المعلوم ولد لمرابط يكتب عن آخر العقلاء ..!

خميس, 24/08/2017 - 03:28
المعلوم ولد لمرابط

حرس الله مدينة أطار
محاولة تقييد شذرات من أخبار المرابط محمد الأمين بن سيدي أحمد بن البشير، كنت نشرتها من قبل، والآن أعيد نشرها بعد حصولي اليوم على صور من طلبة محظرته، نشرتها مجلة العربي في عدد سبتمبر 1968م.
المرابط محمد الأمين بن سيدي أحمد بن البشير القلاوي
آخر العقلاء
حدثني الثقة من من حضر جنازة المرابط محمد الأمين بن سيدي أحمد بن البشير، قال: لما قدم الشيخ بداه بن البوصيري إلى المقبرة للصلاة على المرابط، وضع يده على جبينه وهو مسجى على نعشه، ثم قال: هذا آخر العقلاء.
وهي جملة ـ لعمري ـ تختزل وتختزن حقيقة ذلك الطود الشامخ، المنكبِّ على نفع الناس بالتدريس ولجم هوى النفس بالعبادة، بعيدا عن التأثر بزخارف الحياة الدنيا، فلله هو من علامة ورِع زاهد! 
تواتر عن الشافعي أنه قال في من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس: يصرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى، لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير، وما هم إلا المشتغلون بالطاعة.
كانت وفاة المرابط محمد الأمين يوم الثلاثاء عام 1977م بانواكشوط، وتولى الصلاة عليه الإمام بداه بن البوصيري، ثم تم دفنه بمقبرة لكصر. 
ثلاثة وثلاثون عاما، كانت فترة جلوس المرابط محمد الأمين بمحظرته العامرة في أطار، التي كانت ـ كما وصفها الأخ إكس بن إكس اكرك وصدق ـ "مصدر إشعاع ومركز استقطاب لتلاميذ شتى من مختلف مدن وقرى المنتبذ القصي ألف العلم بينهم، وكانت رغم ضعف الإمكانيات جامعة للدراسات العليا، قل من فقهاء وأساتذة المنتبذ القصي الحاليين من لم يكن له بها ممر".
أسس المرابط محظرته تلك حوالي عام 1944م، حسب الشيخ محمد يحيى بن سيدي أحمد في شرحه لنظم العلامة ممو لحياة العلامة يحظيه بن عبد الودود، عند قوله في عدّ بعض من تخرج على يد الشيخ يحظيه:
وابن البشير وأبي المعالي == وكرماء من بني متال
وكان المرابط محمد الأمين قد نهل من معين مشايخنا آل محمد سالم المجلسيين، على يد العلامة عبد القادر "قاري" بن حمد الله بن محمد بن محمد سالم، حتى تضلع من علم الشريعة، قبل أن يسمع بخبر سيبويه البلاد شيخنا يحظيه بن عبد الودود هناك فيشدّ الرحل إليه، ويلقي عصا التسيار في محظرته، مقبلا على الأخذ عنه، حتى أذن له في المسير والتصدر للتدريس.
حدثني الثقة عن سيدي أحمد بن داهي، وكان من ملازمي المرابط محمد الأمين، أن مدة مكث المرابط مع العلامة يحظيه كانت سبع سنين، وكان أخوه الدَّح يزوره خلالها طمعا في أن يعود معه ولا يحدث ذلك. وفي بعض زياراته تلك، وبعد أن جلس أيام الزيارة، مر على الشيخ يحظيه ليوادعه، فأخذ بيده وقال: سلم لي على العزة (والدة المرابط)، وقل لها: إنني آثرت نفسي بمحمد الأمين طوال هذه الفترة، لكنه سيأتيها وقد أصبح في مرحلة علماء "مشِّ"؛ إشارة إلى أنه قد أذِن له في مغادرة المحظرة والشروع في نشر ما علِمه بين الناس.
ويذكر من عايشوا المرابط عنه الكثير من تبجيل وتقدير ذرية شيوخه، فهم مقدمون عنده في الدرس دائما. كما يذكرون عنه تقدير أحفاد شيوخ العلم والأسر العلمية ذات الفضل على أهل هذا القطر، فقد حدثني الشيخ الفاضل محمد المصطفى بن مباركو الإجيجبي أنه التمس من المرابط مرة أن يسمح له بتنظيف ثوبه، فرفض ذلك متعذرا بأنه ما كان ينبغي له أن يستخدم من له صلة بأهل الصفراء والكحلاء في مثل هذا. أما تعظيم الشرفاء وتقديرهم فله فيه القدح المعلّى، كما تطفح به أحاديث من عرفوه عن قرب.
لم يكن المرابط محمد الأمين من المتشوفين لجمع الأموال، ولا من المتسابقين إلى كسب الحظوة عند أهلها، تكرر مرات عديدة ـ كما روى العدول ـ أن يأتيه الرجل بالمال متوسلا إليه أن يقبله، فلا يزيد على أن ينادي على أحد الطلبة: افلانْ اسمعتْ ذاك، إيذانا بأن ذلك المال له.
أخذ المرابط ورد الطريقة الشاذلية عن شيخه العلامة يحظيه بن عبد الودود، فكان يعطيه لمن رغب فيه من خاصة طلبته. وكان محتاطا في شأن شيوخ آخر الزمن، يحذر منهم طلبته، خوفا عليهم أن يزيغوا، لما آنس من تصويح نبت التربية، وكثرة تسلق المدعين.
ولم يكن من المسارعين إلى الفتوى، بل كان يتحرى ويتحرز فيها، ويحيل المستفتين عما فيه نزاع إلى القضاء. من إجاباته الدقيقة، ما حدثني به الشيخ الفاضل محمد المصطفى بن مباركو الإجيجبي من أنه حين سئل عن "البف" (آلة تجعلها النساء على رؤوسهن من أجل الزينة)، أجاب: "البف قال النفراوي عنو جايز". قلت: ونص النفراوي: ("وينهى النساء عن وصل الشعر": والنهي للحرمة عند مالك، لخبر: لعن الله الواصلة والمستوصلة. وحرمة الوصل لا تتقيد بالنساء، لما فيه من تغيير خلق الله، وإنما خص النساء لأنهن اللاتي يغلب منهن ذلك: عند قصر أو عدم شعرهن يصلن شعر غيرهن بشعرهن؛ أو عند شيب شعرهن يصلن الشعر الأسود بالأبيض، ليظهر الأسود لتغر به الزوج. 
ومفهوم "وصل" أنها لو لم تصله بأن وضعته على رأسها من غير وصل لجاز، كما نص عليه القاضي عياض، لأنه حينئذ بمنزلة الخيوط الملوية كالعقوص الصوف والحرير تفعله المرأة للزينة، فلا حرج عليها في فعله، فلم يدخل في النهي ويلتحق بأنواع الزينة)اهـ.
لزم في تدريسه نهج المحاضر، فلم يبغ عنه حِولا، بل كان عاضّا عليه بالنواجذ، مع سعي في إيصال العلم إلى كل أحدٍ، ولو تطلّب ذلك إعادة الشرح مرات عديدة لمتوسطي الفهم ومن دونهم من الطلبة.
ولا تذكر له تآليف، ورعا منه واقتداء بشيخه العلامة يحظيه وشيخ شيخه العلامة أحمد بن محمد سالم، فلا يذكر لأي من هؤلاء تصنيف، وإنما كان جهدهم منصبا على نشر العلم عن طريق التلقين.
قال العلامة ممو في شيخه العلامة يحظيه:
ولم يؤلف لازدحام المدرسه == عليه كل نفس تنفسه
في كل يوم يحدق الطلاب == به فيبدو العجب العجاب
... الخ
ويرى الشيخ محمد يحيى بن سيدي أحمد في تعليقه على هذه الأبيات، أن عدم تصنيف الشيخ يحظيه ربما يكون "من باب التأثر بشيخه أحمد الذي لم يصنف هو الآخر"، منبها إلى أنهما ربما تركا التصنيف "اكتفاء بنشر العلم تلقينا، أو من باب التواضع ونكران الذات، أو لعدم هواية التصنيف". ولا يخفى أن ما يتصور جريانه عليهم يمكن أن يجري على المرابط محمد الأمين.
يقول العلامة المختار بن حامد في غلاويته التي يمدح بها المرابط محمد الأمين، وهي مصداق ما ورد في ثنايا هذه الترجمة من خصال المرابط:
عصيت اللواتي في الهوى جئن نصحا == وقلت لعذالي لحا الله من لحا
ولجّ فؤادي في الهوى متماديا == وظل وأمسى في الغرام وأصبحا
فأكدت لواحي اللوا ضل كيدها == وقد كدن بين العود يدخلن واللحا
فأقصرن مني عن صريع صبابة == أخي كبد حرى وقلب تقرحا
أطاشت سهام البيض أعشار قلبه == فغادرنه أو كدن قيسا ملوحا
سلا وصحا أهل الصبابة والهوى == سواه ولما يسْل هو ولا صحا
فدع ذا وعد المدح في الحبر إنه == جدير بأن يثنى عليه ويمدحا
على أنه تمسي القرائح عن مدى == مدائحه حسرى لواغب رزّحا
أما والليالي العشر والشفع والضحى == ومن صام للمولى وصلى وسبحا
لقد فاز هذا القطر بابن سد احمد == سليل البشير الحبر فوزا وأفلحا
على حين ليل الجهل أظلم والهوى == وروض الهدى والعلم والبر صوحا
فأما الهدى والعلم فاخضل روضه == وأما ظلام الجهل فانزاح وانتحى
غدا يشرح العلم الصحيح ولم تكن == علوم الهدى لولاه يوما لتشرحا
يدرّس ما قد كان درّس مالك == ويحيي الذي أحيا ويمحو الذي محا
فتبصر نورا من ثناياه خارجا == إذا ما ضحى للدرس في رونق الضحى
أيا من بك المنان قد رأب الثأى == ويا من بك الله المفاسد أصلحا
تبجح هذا القطر منذ حللته == وحق له والله أن يتبجحا
ليهنأك أنْك اليوم قطب رحى الهدى == تدور بك الطلاب كالقطب للرحى
وكنت بحمد الله فينا محمدا == أمينا بتقصار الكمال موشحا
ومدائح المرابط محمد الأمين غير هذه ومراثيه كثيرة، وخصاله ونوادره متعددة، تستحق أن تتدارك قبل أن يترجل عنا من صحبوه وخالطوه من تلامذته وغيرهم.

تصفح أيضا...