لأجل بناء فعالية دبلوماسية جديدة  / السعد بن عبدالله بن بيه _ مثقف و دبلوماسي

جمعة, 08/11/2019 - 10:30

خلال جلسته المنعقدة بالأمس ناقش مجلس الوزراء الموقر؛ بيانا حول الخطوط العريضة لخطة عمل تستهدف تجسيد رؤية رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ القزواني، للدبلوماسية الموريتانية.
ومما لا شك فيه أن هذا البيان هو وعي بلحظتين هامتين :
الأولى ؛ لحظة التحول الذي دخلته بلادنا بناء على التداول السلمي للسلطة ، مما يحتم مراجعة وتحيين الرؤية والأهداف والوسائل والأداء.
الثانية؛ أهمية أن تهب ريح التطوير الإيجابي على جهاز الدبلوماسية الموريتانية .
وهذا التجاوب الهام مع استحقاق اللحظة يتوقع منه المحافظة على بعض التغيرات الايجابية  والدينامية التي طرأت على الدبلوماسية في التوجهات والمواقف ، والتي من بينها : اكتتاب ورفد الجسم الدبلوماسي بطاقات مهنية وأكاديمية هامة، الولوج إلى المواقع والوظائف في المنظمات الدولية، بناء وتملك بعض مقرات البعثات ، وتسجيل مواقف هامة تجب صيانتها والبناء عليها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الموريتانية تجاه مكافحة الإرهاب ودعم القضية الفلسطينية وتوثيق عرى الصداقة مع دول الخليج العربي...الخ .
غير أن التحدي الحقيقي يتعلق بالإضافة، وخاصة على مستوى الرؤية والهيكلة والفعالية ، بحيث نخرج دبلوماسيتنا من طور الارتجال الى طور التخطيط ومن النجاح الجزئي إلى روح العمل المؤسسي ومن محدوية التحرك( دافعا وهدفا) إلى شمولية الفعل واستراتيجيته، وتطوير وامداد العمل بالوسائل والامكانات.
هذا البيان الهام المعلن عنه، وفي هذه الظرفية الخاصة ، هو ما جعلني أفكر في أهمية تقديم وجهة نظر موازية، تتفاعل مع ما يطرح رسميا ، وتتحد من حيث الهدف ، وهو تفعيل دبلوماسيتنا الوطنية ، وكذا نجاح برنامج الرئيس الذي انتخبناه قناعة بأهمية أفكاره وأسلوبه في العمل.
بادئ ذي بدء نشير إلى أنه تقليديا تتنازع الدبلوماسية في العالم الثالث - وحتى الأول-  كإحدى أهم الأدوات التنفيذية للسياسة الخارجية نزعتان .
تنحو الأولى نحو " شخصنة" الفعل الدبلوماسي ؛ وتغامر الثانية نحو هيكلته ومأسسته ، باعتباره فعلا مؤسسيا يتجاوز الفرد ، لتعبيره عن دولة وثقافة مجتمع ومصالح شعب.
- في المنظور الأول يتبادر للذهن أن الفعل الدبلوماسي لا يعدو كونه ترجمة أمينة لرؤية صانع القرار ومتخذه وتحديدا "الرئيس" وخاصة في الأنظمة الدستورية التي تهيمن في هندستها السياسية "مؤسسة الرئاسة" على باقي المؤسسات الدستورية؛ كما هو في بعض بلدان العالم من بينها فرنسا والمغرب وموريتانيا ، بحيث تظل السياسة الخارجية " مجالا محفوظا" للرئاسة.
بل إن كثيرا من الدراسات الناقدة والمحللة تغالي - أحيانا-اتجاه بناء نزعة تصم الدبلوماسية وتحصرها في مجرد سلوك، لا يعبر بالضرورة عن رؤى مُفكر بها أونتاج إدراكات منبثقة عن الواقع المحيط بهذه الوحدة أو تلك من الدول ، وإنما مجرد تجليات لانفعالات لصيقة بنفسية الأشخاص المسؤولين ( تصورا- وتنفيذا) عن هذه الدبلوماسية.
وهذا المسلك من النظر والتحليل طالما حشد أدلة غير قليلة، على موضوعية تغليب النزعة الشخصية في الممارسة الدبلوماسية، مع يعنيه ذلك من الارتجال ووضع المصلحة العامة للدولة،تحت رحمة عقلانية وموهبة الدبلوماسي الأول من عدمها.
- المنظور الثاني ، لا يرفض الاعتراف بالبعد الأول في حدود معينة ، وإنما يحاول أو يعمل على تجاوزه  واحتواءه- إن أمكن- مقترحا قراءة ترى بأهمية تحديد موجهات عامة ومحددات مضبوطة ، تحكم الفعل الدبلوماسي ، بناء على أنساق اكثر ديمومة واستمرارية ، من النظام السياسي نفسه ، وهي نظرة يجب التعاطي معها -في تقديري -بحذر حيث تَبني واقعيتها في محاولة فهم العالم، على مثالية تفصل ولو نظريا بين الدولة كفكرة وكيان وبين نظامها السياسي، هذا التجلي العقلاني ،يتخذ من القراءة القانونية لموقع الرئاسة بغض النظر عن من يملأ الكرسي ، دون أن ينظر إلى ماخلف البنى القانونية والتي لا تعبر ربما عن حقيقة ومَعْقَد القرار، ويقترح أن الحقائق الجيوبولوتكية وسَنَن التدافع المصالحي ، هي من يجب أن تحكم منطق الفعل الدبلوماسي،وليس العكس.
ولربما يقترح مدخلا يوزع سلطة صناعة القرار، داخل مكونات النظام السياسي  ، مع ضرورة التسليم بأحادية إتخاذ القرار ، والتي هي هامة جدا لتحديد المسؤوليات .
إذا خرجنا من هذا المدخل النظري الذي حاول تلخيص عديد من النظريات المتداخلة في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية والقانون الدستوري، فإن الحالة الموريتانية لدينا لا يوجد بها إشكال كبير، حول معرفة من يحدد الإطار ويرسم السياسة وينفذ المهام والخطة - أشار معالي وزير الشؤون الخارجية في شرحه للبيان للمادة 30- فالدستور الموريتاني حاسم ،من حيث تحديد أن رئيس الجمهورية هو من يحدد السياسة الخارجية للبلد، وهو من يعين أشخاصها وهو من يقوم بأعبائها ( إدراكا ودورا) وكذلك القانون المنظم لوزراة الشؤون الخارجية وأداتها الدبلوماسية ، والتي تحدد الدور التنفيذي للوزير والإدارات المركزية والسفارات، كأجهزية تنفيذية ومساعدة في تنفيذ رؤية الرئيس، ففي الواقع والممارسة الإجابة على من يرسم وينفذ الرؤية الخارجية للبلد، واضحة ومحددة وجامدة نصا .
لكن هذا الجمود لا يجب لأسباب واقعية وموضوعية، أن يكون حاجزا في الاجتهاد لبناء مرونة وفعالية جديدة تحتاجها دبلوماسيتنا الفتية .
 فإذا أعملنا النظر وكنا أكثر تبصرا بالتحديات، التي تطرحها الأوضاع المحيطة، والمتغيرات المستجدة ، لأدركنا حقيقة أن الدبلوماسية اليوم متسعة الأرجاء فسيحة الأركان، للتداخل غير المسبوق بين فكرة الداخل والخارج ، وسيلان تدفق المعلومات، وتعدد وتنوع وتعقد وتجدد القضايا الدبلوماسية، التي خرجت من مجال المصالح "التقليدية" السياسية والتجارية والاقتصادية، إلى مجالات كانت أكثر محلية ومحدودية كالرياضة والثقافة والسياحة، إلى جوانب ومجالات أكثر غموضا وتعقيدا و"طرافة" تتعلق بالحقوق والحريات والأديان وحتى العلم .
 هذا فضلا عن طفرة المتدخلين، حيث أصبحت بعض المنظمات المحلية وحتى الأشخاص الطبيعيين،يشاركون في التأثير على الأجندات الرسمية للدول والمنظمات.
هذا التحول في المفهوم يجعلنا بحاجة ماسة لإطلاق دينامية تفكير جديدة، من لدن المعنيين تروم إعادة تعريف المصالح الموريتانية، وكذا تعريف مهمات ووسائل القطاع الخارجي، وإعادة تنظيمه وتعبئة شخوص هذه الدبلوماسية وخاصة معالجة :
مدى محدودية أدوار الوزارة وأذرعتها السفارات؛ لتتحول الوزارة إلى مكينة ومختبر حقيقي لانتاج الرؤية والسياسة وتنفيذها وبناء فعالية تواصل جديدة تحتاجها.
والسفارات من حراسة الشغور والفراغ لمجرد تسجيل واقعة العلاقة ، إلى فعالية الحضور ذات المردودية  جلبا للمصالح ودرءا للمخاطر (تمثيلا، أداء، اقتراحا)، ولا شك أن هذه الدينامية والفعالية، تظل محكومة بضابط التوجيهات والقوانين الدولية والمضيفة ، لكي لا يتشتت الجهد والإيقاع العام لسياسة خارجية متكاملة الرؤى والمسلكيات.             
إن الأوضاع المؤثثة للفعل الدبلوماسي الموريتاني داخليا وخارجيا ، تدفع بنا موضوعيا للتفكير حول تصور مؤسساتي متكامل، يؤدي دورا حقيقيا في ترجمة المبادئ العامة للسياسة الخارجية الموريتانية، التي عبر عنها فخامة الرئيس في تعهداته الانتخابية :
 ١/ حفظ الحوزة الترابية،
٢/ تطوير وتنظيم وزيادة كفاءة المرفق الدبلوماسي ، ورفده بما يحتاجه من الوسائل والامكانات ( المعنوية والمادية والبشرية)
٣/ إعادة تعريف أهداف ومصالح العمل الخارجي .
٤/ ترسيخ وتثمين سياسة حسن الجوار
٥/ الوفاء لمبدأ حفظ وصيانة السلم والأمن الدوليين.
٦/ احترام المواثيق والمعاهدات التي وقعت عليها الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
٧/ الانخراط الفعال في العمل المنظماتي وقضايا التنمية في العالم 
...الخ 
 
وهي مبادئ وتوجهات العمل من أجلها يتحرك في بيئة ملغومة نلخص أبرز تحدياتها في :
أولا :التحديات الأمنية المتربصة بكيان الدول والمجتمعات في هذا الحيز من العالم، والذي جعل من منطقة الساحل "خزانا للشرور"، تفقد فيه بعض الدول جزءا من سيادتها، بسبب انفلات مجموعات الإرهاب والتطرف، وانتشار الأسلحة وتجارتها والمخدرات ومروجيها ، وهو تحد مرشح لمزيد من التفاعل والاستمرارية للأسف الشديد.
ثانيا: تحديات عدم الاستقرار السياسي؛ ومحرضاتها من انتشار الفقر وتراجع الثقافة الدينية الصحيحة، وهو وضع وجد ترجمته في هشاشة بعض الأنظمة الحاكمة في الجوار الموريتاني، وتعثر التحول الديمقراطي ، وتراجع الأوضاع المعيشية للسكان ، وتخلف البنى الاقتصادية، وانسداد الأفق أمام أعداد هائلة من الشباب جعلهم عرضة لكل المخاطر المتصورة.
ثالثا: التعامل مع احتياطات  الطاقة المكتشفة استغلالا واستثمارا وتوزيعا...
-هذه التحديات وغيرها تجعلنا أمام تحد اقتراح حزمة من الآليات، تتشابك جهودها لبناء "فُلك" دبلوماسية موريتانية جديدة ، تحافظ على المكتسبات وتجتال الممكنات ، وهو  استحقاق ضروري وهام  ، خاصة تحت قيادة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني  ، الذي يدرك بحكم الموقع والتكوين  وبالتجربة الفعلية هذه الأوضاع ويدرك مآلاتها ومخاطرها ، فضلا عن نزوع الرجل إلى المؤسسية واحترام التخصص والمشورة والتفويض، واهتمامه المعلن والمبذول، لأهمية تدعيم الداخل وصونه من التدخلات الخارجية وتعهده بضرورة بذل الوسائل في ذلك. 
ورغم تعدد التدابير والمقترحات ( والتي أشرنا إلى طرف منها في ورقة سابقة مختصرة حول تطوير الدبلوماسية الموريتانية 2014 )   فسنكتفي بالتذكير ببعضها هنا والإضافة عليها :
أولا : إنشاء مجلس رسمي - محدود-  يضم ممثلين عن جهات رسمية وموازية مختصة؛ مثل : الرئاسة ، وزارة الشؤون الخارجية والتعاون،وزارة الدفاع الوطني ،البرلمان - لجنة الخارجية والدفاع- خبراء من ذوي المعرفة والخبرة بشؤون الخارجية ،هيئات المجتمع المدني والإعلام.
تتلخص مهمة هذا المجلس الاستشاري، حول تقديم رؤية علمية ومدروسة للعالم ( التحديات والفرص) ،وتوصيات علمية وعملية لصانع ومتخذ القرار، بناء على المصالح والأولويات الموريتانية ، ويقدم معلومات عن موريتانيا خارجيا ، ويمثل بيت خبرة لمختلف أجهزة الدولة ذات العلاقة.
ثانيا: كنت أقترحت ( 2007و 2014) معهدا لإعداد وتدريب الدبلوماسيين ، وهو إطار أكادمي وبحثي وتدريبي لاحاطة القرار والأداء الدبلوماسي بالمعرفة والخبرة، وقد سمعت أن الوزارة تبذل جهودا موفقة بهذا الصدد نرجوا لها النجاح. 
ثالثا: المؤتمر الدوري للسفراء ، يجتمع من كل سنتين على الأقل وبحسب الحاجة ، وهو آلية مهمة لتحيين جدول الأعمال الرسمي للدبلوماسية الموريتانية، بناء على التوجيهات الرئاسية وتبادل المعلومات وتقديم المقترحات والبدائل وسيكون له انعكاسه الايجابي على وتيرة العمل ومردوديته.   
رابعا: تكوين طواقم اقتصادية وفنية وادماجها في السلك الدبلوماسي لجلب الخبرات والتجارب الناجحة التي سنحتاجها وقت الوفرة.
خامسا: تكوين طواقم حقوقية تحتاجها دبلوماسيتنا على الصعد الثنائية والجماعية لرد الهجمات المعادية والكيدية، التي تستهدف استقرار بلدنا وتخطط لذلك على الأمد المنظور.
سادسا: تحسين الأوضاع المادية والظروف المعيشية، والعمل لطواقمنا الدبلوماسية، على أسس ومعايير شفافة .
وفي الأخير نتمنى النجاح لدبلوماسيتنا في أن تمثل رسولا أمينا وساعدا قويا لجلب الخير لبلدنا وحمايته بالعقل والحكمة والقوة من كيد الكائدين.

تصفح أيضا...