أصدقائي الشناقطة: أهل البادية والمحضرة ـ مقال

أحد, 10/09/2017 - 10:43

لا تكاد تجد شنقيطيا ليس عنده شيء من الثقافة والعلم، قلّ أو كثر، ولا تكاد تجد شنقيطيا ليس عنده من الشعر الجاهلي فضلًا عن الإسلامي والعباسي ما يتمثّل به في المناسبات والحوادث

لي أصدقاء شناقطة كثر، أنا لهم محب، وبهم متيّم؛ وقد بلغت محبّتي للشناقطة، أن أسلمتني الطرق وأنا أسير ليلةً ما إلى طريق مظلم، وقفتُ فيه سيارتي، وإذا رجل مسنّ شديد النُّحف، على رأسه عمامة شنقيطية، يبدو تحتها وجهه العتيق، الناتئ عظم الوجنتين، تائهٌ في درّاعة واسعة فضفاضة تنفخها الريح كأنها منطاد، تبدو من تحتها رجلاه، يبّسهما جفاف الصحراء، فأهويت أستلمُه عناقًا وتقبيلًا، فتفاجأ بهذا "المجنون" الذي يهجم على الناس في الشوارع يوسعهم تقبيلًا واحتضانًا!
لم يكد يصحو هذا الشيخ الشنقيطي من فجاءتِه (بعد حفلة العناق والتقبيل هذه) حتى سألني: من أين أنت؟ فأخبرته، وقلت معتذرًا: سامحني يا شيخ؛ ما تمالكتُ نفسي إذ رأيت شنقيطيا يبدو أنه خرج توًّا من البادية حتى هفوت للسلام؛ فأنا أحب الشناقطة، فأجابني بذكاء الشناقطة وظرفهم وهو يبتسم: والشناقطة أيضًا يحبونك. ثم أخبرني أنه يجمع المال لمحضرة كذا وكذا، فسارعت إلى الاتصال بصديق لي شنقيطي "أبشّره" بأن هناك من يجمع المال لمحضرة كذا وكذا في منطقة كذا وكذا، فأرسل إليّ يحذرني أن هذه المحضرة ليست من المحاضر المعتمدة، وأن هذا الرجل المنتمي إليها ليس بذاك، حتى إنه قال لي: سله عن شيء في الأصول تجده جاهلًا. فلم أصدّق صديقي الشنقيطي هذا، وقلت: لعل حكمَه ناتج مما يجري بين العرب من فخر قبيلة على أختها، أو منطقة على شبيهتها. فلمّا التقيتُه بعدُ، بيّن لي صديقي هذا أن الشناقطة ليسوا كلهم علماء كما أتوهّم؛ ففيهم العلماء وفيهم مدّعو العلم، وفيهم المتقون، وفيهم اللصوص، وهم بشر كسائر البشر فيهم مناقب وفيهم مثالب. ولئن كان كلامه هو الحق الذي لا ريب فيه؛ فما أزال غير قادر على ألا أرى الشنقيطي فقيهًا أو أديبًا.
ربما يعود هذا إلى الوسط الذي عشتُ فيه؛ فأكثر من أعرف من الأصدقاء أكاديميون، وفقهاء، وأدباء، وباحثون، وكتّاب، وطلاب علم، ولم أعرف شنقيطيًّا واحدا، إلا وجدته مثقفًا واسع الثقافة، مطلعًا عميق الاطلاع، لا سيّما في الفقه واللغة والأصول، ولم أجد شنقيطيا واحدًا إلا وفيه جانب من الطرافة لا تجده في غير الشناقطة؛ حتى لكدت أضرب بهذا المثل فأقول: طرافة شنقيطية! ولم أجد شنقيطيا واحدًا ممن خبرتُ وعرفتُ، إلا وفيه "غرابة" تميّزه.
بل إن الشناقطة كلهم ظاهرة طريفة وغريبة، فهم في عمومهم قومٌ بدوٌ رُحّل، غير أنهم بُداة خلاف جميع البداة في العالم كله مذ عُرِفت حالة البداوة في هذا الكوكب، ولئن كانت سمات البدو منذ التاريخ السحيق تظهر في القتال، فالشناقطة جمعوا إلى "فضيلة القتال" فضيلة أخرى هي "فضيلة العلم" غلبت عليهم فيما بعد، وتفردوا بها عمّن سواهم من بني العروبة والإسلام، فكانوا حفّاظ هذه الثقافة العربية الإسلامية ورعاتَها، وكأنهم يمتثلون حقًا قول المتنبّي:
أعزّ مكانٍ في الدُّنا سرج سابحٍ
وخير جليسٍ في الزمان كتابُ
فهم بدوٌ وطلاب علم في الوقت نفسه! وهذه ميزةٌ لا تجدها إلا عند الشناقطة، ورثوها منذ أيام الصنهاجيين، ثم المرابطين، حتى إن المفتي فيهم يسمّى: المرابط؛ عودًا على أيام دولة المرابطين التي جمعت الفضيلتين، قبل أن تبقى فضيلة واحدة فقط.
وباستقراء ناقص غير تامّ، أستطيع أن أحصر سمات الشناقطة – بحسب ما خبرتُ وعلمت – في ثلاث:
أولها: البساطة؛ فمهما علا منصب الشنقيطي، وأثرى، وزادت أمواله، وتبدّل بالخيمة أو بيت الطين قصرًا، وبالناقة آخر طراز من طُرُز السيّارات الحديثة، وبالدرّاعة بدلة إفرنجية ثمينة وربطة عنق؛ لن تفارقه بساطة الشنقيطي وبذاذتُه، فهو بدويّ مهما تمدّن، وهو شنقيطي مهما لوى لسانَه برطانة الأعاجم.
وثانيها: الثقافة؛ فلا تكاد تجد شنقيطيا ليس عنده شيء من الثقافة والعلم، قلّ أو كثر، ولا تكاد تجد شنقيطيا ليس عنده من الشعر الجاهلي فضلًا عن الإسلامي والعباسي ما يتمثّل به في المناسبات والحوادث، بل إن من طرافة الشناقطة أن بعضهم ينظم كل شيء، حتى طريقة شحن رصيد الجوّال! وقد سمعت قبل أيام منظومة لا تتجاوز أبياتًا عشرة نظم فيها أحدهم كيفية شحن الموبايل في موريتانيا! فذكّرني بأبي العتاهية، إذ قال: لو أشاء لجعلت كل كلامي شعرًا.
وثالثها: الاعتداد بالنفس، وهي صفة عروبية بلا جدال، غير أن اعتداد الشناقطة بأنفسهم اعتداد لذيذ، غير مؤذٍ، وهو أمر توارثوه بحكم عربيّتهم، والعربية عندهم – أعني عند عربيّي النسب منهم – تعود في الغالب إلى الانتصار، والعلم، والثقافة، ولذلك ورد في التاريخ أن القبيلة العربية منهم لو انتصرت على قبيلة وسادتها، سمّت نفسها "العرب"، وسمّت المهزومين – وهم عرب مثلهم – "العُريب" بالتصغير، فهم يربطون بين العروبة والانتصار والسيادة.
هؤلاء أصدقائي الشناقطة، أبناء البداوة والمحاضر، فالمحضرة الشنقيطية (أي المدرسة على الطريقة القديمة)، كانت الحضن الذي يحفظ لغة العرب وتراثهم الديني والفقهي، وليس غريبًا البتّة، أن تجد راعي إبل فقيرًا، يحفظ دواوين من الشعر، أو – في هذه الأوقات – بائعًا في بقّالة ينظم ألفيّة في فنّ من الفنون.
ركبت ذات مرة مع صديق لي شنقيطي، وهو يستمع إلى منظومة في سيارته، فالتفتّ وقلت: أألفيةٌ هذه؟ فنظر إليّ بقرف وقال: لا يا رجل! هذه أربعمئة بيت فقط، وأشار بيده تهاونًا بعددها، كأنها لا شيء! فأغربتُ في الضحك، إنها طرافة الشناقطة. 

رائد السمهوري 

تصفح أيضا...