الرئيس يتعلم مبادئ الإنجليزية /مذكرات المختار ولد داداه رحمه الله

أحد, 17/11/2019 - 10:00

  بدأت تعلم اللغة الإنجليزية خلال مقامي في البير بين عامي 1943 و1946. وهنا يمكن التساؤل عن الرغبة القوية المفاجئة التي انتابتني من أجل تعلم لغة شكسبير؟ لقد كان من حسن الطالع أنني أمتلك جهازاً إذاعياً يعمل بالبطارية يسمح لي بمتابعة أخبار الحرب يومياً، تلك الأخبار التي تهمني بصورة خاصة. وقد أهدى إلي هذا الجهاز صديق تاجر من أطار هو أحمد سالك ولد بيروك الذي ينتمي إلى أسرة الزعامة في اكَليمين. فقد كان ينزل عندي دوماً أثناء أسفاره المتكررة بين أطار واكليمين ذهاباً وإياباً. ولم يكن في أي مرة من المرات يسافر بمفرده... ونظراً إلى أن تقاليد ضيافتنا تحظر عليه أن يدفع إلي مقابل الضيافة عروضاً أو نقوداً، كما تمنعني من قبول ذلك، فقد أراد، كما قال، أن يهدي إلي «جهازاً لا يمتلكه أي مواطن في موريتانيا آنذاك!». وكانت هذه الهدية التي لا تقارن بسواها، قد جُلبت من المغرب. وكنت أشحن البطارية بانتظام من المولد الكهربائي في الحامية لتشغيل هذا الجهاز. ومن حسن الحظ أن المسؤولين الذين تعاقبوا على الحامية كانوا ظرفاء جميعهم. وكان هذا بالفعل أول جهاز إذاعي يمتلكه موريتاني يعيش داخل البلاد. وليس المقام هنا مقام سرد للنوادر والحكايات الغريبة المتعلقة بهذا «الصندوق الناطق بالفرنسية والعربية ولغات أخرى، بل إنه يحفظ القرآن!». وبفضل حفظه للقرآن لا يمكن أن يوصف بأنه شيطاني. لقد حيّر الصندوق الناطق أكثر من واحد وجذب الرائي والمستمع على وجه الخصوص، وظل حديث الناس في الشمال الموريتاني وفي منطقة بوتلميت بل وربما في بقية البلاد.
وكنت فخوراً بامتلاك تحفة كهذه نظراً للأهمية الأكيدة التي وفرتها لي تلك الحيازة. فقد أصبحت مصدراً للمعلومات المتعلقة بمختلف جبهات الحرب، ذلك المصدر الذي شكل مرجعا حتى بالنسبة للنصارى. وهكذا كان العسكريون الفرنسيون في المركز يسألونني من حين لآخر عن آخر أخبار مسرح العمليات هنا وهناك. وكنت أستمع، كلما أمكن، إلى إذاعة «بى. بى. سى» الفرنسية والعربية. وكان شغفي القوي بأخبار الحرب مدعاة إلى اهتمامي بالاستماع إلى أنبائها بالإنجليزية. فقد استشعرت بطريقة ما الأهمية المتنامية لهذه اللغة في الحياة العالمية بعد الحرب، وهي الأهمية التي استقتها من الدور الحاسم للولايات المتحدة الأميركية في قيادة الحرب ضد قوى المحور.
وعكساً لذلك، لم أكن أفكر إطلاقاً أن هذه اللغة قد تصبح ضرورية لي من أجل إجراء امتحان الباكلوريا، ذلك أن فكرة إجراء هذا الامتحان في يوم من الأيام لم تخطر على بالى آنذاك. فهو إمكان لم أكن أفكر فيه إذن. وبكل تأكيد فقد حدثونى في مدرسة بلانشو عن هذه الشهادة التي تحضر في ثانوية فيديرب بسان لويس. ولكن ما وقر في ذهني هو أن الأمر يتعلق بشهادة تقتصر كلياً على التلاميذ الفرنسيين وبعض التلاميذ السينغاليين المماثلين للفرنسيين.
ومهما يكن فإن رغبتي في تعلم الإنجليزية لم يكن ليكتب لها الخروج عن طور الأمنية لولا أن ضابطاً جديداً حوّل إلى «فور ترينكى» (البير) هو الملازم الأول بسلاي Beslay. فقد أصبح هذا الضابط الشاب صديقاً لي، وكان ثانى مسؤول أعمل تحت إمرته في البير. ولم تكن لدى هذا الضابط عقلية استعمارية، فقد كان متفتح الذهن جاداً في الاتصال بالموريتانيين لدرجة أنه بدأ فور وصوله تعلم لغتنا. وقد تميز بحب الاطلاع السليم والعفوية، وتطلع منذ اللحظة الأولى إلى معرفة بلدنا وشعبنا، وهكذا عشت معه كما يحلو لي.
وفي يوم من الأيام، عندما كنا نتحدث عن دراسة اللغات، ذكر لي أنه يعرف الإنجليزية. وعندها أعلنت له عن رغبتي في تعلم تلك اللغة، وهي رغبة قد تبدو غريبة. وعلى الفور شجعني واقترح علي، زيادةً على ذلك، تقديم مبادئ لدراستها، وأمدّني بكتاب «طريقة الاستيعاب» وأبدى أسفه على عدم إحضار الأشرطة المطابقة، ولو أحضرها لما أفادتني نظراً لعدم اقتنائي جهازاً حاكياً. كما زودني بعنوان القسم المحلي للمدرسة العالمية في الجزائر العاصمة التي سجلت فيها عن طريق المراسلة. وفوق هذا وذاك، تلقيت منه دروساً في الإنجليزية. وقد تلقى مني بدوره دروساً في الحسانية. وهكذا دشنا، دون أن نعلم، شكلا من أشكال التعاون الثقافي قبل أن يوجد بين بلدينا.
وخلال مقامي في البير، حصلت على شهادتين في الإنجليزية عن طريق المراسلة، هما شهادة المستوى الأول والمستوى الثاني. ولا يعلم مصير هاتين الشهادتين إلا الله وحده. وكنت فخوراً بعرضهما على أصدقائي الموريتانيين الذين انبهروا بسهولة خاصة وأنهم لا يستطيعون تحديد مستواي، وهو في الحقيقة ضعيف.
ومع ذلك فقد كانت المعلومات الأولية في الإنجليزية التي حصلت عليها بالمراسلة وبمساعدة الملازم الأول «بسلاي» ذات فائدة أساسية جنيت ثمارها بعد سنوات عندما كنت أحضّر الباكلوريا. فبفضلها تمكنت من الشروع في دراسة الإنجليزية بالمرحلة الثانوية.

المختار ولد داداه، «موريتانيا على درب التحديات»

تصفح أيضا...