إشكالية تجديد الطبقة السياسية ... / عبد الصمد ولد أمبارك

اثنين, 04/09/2017 - 00:08

تعرف موريتانيا هذه الأيام جملة من التناقضات السياسية الهامة في تاريخها الحديث،تعتبر إلي حد ما إنتاج مجموعة من التطورات المتلاحقة التي كرستها سياسة الفراغ و احتكار الشأن العام من قبل زمرة،أثبتت لنفسها عبر كافة الحقب الماضية،أنها النخبة السياسية المسيطرة و بلا منازع و كأنها بذالك تضفي نظرة شمولية متكاملة علي الإرث السياسي في البلد.

منذ نشأة الدولة الموريتانية المستقلة، حكمت البلاد أوجه متعددة من خلال أساطير متتالية يتفاوت حجمها انطلاقا من مرجعيتها القانونية و مشروعها السياسي و الاجتماعي ،المتكامل اتجاه المجتمع،النابع من خصوصية البلد الثقافية و مميزاته الحضارية التي تفرض نفسها في معادلة التغيير و التجديد.

لقد ظل الشأن العام حكرا و بلا منازع علي فئة قليلة، منغلقة في أحيان كثيرة علي نفسها ومنفتحة حسب ظروف الزمان و المكان تارة. رغم ما تنطوي عليه من تناقضات إيديولوجية متنافرة، حافزها الوحيد هو التمسك بالسلطة عبر بوابة نظرة عجوزية، لم تعد اليوم قابلة للتطبيق في عالم متحرر ،تمتلكه الليبرالية الاقتصادية و التعددية السياسية، المطبوعة بحرية الفكر و التعبير و هاجس العلم و المعرفة و التطلع إلي غد أفضل،ينعم فيه الإنسان الموريتاني باليمن و الرفاهية،قاسمه المشترك المصلحة العليا للبلد،المتنوع و المترامي الأطراف،المتشعب المصالح، نتيجة لاختلافها من جيل إلي جيل،بغض النظر عن المشارب الفكرية و التفاوت العرقي و الخصوصية الجهوية و القبلية التي تعد المقياس الأصيل لبنية المجتمع التقليدي.
فلقد عرفت موريتانيا خلال مسيرتها السياسية تطورات دستورية هامة ، عكست مدى ما تحظى به فكرة الديمقراطية من احترام داخل أوساط النخب السياسية التي تعاقبت على الحكم في هذا البلد ، الذي تميز منذ البداية بإرادة جيل من الشباب الذين قادوا الحراك السياسي و الاجتماعي الذي توج بالتعددية الفكرية ، مستنبطة من النهج العربي حيث التيار التحرري والمد القومي من جهة ، و النزعة الإفريقية التي تجد صدى في الضفة و الاحتكاك الإقليمي من جهة أخرى.

هذه الوضعية المتميزة قادت إلى تحول سياسي توج بالتعددية الحزبية التي أقرها دستور 20 مايو 1961 م ، إلا أن النظام القائم سرعان ما اتجه نحو الأحادية الحزبية و أقرها طيلة عقدين من الزمن ، مما أدى إلى خنق الحريات العامة و احتقان سياسي عميق، أنتج نزعة الإصلاح و التغيير لدى النخب السياسية و قادة الرأي.مما أوصل البلد إلى طريق مسدود، أستوجب من الجيش أخذ زمام الأمور صبيحة العاشر من يوليو 1978 م،من خلال عناصر شابة لم تحمل مشروع مجتمع كما هو الحال لتجارب بلدان المشرق العربي و حتى بعض بلدان المغرب العربي . إنما كان مقصدهم تخليص البلاد من حرب الصحراء و تقويم الاقتصاد الوطني و قيادة البلاد نحو مؤسسات ديمقراطية لاحقا.

لقد شكلت المؤسسة العسكرية في موريتانيا منذ 1978 م ـ 1992 م ، النخبة السياسية التي سيطرت على الأوضاع السياسية العامة ، حيث تضع الاختيارات الكبرى للدولة ،فهي التي تحدد الأهداف الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية المتوخاة و تسهر على تنفيذ البرامج .

 نتيجة للتحولات العميقة التي عرفها العالم ، حيث نهاية الحرب الباردة و اندثار المعسكر الشرقي و تلاشي الأنظمة الفردية الإفريقية بالإضافة إلى البعد الاقتصادي المتمثل في دخول المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي و البنك الدولي على خط نهج استثماري جديد ،ارتبط بالتمويلات الخارجية لكافة الدول النامية، منذ قمة لابول بفرنسا ،بالإضافة إلى الأصوات الداخلية المنادية بالإصلاح و التغيير،قررت النخبة الحاكمة قيادة البلاد نحو نظام ديمقراطي تعددي في إبريل 1991م علي الرغم  مما صاحبه من إخفاقات متلاحقة تسارعت الي حد نهايته.
 

إن المتتبع للأحداث منذ الفترة الانتقالية الأولي سنة 2005 م ، يدرك و بجلاء مدي عمق الأزمة التي توالت في أذهان النخبة السياسية الضالة،التي أكدت التجربة مدي هشاشتها و ضعف تركيبتها و عدم قابليتها للانكسار أمام إرادة الشعب الباحث عن التغيير و الإصلاح،كما أثبتت هذه الحقبة مدي ليونة هذه النخب مع التأقلم مع رياح التغيير التي اجتاحت العالم و ما تولد عنها من الثورات المفاجئة ، التي أذهلت أكثر من مراقب ،كللت بالربيع العربي الذي فرض نفسه كمعادلة إقليمية ،بل مقاربة أمنية كان لها ما بعدها علي كافة المستويات و الأصعدة.هذا الربيع العربي الذي شكل مأزقا خطيرا ، كان قد هيأت له عدة أوساط خارج العالم العربي منذ نظرية نكربونتي و رفاقه من الفلاسفة الغربيين،أفضي الي شراكة عميا مع بعض النخب العربية التي امتطت وسائل التواصل الاجتماعي ضمن محيط عربي غير محصن تماما للاختراقات الرقمية،مما أوقع الكارثة التي راحت ضحيتها أغلبية الشعوب العربية التي أصبحت أنظمتها اليوم في خبر كان.حينها حصلت الكارثة بكافة المقاييس كالحروب الأهلية،الغزو الأجنبي،الخراب الاقتصادي،الدمار المؤسسي لبنية الدولة الوطنية .علي الرغم من كثرة المحاولات اليائسة لمعالجة واقع أليم انطفأت ناره في بعض البلدان و خمدت تحت الرماد في أغلبية البلدان العربية.         

اليوم بعد مرور أزيد من مأمورية رئاسية  علي حركة التصحيح و ما صاحب ذالك من خطوات هامة في تاريخ هذا البلد،لم يعد بالإمكان أمام هذه النخب المنتهية الصلاحية ، سوي التفكير بالطرق و الوسائل الكفيلة بوجود الضمانات لتراهن علي مستقبل شعب بأسره عبر وسائل العنف و القوة و الضرب المجرح للمقدسات الوطنية،كوسيلة للمشاركة السياسية و الظهور الموسمي، لاختطاف الأنظار و ملء نصف الكأس الفارغ المحتوى علي الرغم من تناقضها،مادامت عادات و تقاليد هذا الشعب لا تقبل بأعضاء غريبة علي قيمه، لم و لن يقبل بها جسم شعب مسلم، تحكمه الأعراف و التقاليد و يتمسك بالدين الإسلامي كمصدر وحيد للتشريع و منهل روحي و أخلاقي للنفوس الطيبة والكريمة.

إن القطيعة مع ممارسات الماضي تمليها أكثر من حتمية،علي الرغم من الطابع التكاملي بين خبرة و تجربة الطبقات المنصرمة العهد مع الطاقة الحية و القوي الفاعلة في حركة التجديد و التغيير من الفئة الشبابية التي يعول عليها اليوم أكثر من أي وقت مضي في حمل مشعل البناء و التعمير،تجسيدا للمنظومة الموضوعية و الواقعية لحركية الشعوب السائرة علي طريق التقدم و النماء،بدل الدوران في حلقة مفرغة تؤدي حتما إلي تكريس التوريث السياسي الضارب عرض الحائط للقيم و المفاهيم الديمقراطية المتنافية مع أبجديات الحكم الرشيد،المبني علي إرادة الشعب القاضي في خياراته المصيرية، تكريسا للحقوق الدستورية في إقامة ديمقراطية حقيقية، ثابتة علي أسس صلبة ، قوامها العدالة و المساواة و نهجها تصحيح الماضي، عبر تغيير وسائل التسيير و ضخ دماء جديدة من الطاقات المؤهلة لقيادة البلاد إلي بر الأمان، بالوسائل الشرعية للتناوب السلمي علي السلطة.

 

لقد شكلت التعديلات الدستورية الأخيرة، منعرجا جديدا في الحياة السياسية الوطنية،من خلال مصالحة موريتانيا مع ذاتها و تاريخها المجيد، عبر تكريس رموز المقاومة الوطنية في الثوابت و المقدسات المرجعية للذاكرة الجماعية ،باعتبارها موروث جماعي وطني يحمل أكثر من دلالة.مما ولد مشروع سياسي نابع من إرادة سياسية، لمختلف القوي السياسية الوطنية من موالاة و معارضة، شاركت في الحوار الوطني الشامل. الشيء الذي  شكل حلقة جديدة في تأسيس الدولة الوطنية المستقلة.قصد تحقيق الاستقرار السياسي مع إحداث توازن في العلاقة بين مختلف السلطات الدستورية ،تكريسا للثقافة الديمقراطية التشاركية ،التي تضمن للمواطن متابعة و تقييم أداء المؤسسات التمثيلية .في ظل مقاربة تسمح بتوطيد و تعميق المكاسب الديمقراطية مع صيانة اللحمة الاجتماعية و ترسيخ ثقافة المواطنة من خلال الحوار كمنهج للممارسة السياسية .

إن حكمة التاريخ تؤكد أن قلة، هم القادة الذين يصنعون التاريخ لشعوبهم و يسطرون مسلكيات و عقليات، تتماشي و روح العصر،تضمن مستقبل الأجيال و انسجام كافة المكونات في نسق بنيوي متكامل الأدوار و الوظائف.لعل النهج الجديد يمضي في هذا الاتجاه الذي أراد له مهندس الحركة التصحيحية محمد ولد عبد العزيز ، أن يقوم و يترعرع في جيل متعطش لأخذ مكان الريادية في قيادة قاطرة النهضة التي استلهمتها هموم الجماهير و أراد لها الله البقاء بعناية الشعب و كافة قواه الحية.فالشعب الموريتاني اليوم يتطلع لما بعد الاستفتاء الدستوري ،بأمل طال انتظاره،منذ عقود كرست التهميش و التسلط و الحرمان إلي التجديد المنتظر ، بصبر شعب تعافي من جرح أليم،أستنهض الهمم و أدرك الحقيقة، فهل يتحقق الوعد؟

 عبد الصمد ولد أمبارك

رئيس مركز الأطلس للتنمية و البحوث الإستراتيجية

تصفح أيضا...