سجين غوانتانامو ولد صلاحي : يكتب لـ "مراسلون" عن وصوله لنواكشوطـ ـ مقال

أربعاء, 30/05/2018 - 13:16

محمدو ولد صلاحي ـ مهندس ، سجين في غوانتانامو لـ 15 سنة

في قاعة الانتظار وهي قاعة اجتماعات في المطار العسكري رأيت شيئين أكدا لي أن موريتانيا مازالت بخير وكما عهدتها؛ أولهما أن الموريتاني مازال يشرب الشاي الأخضر وأنه لا يزال يأخذ الأخبار من قناة الجزيرة وأمر ثالث لم أعهده وهو جمال الغرفة ونظافتها وسعتها ففرحت أن المرافق الحكومية صارت أنظف من السابق ولكني سرعان ما أصبت بخيبة الأمل ...

محمدو ولد صلاحي ـ مهندس ، سجين في غوانتانامو لـ 15 سنة

خاص بالمشتركين /  لا أعرف ماذا حدث بعد أن أقلعت الطائرة العسكرية وربطت عيناي وربطت على مقعد صلب لمدة يوم كامل حتى وصلت البيت وأحسست بضجة كبيرة وبعض المناوشات حولي وأنا أنظر كما أنني في حلم. وإنه لمن السخرية بمكان أن تعرف أنني وأنا بطل الفيلم فإنه بدا وكان لادور لي فيه. أذكر أنني وصلت الفندق  وطلبت أخذ الدواء بمساعدة الإنترنت حيث أنه ولأول مرة منذو خمسة عشر سنة لم آخذ دواء بنفسي والأهم من ذلك أن أعرف ماهو دوائي. كانت لحظة جميلة وبحق! وقد أنعم الله علي بأن حرسي من أفراد الأسرة وهم شباب ألفوا نوم الصبيحة و لم أكن أستطيع النوم فكنت أتسلل ليلا وأخرج حين أسمع أذانات السحر وكنت أخاف من أن أتيه عن الفندق. وأذكر مرة أنه خيل إلي أني سمعت أذانا وحين وصلت إلى المسجد لم أجد فيه "رداد أخبار" فتوضأت وصليت ركعتين على أمل أن يصل أحد وكنت خائفا أترقب حين أحسست بالوحدة فغادرت المسجد ولا أتذكر هل رجعت إليه لاحقا لأداء الفجر أم أن الخوف و"تزبوت" الحرس النائمين قد فازوا بالموقف.

 

لن أنسى وجه الضابطة التي أطلت من الفتحة الصغيرة في زنزانتي والتي وصلت من الولايات المتحدة قبل وقت قصير لا يتجاوز عدة أسابيع لتحل محل ضابط الحرس الذي رجع إلى بلده بعد إكمال مأموريته.

 

لم يسبق وأن رأيتها قبل ذلك حين أطلت بوجهها وهي تحمل ابتسامة تخفي في ثناياها بشارة عرضها الأطلسي من تلك الجزيرة البعيدة في خليج الخنازير إلى رمال نواكشوط الذهبية. "هل تعرف أنك ذاهب إلى البيت؟" كان ذلك هو سؤالها دون كبير مقدمات وعادة القوم قصر المقدمات والولوج إلى الموضوع مباشرة لأنه لايوجد عندهم وقت للمطولات من قبيل ماتعودت عليه حين جاءني قبل الاختطاف بقليل بعض الأخوة وحدثني حديثا طويلا أصابني منه الملل ولكن الحياء منعني من مقاطعته وبعد ساعة فرج الله علي بان رست سفينته عند الهدف. قبل مجيء الضابطة كنت قد قضيت عدة أيام في المعسكر السادس ولم يسمح لي بالخروج من الزنزانة نتيجة الإعصار الذي ضرب المعسكر في تلك الفترة.

 

 لا أريد شرا بأحد حتى وإن كان سجاني ولكن كم حلمت وتمنيت على مر السنين أن يطفق المعسكر أحد الإعصارات. 

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا * وحسب المنايا أن يكن أمانيا

لم أفرح كثيرا لخبر الضابطة لأني تعلمت من السجن أن أعود نفسي على وتيرة واحدة بين الفرح والحزن حتى لا يخيب ظني وتنال مني "الحموضة". وذلك من كثرة ما سمعت من الأخبار والتي بدت أنها غير صحيحة مما أصابني بالإحباط والكآبة. قلت في نفسي إن هذا خبر أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع، فكثيرا ماسمعت أخبارا مشابهة ولكنها سرعان ماتذوب تحت عصف الريح في الليل البهيم..؛ لذلك قررت عدم الاحتفال حتى أبرح الجزيرة وتمتلأ عيناي من "غبرة" انواكشوط.

 

وبعد أيام بدا الأمر على ما وصفت السيدة وذلك أنه بعد أيام من الانتظار والتطلع نزلت الطائرة العسكرية في انواكشوط وخرجت وأنا الوحيد بين مجموعة الجنود من القوات الخاصة وو قع نعالنا على إسفلت المطار يغني أغنية الترحيب. 

 

وبعد سنوات طويلة من نشيد:

 

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بواد وحولي أذخر وجليل

 

وهل أرِدن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لي شامة وطفيل

 

هاأنذا أجد نفسي بين أحبابي.

 

هناك شيء ما : لا اعرف التعبير عنه وحاصله أنه لما ضربتني رياح "إريف" علمت أنه الوطن وأكد ظني ما رأيت من وجه الأخ مدير أمن الدولة   والأخ العسكري المرافق له فعلمت أني رجعت إلى "الخيام" وكانت العواطف المتناقضة تغلي في صدري من حيث حبي لهذا الوطن وأهله وبغضي لما فعل بي من بيعي بثمن بخس لمن لا يقدر قيمته وهل هناك أشد من ظلم ذوي القربى؟

 

وكان يتجاذبني قول الشاعر: بلادي وإن جارت علي ... وقول الآخر: وظلم ذوي القربي ...

 

في قاعة الانتظار وهي قاعة اجتماعات في المطار العسكري رأيت شيئين أكدا لي أن موريتانيا مازالت بخير وكما عهدتها؛ أولهما أن الموريتاني مازال يشرب الشاي الأخضر وأنه لا يزال يأخذ الأخبار من قناة الجزيرة وأمر ثالث لم أعهده وهو جمال الغرفة ونظافتها وسعتها ففرحت أن المرافق الحكومية صارت أنظف من السابق ولكني سرعان ما أصبت بخيبة الأمل حين زرت المكاتب داخل انواكشوط، والتي مازال بعضها باق على العهد رغم أنف الزمن وتقلباته.

 

 

 

تصور أنه بين عشية وضحاها صار العالم بأسره بين يدي في صورة الهاتف الذكي الذي أهداه لي ابن أختي ليلة وصولي بعد أن كنت محروما طيلة قرابة خمسة عشر عاما حتى من قراءة ولو مقال في جريدة مالم يباركها السجان!

 

وقد أذهلني كثرة استخدام الهاتف الذكي وكنت أنظر في حيرة من أمري إلى الجالسين من حولي فالذي لا يجري مكالمة هاتفية يكتب مساجا للرد على آخر وثالث يقلب في عجب الصور والفيديوهات التي شغله الرد عن الاستمتاع بها.

 

 

 

ورغم أنه لا توجد لدي ذكريات واضحة عن الأسابيع الأولى من وصولي فإني أتذكر بوضوح صعوبة إجراء حديث متواصل دون أن يقطعه الهاتف وفي وسط الحديث مع أبن خالتي لا أفرق بين الحديث الموجه لي وما عني به شخص اتصل لتوه به وواصل معه حديثا سابقا يبدوا أن رداءة الخط أو انتهاء الرصيد قد قطعته. ومن حسن حظنا في موريتانيا أن "انصارى" اكتشفوا الهاتف الذكي من أجل متعتنا ومن أجل ألا تضيع أعمارنا كلها في استخدامه كان من حظنا أيضا أن الشبكة ضعيفة في غالب الأحيان وكأنها رسالة إلينا أن قللوا من الهذر ومما لا يفيد. وبما أن ابن خالتي يبدأ مكالمته من النصف مكملا طرفة اليوم التي بدأها قبل أن ينتهي الرصيد قبل ساعة فإن الأمر زاد في حيرتي حتى أني في يوم كنت أحكي له طرفة فضحك من قلبه ففرحت بذلك لأني ما كنت أصلا أظن ان "الملحة" إلى تلك الدرجة فانفتحت نفسي للمزيد ولكني اكتشفت أنه أثناء حديثي إليه وصلته مكالمة من صديق وكانت سببا في سروره وضحكه ومن تلك الحادثة تعلمت أن أسأل مرتين من يكلمني إن كان يعنيني أوإن كان يعني من على هاتفه حيث أن معظم المكالمات تمر من حولي دون أن أتفطن لها. الحديث في مورريتانيا مستمر والهاتف جزء منه

 

أحب الحرية وأحب الهاتف الذكي ولم أعرف من أين أبدأ فأنا أريد رؤية كل شيء في نفس الوقت وأن أعوض عما فات. دخلت يوتوب وكوكل ولم أستطع النوم لليال عديدة رغم تعبي الشديد ولك أن تتخيل أنه رغم العالم المفتوح فإني كنت أبحث عن المواضيع المتعلقة بسجن غوانتنامو! 

 

كان حلمي في السجن أن يكون عندي تلفزيون كبير وأن ألتقط جميع القنوات العربية والعالمية ثأرا من زمن الحرمان الطويل وبما أني في وضع يسمح لي بذلك فإني طلبت من أبن أخي أن يشتري جهاز تلفزيون مع جميع المحطات وطلبت من ابن أختي الصغير أن تنظم المحطات بحيث تتوال محطات الأخبار والمحطات الثقافية إلى آخره ولكني فوجئت حين أخبرني بأنه لا يعرف استخدام التلفزيون فعلمت حينها أن "ادلكان الي مورطني الملائكه ما يظروه" وأن زمن التلفزيون قد مضى وحل محله الواتساب حيث أن رد "آسواغ" وسيل الخطب والنصائح من غير طلب وبالمجان تأتي على الهواء مباشرة بل وتسمح بالتفاعل. تصور أنه لو سمح لجميع مشاهدي الاتجاه المعاكس أن يكونوا ضيوف الحلقة فذلك هو الواتساب. لا أشك أن مكتشف الواتساب هو موريتاني أصيل وأنه كفانا مؤونة أن يحج أحدنا إلى بيت الله الحرام وأن ينام بجانب الروضة الشريفة ويرى حلما يرجع به إلى الوطن مبشرا ومنذرا فحانما نزلت بدأ سيل الكرامات الجارف من ناس و"اكروبات" لا أعرف معظم أهلها حتى أن بعضهم يهدد بخراب البيوت بل وأشد من ذلك والعياذ بالله وهو كسر جهازي إن لم أرسل الرسالة لعشرة أشخاص. وكنت أسلك دائما طريق المخاطرة لأني ببساطة إنسان كسول والغريب في أن جهازي مازال على حاله بل وأقوى من السابق. 

البنية التحتية قد تطورت لا شك في ذلك ورغم أن مقطع طريق انواذيبو مابين المطار ووسط العاصمة هو وصفة ممتازة للأحباط لمن يريد الذهاب إلى روصو أو المتجه شرقا على طريق الأمل ولكن في المجمل في أماكن لا بأس بها من العاصمة خصوصا في أحياء الطبقة الوسطى قد شهدت عمرانا ولكنه ليس بحجم التطور السكاني.

 

مجمع اكلينك وما حوله منطقة غير صالحة للعيش الكريم وبهذه المناسبة فإني أتوجه إلى كل الغيورين من أجل العمل على مساعدة الأحياء الفقيرة وإعداد البنية التحتية حتى ولو أدي ذلك إلى تخطيط جديد بالكامل. ماذا سيكون حالنا بعد ٢٠ سنة؟ 

 

قبل اختطافي كانت المشكلة في الكبات ولكن بعد رجوعي اكتشفت أن العاصمة أصبحت كبة كبيرة ما عدا مساكن البعثات الأجنبية والمسؤولين الكبار. من سابع المستحيلات أن تأخذ طريق الأمل من وسط المدينة باتجاه توجنين وتصل وأنت في كامل قواك العقلية والخبر السار الوحيد في تلك الرحلة هي أنها أكدت لي مرارا وتكرارا أنني لازلت في موريتانيا وأن عدم احترام قوانين الطرق في أوج قوته.

تصفح أيضا...