أيهما يشكل الذائقة الفنية... النص أم المتلقي؟

ثلاثاء, 01/10/2019 - 13:23

يصنع الأدب حالة من الجدل والإمتاع المستمر، سواء بين النص وكاتبه، أو بينه وبين المتلقي، مروراً بوسائط عدة تتدخل أحياناً في فهم النص، كالمجال الثقافي والبيئي والاجتماعي والسياسي، وتمتد خيوط تلك الوسائط إلى النقد الذي يلعب دوراً مهماً في كشف آليات النص، ووسائل تأثيره، وربما مساره المستقبلي.

في هذا الاستطلاع آراء لكتاب ونقاد حول السؤال الأكثر جدلاً في هذه القضية، وهو: كيف تتشكل الذائقة الفنية؟ ومن الحامل الأساسي الأول: النص الأدبي أم المتلقي؟

عمار علي حسن: عدة طرق لقراءة النص

النص الأدبي وسيط شفاف لإيصال تجربة المؤلف إلى القارئ، الذي هو متلقي النص الأدبي، ومن يلعب دوراً في الحياة الأدبية من خلال التغذية المرتدة، وهنا يمكننا أن نتفهم الربط بين الأطراف الثلاثة، باعتبار أن المجتمع يسيطر على الأدب ويطوعه، ولذا لا يجب أن نلقي بالاً للتصنيفات البلاغية لأساليب الكتابة، ونربط بين الكاتب والنص والقارئ، جاعلاً دور الناقد هو إزالة الحواجز التي تفصل بين هذه العناصر الثلاثة.

النص الأدبي هو الحامل الأساسي للذائقة، بما يحمله من قدرة على الجذب والتشويق والشغف والإثارة والإفادة والإشباع، وبعد هذا تأتي خلفية القارئ، الذي قد يكون قارئاً جيداً مستعداً للتذوق على المستوى النظري، لكن ظروفاً نفسية ما قد تسيطر عليه في بعض الأحيان تجعله ينفر مما يجب الانجذاب إليه، ويقبح من يستحق المديح. ولا يمكن هنا أن أنكر دور الناقد.

لست مع التفكيكيين الذين سلبوا النقد أي قدرة على توصيل المعني الجوهري للنص، حين قالوا إن «كل قراءة هي إساءة قراءة»، وإن القارئ منتج للنص وليس متلقياً له، وبذلك فقد النقاد دورهم، وفقد الأدباء أنفسهم مكانتهم لحساب القراء، وتاهت عقول القراء في رحلة بحث مضنية عن المعاني الكامنة في النصوص الغارقة في الغموض، وغاب تأثير الواقع لدى النقاد الجدد، في سبيل رفع شأن مفهوم «التناص» الذي يقوم على أن كل نص أدبي هو مجرد إعادة إنتاج نصوص أدبية أخرى، وليس انعكاساً للواقع الاجتماعي. ولم يصل الأمر إلى هذا الحد فحسب، بل أثيرت شكوك حول الدور التقليدي للأدب، باعتباره يقدم تجارب بديلة لحياتنا، ويقدم صوراً ذهنية جديدة من المعرفة عن أنفسنا والآخرين.

كما أن القارئ ليس واحداً، فهناك القارئ الضمني الذي يخلقه النص لنفسه، وهناك القارئ المقصود الذي يستقبل صوراً بعينها في أثناء عملية القراءة، وهناك القارئ الأعلى الذي يشبه أداة استطلاع يتم استعمالها لاكتشاف المعنى الكامن في النص من خلال جمع آراء عدد من القراء، كما اعتبر أن هناك أيضاً ما يسمى القارئ المخبر الذي لا يهتم بالمتوسط الإحصائي لآراء عدد من القراء مثلما هو الحال بالنسبة للقارئ الأعلى، إنما يهتم بوصف النص من قبل أحد بعينه.

من هنا، نجد أن النص الواحد يقرأ بعدة طرق، إذ إن كل فرد يهضم الأدب على قدر ما لديه من معرفة وخبرة اجتماعية، كما أن النصوص لا تتفاعل بالطريقة نفسها حين يتم نقلها إلى سياقات اجتماعية وسياسية مختلفة عن سياقاتها الأصلية، ولا تنتج القراءات نفسها حين يتعرض لها أشخاص مختلفون، لغوياً وثقافياً واجتماعياً.

وإلى جانب القارئ، هناك المروي عليه الذي يختلف عن القارئ في أنه يعتبر هبة الراوي، إذ إن الروائي هو الذي يحدد جنسه وطبقته وعرقه وعمره من خلال مخاطبته في سياق النص عبر الشخصيات التي يختارها. فكل قارئ يتأثر بشخصيات الرواية أو القصة التي يقرأها، وهذا التأثر يبدأ من مجرد الإعجاب، ويصل أحياناً إلى حد التقمص. ومعنى هذا أن الراوي يحدد السياق الاجتماعي للمروي عليه، الذي بدوره ينظر للنص من زاوية وضعه الاجتماعي، ثقافياً وسياسياً وطبقياً.

فالقارئ والمروي عليه، على حد سواء، وإذا كانت متابعتهما للمقتطفات النصية ومحاولة ترتيبها تقودهم للتوصل إلى استنتاجات مستقلة عن مقاصد المؤلف أحياناً، فإن سلوكهم هذا ليس خروجاً على السياق الاجتماعي، إنما هو إعادة تشكيل لهذا السياق من خلال النص، طبقاً لوضعهما الاجتماعي ومستواهما الثقافي، وكذلك حالتهما النفسية. فتحقق النص يعني توصل القارئ إلى الوعي التاريخي الذي يجعله يدرك موقعه، ويرسخ وجوده الحقيقي.

إن منتج النص هو الأصل والأساس، ودونه لن يكون هناك ما يتفاعل معه القارئ، ونصه مجرداً عن شخصه هو الحامل القوي للذائقة، وبعدها يأتي القارئ، وما بين الاثنين يقع الناقد، ويتفاعل الجميع لإنتاج الذائقة، وإن كان بدرجات متفاوتة.

- باحث في علم الاجتماع السياسي

مصطفى الضبع: دوائر الذائقة

حتى تتشكل الذائقة، فإنها تتربى تربية الإنسان، وتصقل كما تصقل الموهبة، وهو ما يتحقق عبر أربع دوائر أساسية تبدأ من الأوسع للأضيق.

وتتشكل ذائقة الطفل من الصغر إلى الكبر عبر هذه الدوائر، وهي: الوسط الاجتماعي، وتلعب فيه وسائل الإعلام دورها الأهم. فالطفل الذي تأخذه وسائل الإعلام (التلفزيون خاصة) تفرض عليه نوعاً من الذائقة البصرية، تتلوها الذائقة المتشكلة عبر السمع تربية للأذن وتشكيلاً للوعي السمعي، وهو ما يكون له تأثيره الأكبر على تشكيل ذائقة الطفل. ثم المدرسة، وتعمل على تشكيل جينات الذائقة، وترسيخ الجمال الذي من شأنه تعليم الذائقة، وتسهم في الوقت ذاته (مع التلفزيون) على تنمية الذائقة المتدرجة من الصغر إلى الكبر. ثم يأتي بعد ذلك الأسرة، عبر توجيه النشء إلى مواطن الجمال، وتربية الذوق، والعمل على إبعادهم عن مواطن القبح، أو إبعاد مواطن القبح عنهم، وهو ما يعمل على تدشين الذائقة المتطورة من الطفولة إلى الشباب، مرسخة أسسها وقواعدها، وضامنة عدم إصابتها بالخلل مستقبلاً. وتشكل الذات الحلقة الرابعة في هذه الدوائر، عبر مكاشفتها النصوص الممتلكة قدراً أكبر من الجمال، فكلما حرصت الذات على اكتشاف ما ينمي ذائقتها، اكتسبت من الخبرات الجمالية ما يشكل هذه الذائقة بشكل أقوى. ونتيجة لما تشكل من ذائقة في الدوائر الثلاث السابقة، تعمل الأرضية الجمالية للمتلقي بشكل كبير في اكتشاف جماليات النص.

ولن تتشكل ذائقة المتلقي ما لم يكن قادراً على استكشاف الجينات الجمالية في النصوص، تلك التي من شأنها تنمية ذائقته، واستكمال فعل الحاسة الجمالية، وهو ما يعني أن الاستعداد الجمالي للذات وقد تربى سابقاً هو الأساس في اكتشاف الجمال، فالنصوص مهما بلغت من جمالها تتطلب ذائقة تشكلت عبر مراحل نموها الطبيعية، ولن يتمكن نص من تشكيل وعي المتلقي ما لم تكن هناك أسس جمالية متوطنة في النفس الإنسانية.

- أستاذ النقد الأدبي

حسن حماد: البعد الثالث

من يصنع الذائقة الفنية: النص أم المتلقي؟ هذا سؤال جدلي عن العلاقة بين الإبداع والمتلقي بشكل عام. ولكن حتى تكون الفكرة أكثر شمولاً، لا بد من أن نضع في الاعتبار بعداً ثالثاً، وهو الوسط البيئي والثقافي والاجتماعي والتاريخي الذي في ظله يولد العمل الإبداعي، ويوجد أيضاً الجمهور المتذوق، وعادة ما يطلق على هذا البعد الثالث اسم الإطار.

وفكرة الإطار أصبحت تمثل أهمية ضرورية لفهم الواقع الإنساني، حيث أصبح للمكان والبيئة والطبيعة دور كبير في تشكيل الثقافة. وفي ضوء هذا البعد الخاص بالسياق أو الإطار، نستطيع القول إن الذائقة الفنية للفرد أو للمجموع تتشكل عبر إطار تراكمي من الخبرة الإنسانية الحياتية والبيئية، ولا يمكن أن نتصور وجود ذائقة فنية من دون أعمال فنية إبداعية راقية. وبالمثل، لا توجد ذائقة فنية دون وجود جمهور واعٍ، لديه المقدرة على إدراك الأعمال الفنية واستيعابها وفهمها وتذوقها.

مثالاً على ذلك وضع الأغنية الآن في مصر، حيث أصبح الفن الغنائي، شأنه شأن الفن السينمائي، مهدداً بالانقراض والاضمحلال، وذلك لأن المناخ الثقافي العام يعاني انحطاطاً وتراجعاً وتدهوراً نتيجة سيطرة ثقافة السلعة، وهيمنة الذهنية التكفيرية، ووجود أزمة اقتصادية طاحنة، وأيضاً شيوع ثقافة الهامش، وهي ثقافة الدهماء والغوغاء، أو كما أسميها ثقافة «التوك توك»؛ هذا النمط الثقافي أصبح - وللأسف - لا يمثل فقط ثقافة العامة، ولكن أيضا ثقافة النخبة أو الصفوة. أتذكر أنني ذات يوم حضرت حفلاً لعرس أحد الأطباء الشباب، ففوجئت بأن شباب الأطباء أصدقاءه يتراقصون على أغاني المهرجانات، وهذا معناه أن ثقافة الهامش استطاعت أن تغزو المجتمع بطبقاته وطوائفه كافة، وهذه الظاهرة يمكن أن نسميها «مكر الهامش».

وفي ظل هذا المناخ الذي تسير أقداره في اتجاه رأسمالية متحالفة مع الأصوليات الدينية، يضيع النص الإبداعي، وتضمر الذائقة الفنية.

النص هو الصانع.

- أستاذ الفلسفة وعلم الجمال

نادية شكري: النص أولاً

النص هو الأساس، فلا شك في أن النص الجيد الصادق الكاشف يخلق المتلقي، ويسيطر عليه، ويضيف إليه، ويجعله منحازاً له، ولكل ما شابهه من إبداع جميل إنساني، عبر لوحة أو مقطوعة موسيقية، أو حتى منظر طبيعي حوله.

تلك النصوص - على قلتها - تحقق ما يسمع عنه الناس من أن «الفن رسالة»؛ النص الأدبي يصنع مجراه بعد انتهاء الكاتب منه لدى المتلقي. فالأخير يتمعن في شخوص العمل وأدوارهم، وفي جمال اللغة وكيفية وقدرة من كتبها على الوصول إليه، بل يتخيل أن الكاتب اصطفاه دون غيره بذاك النص. فيبدأ هو في الاكتشاف، وقد يحفزه النص في البحث داخله عن قدرة على الكتابة، أو حتى على النقد.

والكاتب في أثناء خلقه للعمل لا يقصد شيئاً من هذا على ما أعتقد، لكن بجودة فنه يخلق الوشائج بينه وبين الجمال والمتلقي، فتكون أهمية إضافته. فهناك الفيلم الذي لا ينسى على سبيل المثال، واللوحة أو الرواية أو المقطوعة الموسيقية كذلك.

والفن الجيد جزء من روح صاحبه، جزء من إنسانيته في أرقى صورها، لذا فلا عجب أن تتفاعل مع قارئ أو متلقٍ به حب وشغف يشبه صاحب العمل الأدبي أو الفني عموماً. وبالتالي، لو لم يوجد النص، ما وجد المتلقي بالتأكيد، فالنص سابق على القراءة، وعلى النقد، وحتى على محاولات تنفيذه إخراجياً. فالقارئ حين يتفاعل مع العمل يصنع نوعاً من المشاركة مع شخوص العمل، ومع مؤلفه في الوقت نفسه، يشعر بهم، ويصبح له رأي في أدوارهم أو طبائعهم، ومن الجائز أن يقوم بعمل إسقاط على الشخصيات المحيطة به. ما أعنيه أن الفن يمنح المتلقي وجهة نظر خاصة في كثير من الأمور، أي يضيف إلى وعيه من خبرات الكاتب. وهنا يكمن الخوف من الكتابات الهابطة والتقليعات بعيدة كل البعد عن الرقي الأدبي والإنساني، فهي تهبط بوعي القارئ إلى الغث والرديء، وتؤثر على نظرة الأجيال الجديدة للمستقبل.

 

 

المصدر : جريدة الشرق الأوسط

تصفح أيضا...