الطريق إلى غروزني - الشيشان 5 (توثيق لرحلة تحكيم الشعر) الشيخ محمد بن بتار

أربعاء, 18/09/2019 - 08:36

قمت بتشغيل منبه الهاتف قبل النوم بعد تحديد الساعة السادسة صباحا ، دون إعادة لضبط الوقت ولا بحث عن وقت طلوع الفجر ، قضيت ليلة تهامية في الغرفة رقم 613 بالدور السادس من  فندق the local ذي الخمس نجوم الواقع في حي هادئ من أحياء كروزني ، وهو الذي استضافت فيه روسيا المنتخب المصري لكرة القدم أيام بطولة كأس العالم. 

انتبهت في الموعد ففتحت عيني على ضوء قوي يخترق الساتر الممتد على عرض جدار البيت ،رفعت الساتر فإذا هو ضوء الإسفار، والواقع أن الفجر يطلع عند الدقيقة الحادية والخمسين بعد الثالثة ، فهرعت إلى حمام الغرفة للوضوء ومبادرة قرص الشمس بأداء صلاة الصبح ، وعند الاستعداد للخروج فوجئت بإنسان متبذل يتجه نحوي ، وكأنه يريد اقتحام الحمام ، فبلغ مني الفزع مبلغا لا يعلمه إلا الله ، ثم أفرخ الروع بعدما تبين أن السبب أنني قابلت مرآة الدولاب المحاذي ، فتذكرت قول العلامة محمد فال بن باب رضي الله عنه في نونيته الوعظية:

يا ليت مرآة الجدار بجنبه

إن يَلْهُ قابل شخصه بعيانه

وهي قصيدة بديعة في بابها ، أولها:

يا لاهيا والشيب خَمّـر رأسَهُ

حَرثُ الصبا لم تبق في إِبَّانِه

تجني جنى العِصيان ويك إلى متى

يا باحثا عن حتفه ببنانِه

ليواصلن شرب التقى من عمره     

قد ولت العشرون من شعبانه

لهو المشيب مع الشباب فضيحة     

وكفاه قبحا وهْو في أقرانه

إن خاض في الدنيا فذا خرف به   

فلينهه ذو النصح من إخوانِه

ومنها:

دنس البياض متى يطُل تلطيخُه 

 يُفسدْ على القصار من أُشنانِه

...

زجرته بومات المشيب برأسه  

فأعارها الصماء من آذانه

أمست قلنسوة المنايا عنده

هملا كما قد خاط من كتانه

فلو أتيح للإنسان أن يرى نفسه فيما يعتريه من الأحوال لعدل عن كثير من التصرفات.

أديت صلاة الصبح  في الوقت الذي وصف ابن أبي زيد رحمه الله تعالى في الرسالة بقوله : "وآخر الوقت الإسفار البين الذي إذا سلم منها بدا حاجب الشمس"

ثم أخذت في استخراج ما كنت أدخره لهذا اليوم من الثياب والحلى، وعند تمام الساعة السابعة نزلت إلى الدور الثاني لتناول وجبة الفطور في مطعم الفندق كما هو مرسوم في ورقة البرنامج.

فوجئت بأن باب المطعم مغلق ، ولم ألاحظ أي حركة في بهو الفندق ، تقدمتُ بخطا واثقة وفتحت باب المطعم ، فتلقتني الفتاة التي تديره -فيما يبدو- وخاطبتني بعبارة إنجليزية بلطافة ، لم أدرك من كلامها إلا كلمة seven ففهمت أنها تعني أن الوقت المحدد للفطور هو الساعة السابعة ، فأريتها الوقت على شاشة الهاتف (7:07 ) فالتفتتْ إلى النادل ثم أشارت لي أن تفضل ، جلست على أحد المقاعد ، ثم قلت في نفسي : لعل الضيوف غلبتهم أعينهم فلم ينتبهوا في الوقت ، أو لعل توقيت الخروج تغير دون علمي.

ثم قررت العودة إلى الغرفة دون أن آخذ شيئا مما هو معروض أمامي ،  لأتصل بأحد أعضاء لجنة التنظيم عبر الويفي الخاص بالغرفة لمعرفة ما حدث.

اتصلت بالمسؤول عن تنسيق شؤون ضيوف المسابقتين ؛ فقلت له : لعل موظفي المطعم لم يكن لهم علم بالتوقيت المحدد للفطور ، فقد أتيت المطعم ، ولم أجدهم على استعداد ، فرد عليَّ بإبداء التعجب والأسف.

بعد نحو ساعة رجعت إلى المطعم فلاحظت حركة الضيوف في فناء المطعم من وارد وصادر ، وعند الدخول وجدت المقاعد ممتلئة والرجال يتعاقبون بين المقاعد والطاولات التي صفت عليها صنوف الأطعمة  كما يتخالف جناة الكندر في أودية القتاد.

أمام هذا المشهد بدأت أوجه بوصلة التأمل إلى نفسي لاستخراج مكمن الخلل ، فلم أذهب بعيدا إذ أدركت بسهولة أن جهاز  الهاتف الذي بيدي كان قد تمكن من تغيير المنطقة الزمنية في (دبي) بإضافة أربع ساعات على توقيت منطقة المغادرة ، ويبدو أنه احتفظ بذلك التوقيت بعد الوصول إلى موسكو ولم يتعرف على المنطقة الزمنية الجديدة التي تنقص ساعة عن توقيت دبي ؛ حيث إن فارق التوقيت بين دكار وموسكو ثلاث ساعات فقط ، وليس أربعا كما هو الحال مع دبي.

إذن ؛ توقيت الهاتف الذي بنيتُ عليه جدول أعمالي متقدم بساعة عن التوقيت المحلي ، ومن هنا جاء الخلل ؛  وهو ما يعني أنني اقتحمت المطعم في الساعة السادسة صباحا ، أي قبل الموعد المحدد بساعة.

والمؤسف أنني حمَّلتُ الآخرين مسؤولية خطأي ، إذ نظرت إليهم من مرآة غير مجلوة عكَّر صدؤها صفو التزامهم ودقة مواعيدهم ؛ فكان حالهم معي كحال الطغرائي مع الناس في قوله مخاطبا لنفسه:

وشان صدقَك عند الناس كذبهم  

 وهل يطابق معوج بمعتدل ؟

ومن آفات غفلة الإنسان عن عيوبه أن يلقيها على الناس ؛ كما قال المتنبي :

ومن يك ذا فم مر مريض   يجد مُرا به الماء الزلالا

وكثيرا ما نجد عوام المتفيهقين ينكرون على أكابر العلماء وينسبون إليهم ما هم منه براء ، وما ذلك إلا لجهلهم وقصور أذهانهم عن إدراك مقاصد العلماء.

وكم من عائب قولا صحيحا 

 وآفته من الفهم السقيم.

بعد تناول الفطور توجه نزلاء الفندق إلى قاعة الاستقبال حيث تنتظرهم حافلات صغيرة ستقلهم إلى مدينة شالي الواقعة في الجنوب الشرقي من مدينة كروزني على بعد ثلاث وثلاثين كم ، حيث ستدور هناك جميع وقائع هذا اليوم الرئاسي من افتتاح المعهد القرآني والمسجد وتكريم المحكمين والفائزين .

كان معي في الحافلة مشاركون في المسابقة القرآنية من العراق والسعودية ومصر واليمن ، ودار  الحديث حول مخارج الحروف ، وتركز النقاش حول حرف الضاد ، وممن شارك معنا فتى مصري في السابعة والعشرين من العمر ، وهو طالب في كلية الطب الأسري في بريطانيا مع أنه له اشتغالا بالقرآن وعلومه ، وقد شارك في كثير من المسابقات القرآنية.

حدثتُ الإخوة في معرض الحديث عن الضاد بأن أول من أدخل الضاد العربية الموصوفة في كتب المقرأ والنحو إلى بلاد شنقيط هو العلامة محمد فال بن باب العلوي رضي الله عنه عند قدومه من رحلة الحج سنة 1306 هـ ، فأخذها عنه رجال منهم العلامة الشيخ سيديا بابَ رحمه الله تعالى ، كما لقيت معارضة شديدة من المحافظين على ما كانوا يعرفون عن أسلافهم في النطق بها.

 وقد جرت بين المؤيدين والمعارضين مقاولات مشهورة ، وفي ذلك يقول العلامة الشيخ سيديا بابَ :

الضاد حرف عسير يشبه الظاءَ

  لا الدال يشبه في نظق ولا الظاءَ

لحن فشا منذ أزمان قد اتبعت   أبناؤه فيه أجدادا وآباءَ

 

من غير مستند أصلا وغليتهم

 إلف العوائد فيه خبطَ عشواءَ

 

والحق أبلج لا يخفى على فطِن

  إذا استضاء بما في الكتْب قد جاءَ

 

هذا هو الحق نص لا مردَّ له   من شاء بالحق فليومن ومن شاءَ

فأجابه العلامة محمد فال بن بابَ بقوله:

من أنكر الحق لا تنصب تعالجه   فإن فيه عضالا ذلك الداءَ

 

ومن تأمل ألفى أصل علته    كون الطباع لما لم تألف اعداءَ

 

وفي هذا السياق ذكر أحد الإخوة قصة طريفة جرت بين الدكتور طه حسين والشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري ؛فقال إن طه حسين أثنى على اللهجة المصرية واصفا إياها بأنها أحسن اللهجات العربية من حيث مخارج الحروف ، فرد عليه الجواهري قائلا : مزبوط !

أثناء الرحلة إلى شالي كنت أتابع من خلل النافذة تلك الأشكال العمرانية البديعة والمناظر الطبيعية الخلابة الممتدة على حافتي الطريق ، فأحدث نفسي : هل هذه هي الشيشان التي كنا نسمع بما يحدث فيها من قتل ودمار فتتقطع قلوبنا شفقة على أبنائها ؟! هل هذي هي الشيشان التي كنا نسمع الدعاء لها من خطباء المنابر كل يوم جمعة في المدن والقرى الموريتانية بأن يفرج الله عنها ما هي فيه؟! 

نعم إنها الشيشان التي ينعم شعبها المسلم بالأمن والرخاء ، ويقيمون شعائر دينهم بكل حرية  في العهد القادري الميمون ، عهد الرئيس رمضان قاديروف وأبيه من قبله أحمد حجي قاديروف.

مَا ضَيّعَ الله في بَدْوٍ وَلاَ حَضَرٍ

رَعِيّةً، أنتَ بالإحْسَانِ رَاعِيها

 

وأُمّةً كَانَ قُبْحُ الجَوْرِ يُسْخِطُهَا

دَهْراً، فأصْبَحَ حُسنُ العَدلِ يُرْضِيهَا

 

وصلنا إلى مدينة شالي ، وتقدمت بنا الحافلة إلى باب المعهد القرآني حيث اشتبكت مظاهر الحيطة الأمنية  ومشاهد بهجة الاحتفال.

عند مدخل رحاب المعهد طلبت مني بعثة التلفزة الشيشان أن أحدثهم عن انطباعي عن هذا الحدث ، فأجبتهم إلى ذلك وأعربت لهم عن مدى إعجابي بدولة الشيشان في عهدها الجديد ، الذي يعد هذا اليوم قبسا من طالع سعده ودرة من منظوم عقده ، وكان أحد الإخوة يترجم ما أقول للغة الشيشانية بشكل فوري ، وأنشدت هنا أبياتا من قصيدتي (تحايا الشيشان) ، ثم التحقت بالوفود التي انتظم جمعها على الكراسي المنصوبة تحت المظلة  المضروبة حول مبني المعهد القرآني الجديد...

تصفح أيضا...