

نيكوس كازانتزاكيس جاء إلى القاهرة عام 1929 وبخلاف الاثنين فقد انتقل من بلد إلى آخر مكافئ له. لا اليونان دولة استعمارية ولا مصر، ولهما ماض عريق وحاضر يأمل بالنهوض.

كان فلاسفة أثينا يُنظِّرون للطبيعة وأساليب الحكم وما وراء الطبيعة عندما لم تكن فرنسا شيئا، كما أنه يدرك تماماً أن حضارة بلاده كانت حلقة تالية للحضارة المصرية، لذلك فقد رأى في القاهرة نداً. ومن الواضح أنه جاء متسلحاً بالتاريخ الفرعوني ونصوصه الأدبية والدينية، مكلفاً من صحيفة، ولم يكن لينتظر حتى يتهجى المكان بعشوائية بعد وصوله.

رأى الواقع على حاله، وبحث عن السبب الثقافي والاجتماعي الكامن في الظواهر السلبية؛ فهو، على سبيل المثال، يسوق ملاحظة عن عدم توق المصريين للحرية، ويعللها بأنهم مشغولون بمحاولة الفوز بالحياة الأخرى، ومن ثم يريدون العبور إليها بجسد سليم لم يتعرض للأذى في ثورات احتجاج.

وثمَّن كازانتزاكيس كفاح المصري لصنع الحياة في شريط ضيق تتربص به الصحراء كنمر شرس واثق من النصر. وأخذ يستشهد في رحلته بشعر أحمد شوقي، ويلتقي بالناس ويستمع إليهم؛ فالمصريون بالنسبة له ليسوا لاعبين في سيرك ولا كائنات للفُرجة.

بعد أن قام برحلته إلى الماضي زار فيها الآثار من الأهرام حتى معابد ومقابر الأقصر، يكتب: «لقد عدت إلى القاهرة، القلب النابض بالحيوية في مصر الحديثة، وكنت أنطلق من الصباح إلى المساء لأرى رجال المال ورجال السياسة، ورجال الصحافة المثقفين. إنهم رجال متحمسون، ماكرون، وطنيون وماهرون في التحايل، وقد حاولت أن أطلع على الأمور بقدر ما أستطيع. ما هي الدوافع التي يتذرعون بها لإعادة انبعاث مصر الحديثة؟».

من المؤكد أن الاختلافات الشخصية بين المسافرين من حيث تكوينهم النفسي والثقافي موجودة، لكن ميزان القوة بين الزائر والمكان موجود كذلك.

 

المصدر : صحيفة الشرق الأوسط

تصفح أيضا...