أناقة العلماء.. أبو حنيفة يرتدي ثوبا بـ5000 دولار وتركة مالك تتضمن 500 زوج حذاء و100 عمامة

ثلاثاء, 21/04/2020 - 13:13

دوّن المؤرخون تراجمَ العلماء ومناقبَهم وأذواقهم؛ فذكروا لنا ما كان يفضله كبار الأئمة والفقهاء من الألبسة والألوان والمآكل والمشارب والأثاث والمراكب، ونقلوا مذاهب العلماء في "الأناقة" واختياراتهم في شتى المقتنيات المادية، بالدقة نفسها التي ذكروا بها أقوالهم في الدين والفقه والآداب.

وفي الحقيقة؛ فإن ما جاء في آداب اللباس والتأنق والتمتع بعموم الطيبات في الإسلام عند هؤلاء الأئمة لم يخرج عن الروح العام للتشريع الإسلامي، الذي يرجّح أن الأصل في الأشياء الإباحة وأن الممنوعات استثناء، وهذا ما يلخصه القول المأثور عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس (ت 68هـ) الذي رواه ابن أبي شيبة (ت 235هـ) في ‘المصنَّف‘: "كُلْ ما شئتَ والْبَسْ ما شئتَ ما أخطأتْك خصلتان: سَرَفٌ ومَخِيلَةٌ (= خيلاء)".

وهذا التوجه للأخذ بأسباب التزين والتأنق إنما يعكس عدة حقائق؛ في مقدمتها التوازن الكبير الذي أقامه الإسلام بين المادة والروح، والوقوف على أسباب الحياة والتعامل مع الأنصبة من سعة الرزق وضيقه بمنطق التحدث بالنعم وإظهارها، دون إسراف ولا مباهاة.

وهكذا؛ لم تكن رثاثة الملبس أو إهمال الاعتناء بالشكل والمسكن من الطقوس التي يحبّها الإسلام، وهو الذي دعا إلى الأخذ بالنصيب الدنيوي وفق ما قسَم الله تعالى، بعكس ديانات أخرى. وهو ما نسعى للوقوف على كثير من تفاصيل تطبيقاته المثيرة في هذا المقال، عبر جولة في جوانب من الحياة الخاصة لأئمة المذاهب الفقهية المتبوعة.

اقتداء نبوي
جاء في ‘التفسير الكبير‘ للفخر الرازي (ت 606هـ) أن الزينة المأمور -في سورة الأعراف- باتخاذها عند المساجد تشمل "جميع أنواع الزينة، فيدخل تحت الزينة جميع أنواع التزيين، ويدخل تحتها تنظيف البدن من جميع الوجوه، ويدخل تحتها المركوب، ويدخل تحتها أيضا أنواع الحلي؛ لأن كل ذلك زينة. ولولا النص الوارد في تحريم الذهب والفضة والإبْريسَم (= أجود الحرير) على الرجال لكان ذلك داخلا تحت هذا العموم".

وقبل أن نتوقف مع "أناقة" أئمة المذاهب الفقهية المتبوعة؛ يحسُن أن نعرّج قليلا على بعض مظاهر تطبيقاتها لدى الصحابة والتابعين؛ فقد كان اهتمام كتاب التراجم بمقتنياتهم الشخصية -وكذلك نظائرها لدى العلماء من بعدهم- فرعا عن اهتمامهم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ومختلف مقتنياته الشريفة من ثياب ومسكن وخواتم وسلاح ونعل وخُفّ ومُكْحُلَة ومرآة؛ ففي الجزء الأول من ‘الطبقات الكبرى‘ لابن سعد (ت 230هـ) نجد تفصيلا وافيا لكل ذلك، وكذلك في كتب السيرة النبوية الأخرى.

ولئن كان غلب على الصحابة الزهد في الدنيا فإنه قد عُرف عن بعضهم اعتناءٌ بالأناقة، وأحصِيت أثواب بعضهم ولا سيما الخلفاء الراشدين. وقد نقل ابن سعد ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف (ت 32هـ) -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة- في لبس الحرير بسبب "شَرًى (= بُثُور جلدية) كان به"، وروى عن الحسن البصري (ت 110هـ) أن المسلمين "كانوا يلبسون الحرير في الحرب"، بالعلة التي أجاز بها الشرع مِشية الخيلاء في الحرب وهي إظهار القوة للأعداء.

وجاء أن سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ) كان يخضب بالسواد ويلبس "الخَزَّ" (= نوع من حرير) ويتختَّم بالذهب، و"كان طلحة بن عُبيد الله (ت 36هـ) يلبس المعصفَرات" أي الثياب المصبوغة بلون نبات العُصْفُر، وقد "قـُتل يومَ الجمل وعليه خاتم من ذهب.. فيه ياقوتة حمراء"؛ وسعد وطلحة كلاهما من العشرة المبشرين بالجنة. وقد رُئِي على "عمران بن حصين (ت 52هـ) مُطْرَف خَزّ"، والمطرف الرداء المربَّع. ولم يقتصر لباس الخز على أغنياء الصحابة بل رُوي أن أبا هريرة (ت 59هـ) "كان يلبس الخز"؛ كما في ‘الطبقات الكبرى‘.

نهج تابعي
وفي عهد التابعين؛ نجد أن سيدهم سعيد بن المسيِّب (ت 94هـ) -وهو أحد فقهاء المدينة النبوية السبعة الكبار- كان "يلبس ملاءً شرقية"، ويعتمّ "في الفطر والأضحى عمامة سوداء، ويلبس عليها بُرْنُسًا (= غطاء للرأس) أحمر أرجوانا"، كما ارتدى "البرود الغالية البيض" و"الخز"، و"طيلسانا (= رداء للكتفين والرأس) أزراره ديباج"، وكان "لا يُحفي شاربَه جدًّا، يأخذ منه أخذا حسنا".

وهذا صنوه عروة بن الزبير (ت 94هـ) -وهو أيضا من الفقهاء السبعة- كان مثل سعيد في تخفيف شاربه وعدم إحفائه، و"كان يغتسل كل يوم مرة"، و"يلبس رداء مُعَصْفَراً" و"كساء خز"، وارتدى "الطيلسان المزرَّر بالديباج فيه [صُوَرُ] وجوه الرجال". ولبس "في الحر قَباءَ (= قفطان) سُنْدُسٍ مبطنا بحرير" و"كان يصلي في قميص ومِلحفة مشتملا بها على القميص".

ويبدو أن أغلب الفقهاء السبعة كان يرى أن إحفاء الشارب مُثْلَةٌ؛ فهذا القاسم بن محمد بن أبي بكر (ت 107هـ) كان مثل سابقيْه "لا يُحفي شاربه"، ورأوا "عليه جُبّة خز وكساء خز وعمامة خز"، وكانت له "قلنسوة من خز أخضر، ورداء سابري (= رقيق جيد) له عَلَم ملوَّن مصبوغ بشيء من زعفران"، وكان "يخضب رأسه ولحيته بالحناء".

ومن طريف اعتناء علماء الإسلام -في الصدر الأول- بالأناقة وحثهم عليها أنهم ربطوها بمقتضيات الرقي الإنساني المعبَّر عنه في عصرهم بـ"المروءة"، وقرنوها بزيادة الذكاء وطرد الهموم؛ فقد روى ابن مفلح الحنبلي -في ‘الآداب الشرعية‘- عن الصحابي عبد الله بن عمر (ت 73هـ) أنه قال: "من مروءة الرجل نقاءُ ثوبه". ويرى الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ) -فيما يحكيه عنه القاضي عياض (544هـ) في ‘ترتيب المدارك‘- أن "نقاء الثوب وحسن الهيئة وإظهار المروءة جزء من بضع وأربعين جزءا من النبوة".

وفي علاقة الأناقة بزيادة الذكاء والراحة النفسية؛ يروي إسماعيل المُزَني (ت 264هـ) أنه سمع شيخه الإمام "الشافعي (ت 204هـ) يقول من نظّف ثوبه قلّ همُّه، ومن طاب ريحه زاد عقله"؛ حسبما يحكيه عنه ابن الجوزي في ‘صفة الصفوة‘. ويقاوم الإمام مالك -كما ورد عند عياض في ‘ترتيب المدارك‘- دعوات الزهد المظهري فيعلن أن "التواضع في التقى والدين وليس في اللباس"، بل رُوي عنه اعتبار الأناقة علما، فقد قال أبو قرة سمعت مالكاً يقول: "تعلموا من العلم حتى لبس النعل"!

تأريخ للموضة
من لطيف اهتمام مؤرخي الإسلام بالأناقة أنهم رصدوا بدقة تواريخ بدء استعمال بعض الأزياء وأول من سنّ "موضتها" في الجزيرة العربية والأمصار الإسلامية؛ فابن قتيبة الدينوري (ت 276هـ) يذكر -في ‘المعارف‘- أن "أول من لبس طيلسانا بالمدينة جبير بن مطعم (ت 59هـ)، وأوّل من لبس الخِفَاف الساذجة (= غير ملونة ولا مزينة) بالبصرة وثياب الكتان زياد بن أبي سفيان (ت 53هـ)، وأوّل من لبس الخَزَّ.. من العرب عبد الله بن عامر (ت 57هـ)، وأوّل من لبس الدّراريع السُّود المختار بن أبي عبيد" الثقفي (ت 67هـ).

ومِن رصْدهم لبدء تاريخ ارتداء بعض الأثواب قول الإمام السيوطي (ت 911هـ) -في ‘الحاوي للفتاوي‘- معلقا على قِصَرِ قلنسوة الصحابي أنس بن مالك (ت 93هـ): "وإنما حدثت القلانس الطوال في أيام الخليفة المنصور في سنة ثلاث وخمسين ومئة أو نحوها. وفي ذلك يقول الشاعر:
وكنا نرجِّي من إمام زيادة ** فزاد الإمام المصطفى في القلانس".

كما نقل لنا ابن خلّكان (ت 681هـ) -في ‘وفيات الأعيان‘- ضمن أوّليّات القاضي أبي يوسف (ت 180هـ) أنه "أول من دُعي بـ‘قاضي القضاة‘، ويقال إنه أول من غيّر لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها في هذا الزمان، وكان ملبوس الناس قبل ذلك شيئاً واحداً، لا يتميز أحد عن أحد بلباسه".

وكان هذا اللباس -الذي صار زيًّا رسميا للعلماء منذ أيام أبي يوسف- يتكون من طيلسان ومُبَطَّنة (= ثوب مغلف من داخله)، بدليل القصة الطريفة التي رواها أبو الفرج الأصفهاني (ت 356هـ) في ‘الأغاني‘؛ قال: "كان إسحق الموصليّ (ت 235هـ) يدخل في مبطّنة وطيلسان مثل زيّ الفقهاء على المأمون؛ فسأله أن يأذن له في دخول المقصورة (= مكان بمقدمة المسجد مخصص للخليفة وحاشيته) يوم الجمعة بدرّاعة سوداء وطيلسان أسود؛ فتبسّم المأمون وقال له: ولا كلّ هذا بمرّة يا إسحق! ولكن قد اشترينا منك هذه المسألة (= الطلب) بمئة ألف درهم حتى لا تغتمّ، وأمر بحملها إليه فحُمِلت".

وعلينا ألا نستغرب لبس الموصلي لزي الفقهاء؛ فقد وصفه الذهبي (ت 748هـ) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- بأنه "الإمام العلامة الحافظ.. صاحب الموسيقى". وقد استحسن السيوطي -في ‘الحاوي‘ أثناء نقاشه لجواز تخصيص الأشراف بالعمامة الخضراء- استدلالَ بعض العلماء بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} على "تخصيص أهل العلم بلباس يختصون به من تطويل الأكمام وإدارة الطيلسان ونحو ذلك؛ ليُعرَفوا فيُجَلّوا تكريما للعلم، وهذا وجه حسن".

ويرى نجم الدين الغزي (ت 1061هـ) -في ‘حسن التنبُّه لما ورد في التشبه‘- أن من أمارات حمق المرء خروجه "كل ساعة في طور غير الطور المتقدم من حيث الأخلاق، أو من حيث الحركة، أو من حيث الزي؛ فتارة يلبس لباس الأجناد، وتارة لباس الفتيان (= جماعات الفتوة)، وتارة لباس الفقهاء، وتارة يتكلم بالشيء ويناقضه في المجلس، ويقوم ويقعد في المجلس كثيراً، ويخرج منه ويعود كثيراً، إلى غير ذلك من الاختلافات والتطورات".

مجاراة ذوقية
لم تتطرق التراجم السنية والشيعية -في حدود بحثنا واطلاعنا- لما يتعلق بأناقة وملابس الإمام زيد بن علي زين العابدين (ت 120هـ)؛ حتى إن أبا القاسم عبد العزيز بن إسحق البغدادي (ت 363هـ) لم يتطرق لذلك في كتابه ‘مختصر مناقب الإمام زيد‘، وإنما اقتصر على ذكر صفاته، وركز على جهاده وزهده وورعه.

وجاء في مختصره من صفته أنه كان "مُبدَّنا وسيما جسيما، وكان من أجمل بني هاشم جمالا، وأعظمهم نبلا وكمالا، وأفصحهم لسانا، وأوضحهم بيانا، وأثبتهم جنانا، وأشدهم أركانا، واسع العلم، عظيم الحلم، تجاوز أهل عصره في الزهد والسماحة بالرقة، ولا يمنّ بجوده، ولا يخلف وعده".

وفي ‘الطبقات الكبرى‘ لابن سعد أن الإمام زيدا حين غاضب بني أمية "خرج من عند هشام وهو يأخذ شاربه بيده ويفتله ويقول: ما أحب الحياة أحد قطّ إلا ذلّ"! وفتـْـلُ الشارب يدل على أنه كان على مذهب أهل المدينة في عدم جواز استئصاله، وهذه الخرجة هي التي استُشهد فيها وصُلب، ولم يطل عمره فقد عاش اثنين وأربعين عاما، ولم يكن حينها تبلور مذهبه ولا كثر أتباعه، ولعل ذلك هو السبب في عدم حفظ كثير من مناقبه وملابسه ومقتنياته.

أما الإمام جعفر الصادق (ت 148هـ) فقد نقلت لنا المراجع السنية والجعفرية نُتَفًا تتعلق بأناقته وآرائه فيها؛ فقد أورد أبو نعيم الأصفهاني (ت 430هـ) -في ‘حلية الأولياء‘- عن سفيان الثوري (ت 161هـ) أنه قال: "دخلت على جعفر بن محمد (= جعفر الصادق) وعليه جبة خز دكناء، وكساء خز إيرجاني، فجعلتُ أنظر إليه معجَباً، فقال لي: يا ثوري ما لك تنظر إلينا؟ لعلك تَعْجب مما رأيتَ؟ قال: قلت: يا ابن رسول الله ليس هذا من لباسك ولا لباس آبائك، فقال لي: يا ثوري، كان ذلك زمانا مُقْفِراً مُقْتِراً، وكانوا يعملون على قدر إقفاره وإقتاره، وهذا زمان قد أقبلَ كلُّ شيءٍ فيه عِزٌّ إليه، ثم حسر عن ردن جبته، وإذا تحتها جبة صوف بيضاء يقصر الذيل عن الذيل، والردن عن الردن، فقال لي: يا ثوري لبسنا هذا لله، وهذا لكم، فما كان لله أخفيناه، وما كان لكم أبديناه"!

وجاء في ’الكافي’ للكُلَيني (ت 329هـ) أن جعفر الصادق قال لعُبيد بن زياد: "إظهار النعمة أحب إلى الله من صيانتها، فإياك أن تتزين إلا في أحسن زي قومك، قال: فما رُئِي عُبيد إلا في أحسن زي قومه حتى مات". وفيه -بعد أن ذكر ما كان الإمام علي يعتاد لباسه- أنه لبس يوما لباسا غيره، ثم قال: "هذا اللباس الذي ينبغي أن تلبسوه، ولكن لا نقدر أن نلبس هذا اليوم، لو فعلنا لقالوا: مجنون! أو لقالوا: مُراءٍ! فإذا قام قائمنا كان هذا اللباس".

 

الجزيرة نت

تصفح أيضا...