كيف حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟

ثلاثاء, 05/11/2019 - 13:19

"أما سؤالكم عن الزمان فإن الزمان هو الناس"؛ بتلك العبارة كتب عبد الله بن المقفع (ت 142هـ) رسالته في الإصلاح السياسي إلى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (ت 158هـ)، متحدثا عن أربعة أزمنة حضارية لن يخرج عنها مسار الدولة الإسلامية: الزمن الأول -وهو الأفضل- "ما اجتمع فيه صلاح الراعي والرعية"، ويليه في الأفضلية الزمن الثاني وهو "أن يصلح الإمام نفسه ويفسد الناس"، وبعدهما الزمان الثالث الذي يتميز بـ"صلاح الناس وفساد الوالي"، أما الزمان الرابع فإنه "شرُّ الزمان [وهو] ما اجتمع فيه فساد الوالي والرعية" معا.

ويبدو أن عددا من الفقهاء -خصوصا في العصور المتأخرة- انشغلوا بتقديم أفكار إصلاحية تقوم بالأمرين: إصلاح الراعي والرعية؛ فعبر استقراء لثلاثة كتب تمثل ركائز إصلاحية "للزمن الرابع" وظهر أصحابها في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)، سنقدم هنا بعض طرائق الإصلاح السياسي والمجتمعي التي حاول مقترحوها القيام بمهمة "إصلاح الراعي والرعية".

وهذه الكتب -وفقا لظهورها الزمني الذي امتد طوال القرن الثامن في بدايته ووسطه ونهايته- هي: كتاب ‘السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية‘ لتقي الدين ابن تيمية (ت 728هـ)، وكتاب ‘معيد النعم ومبيد النقم‘ لتاج الدين السبكي (ت 771هـ)، وكتاب ‘المقدمة‘ للمؤرخ ولي الدين ابن خلدون (ت 806هـ).

ومما يجمع المؤلفين الثلاثة بلوغهم رتبة الإمامة في العلم الشرعي، وأن كلا منهم انشغل بتلمس مشاكل المجتمع دون أن يهمل العناية بدواليب السلطة (الإفتاء والحسبة والقضاء والوزارة)، واكتوى بمحنة السجن حين اتُّهم بالمس من مصالح السلطة. كما يشتركون في أنهم كتبوا رؤاهم الإصلاحية هذه وهم في الأربعينيات من أعمارهم!

ثم إنهم ينتمون إلى مجال جغرافي واسع يمثل قلب العالم الإسلامية: الشام ومصر والغرب الإسلامي، ويمثلون المذاهب الفقهية الكبرى السائدة آنذاك في هذا الفضاء الجغرافي: الحنابلة والشافعية والمالكية، وإن تباينت اختياراتهم المنهجية في الاعتقاد والسلوك بين مذاهب أهل الحديث والأشاعرة والمتصوفة، كما تعددت مناهجهم في تصور الإصلاح المنشود بين منهج نظري اتبعه ابن تيمية، وآخر عملي انتهجه السبكي، وثالث وصفي تأملي قدمه ابن خلدون!

إن هذه المشروعات الإصلاحية الثلاثة جمعت بينها ظروف معقدة جدا صاحبت العصر المملوكي الذي عانى من اضطراب شديد، وانقسام واسع لدولة الخلافة الجامعة، وحروب طاحنة شهدت أكثر من مئة حملة عسكرية كبيرة وصغيرة، قاتل فيها مئات آلاف المحاربين، وعرفت نزاعات فرقية شديدة، وشيوع أفكار عدّها الفقهاء كاسرة للعقيدة القويمة.

مقاربة ابن تيمية
عرف السلطان الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ) بكونه أحد رواد الإصلاح المؤسسي في العصر المملوكي، وفي عهده ظهر الكثير من الدواوين والمؤسسات التعليمية والصحية. وينبهنا ابن كثير (ت 776هـ) في كتابه ‘البداية والنهاية‘ إلى أن عالما مجتهدا كبيرا ساهم في دفع قلاوون باتجاه الإصلاح وتبني بعض المواقف الأخلاقية في عصره، ويضرب مثالا على ذلك بإبطاله شراء المناصب بالرشوة (كانوا يسمونه ‘البرطلة‘) و"كان سبب ذلك الشيخ تقي الدين ابن تيمية".

يُعتقد أن ابن تيمية كتب رسالة إصلاحية مهمة لهذا السلطان لعلها كتابه المعنون بـ‘السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية‘، لما رأى أن الأوضاع في زمنه تندرج ضمن "الزمن الرابع" لدى ابن المقفع؛ فقد حاول هذا الفقيه أن يقوم بالدورين: إصلاح السلطة وتنوير المجتمع، فكتب باختصار عن فكرة وصفها بأنها "لا يستغني عنها الراعي والرعية"، معللا ذلك بأنه "لما تغير الإمام والرعية كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه".

إن فكرة هذا الكتاب ذكية جدا، وهي تنظر لكيفية تقنين وضع القوة والشجاعة المتمثلة في الطبقة الحاكمة الجديدة (المماليك)، وفي نفس الوقت يتم توجيهها نحو الإصلاح. وتحقيق الأمرين معناه القبول بالواقع المملوكي وأصحابه ذوي الأمجاد العسكرية، طالما أن هذا الواقع سيعمل على إصلاح نفسه وإصلاح المجتمع، وسيرضى بأن يكون العلماء شركاء في السلطة ما دام "أولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء".

ومن هنا نفهم سر التسمية "إصلاح الراعي والرعية" التي هي إعادة صياغة واضحة لعبارة ابن المقفع "صلاح الراعي والرعية"، فمن الخطورة الشديدة -وفقا لرؤية ابن تيمية- ترك تلك القوة الكبيرة تتفلت من قواعد الدين لأنه "إن انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس".

مبدئيا يدرك ابن تيمية أنه لا مجال للحديث في هذا الكتاب عن شرعية قرشية، أو حتى عن شرط الحرية المعتاد تأكيده في الفقه السياسي الإسلامي، كما أن الظرف لا يسمح بمناقشة مشروعية المماليك بإعادة ما فعله العز بن عبد السلام (ت 660هـ) حينما أشرف على بيع أمرائهم. فقد تخطت الظروف ذلك لأن المماليك صاروا يحكمون بشرعية انتصار "عين جالوت" العظيم عام 658هـ الذي كسر مدّ التتار الجارف، والخليفة القرشي العباسي –الذي تُشَرْعَنُ به ممارسات السلاطين- موجود في القاهرة، وهو نفسه يصف السلطان المملوكي بـ"السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين"!!

يتحدث الكتاب في الولايات ومؤسسات السلطة العامة: السلطان ونائبه (مؤسسة الرئاسة)، وإمارة الجند (مؤسسة الجيش)، والقضاء والحسبة (السلطة القضائية)، وولاية الأموال (وزارة المالية). وإذا كانت السلطة العليا نالت استثناء بحكم الأمر الواقع، فإنه يمكن قبول ذلك بشرط تبني معايير جديدة في الولايات الأقل شأنا.

ومن هنا تحدث ابن تيمية في كتابه عن نحو تسع ولايات كبرى تخص كيان الدولة، وتقريبا 17 من ولايات المجتمع، وأوجب على السلطان البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار: من الأمراء، والقضاة، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر، وولاة الأموال: من الوزراء، والكتّاب (= المحاسبون)، والشادّين (= المفتشون)، وسُعَاة (= جُباة) الخراج والصدقات.

وأن توسد أمور الولايات بعيدا عن الولاء الرحمي مثل القرابة أو "ولاء العتاقة" ويقصد به المماليك، وكذلك تجاوز الولاء القُطري والمذهبي والطُّرُقي الصوفي، وكذلك الانحياز العرقي "فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه (= مملوكه سابقا) قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه؛ فيكون قد خان أمانته".

معضلة القوة والأمانة
بنى ابن تيمية كتابه هذا على آيتين من القرآن الكريم، هما قوله تعالى: ﴿إنّ اللهَ يأمرُكم أن تؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها﴾ وهي تخص الراعي (الحاكم)، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم﴾، وهي تخص الرعية (الشعب). وحاول –بتنظير اتّسم بالواقعية الشديدة- أن يفض نزاعا كبيرا بين قيمتيْ "القوة" و"الأمانة" عبر هاتين الآيتين.

لقد كان يدرك أن اللحظة المثالية هي تلك التي تسيّر فيها الدولة بالحاكم "القوي الأمين"، ولكن "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل"، وهو إشكال يمس المشروعية السياسية داخل العصر المملوكي بالذات. فالكثير من المماليك حديث عهد بإسلام، وبعضهم مطعون فيه أخلاقيا؛ فهم قد "جمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء"، كما يصفهم تقي الدين المقريزي (ت 845هـ). وقد جيء بهم رقيقا من أصقاع الأرض، فأقاموا دولتهم بالسيوف والرماح، وأهم ما كانوا يستندون إليه هو قوتهم وبأسهم.

كان السؤال المطروح أمامه هو: أين يمكن توظيف كل قيمة في موضعها؟ فقرر أنه في ولاية الحرب وقيادة الجيوش إذا حدث تعارض بين القوي الفاجر والأمين الضعيف، فإنه يقدم "الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور"، لكن الأمر مختلف في ولايات الأموال فـ"إذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قُدِّم الأمين". وفي ولاية القضاء -وهي ولاية بينية- تحرّج ابن تيمية من أن يطبّق عليها معيار القوة، فقال إنه "يقدَّم الأكفأ إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع".

والحقيقة أن ابن تيمية يفتح الباب أمام المرونة في تطبيق تلك القيم، حيث يقول "يجب.. السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها". كما يطرح حلا إصلاحيا خلّاقا بدعوته إلى تعويض نقص القيم في الأفراد باستكمالها في المؤسسات، فإذا لم يوجد الفرد "القوي الأمين" فإنه يمكن توظيف شخصيات كل منها يجمع جانبا من هاتين القيمتين لتتحققا بـ"تعدد المُوَلَّى إذا لم تقع الكفاية بواحد تامّ".

اللافت أن ابن تيمية كان يحاول -بذكائه المعهود- توريط مؤسسة القوة بتحميلها القيام مباشرة بالواجبات الدينية لـ"إصلاح دين الخَلْق"؛ حيث ألزم مؤسسة الجيش المملوكية -وهي مؤسسة الحكم الفعلية- بأن ترعى فريضتيْ "الصلاة والجهاد"، لأنه "كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم: هم أمراء الحرب"، ورعاية الصلاة تقود إلى أمرين: صيانة ثاني أركان الدين، وفي نفس الوقت تجسيد قيمة خُلقية قد يقود التحلي بها إلى إصلاح المؤسسة نفسها "إذا أقام المتولي عمادَ الدين؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات".

وبالتالي؛ فإن ابن تيمية -في خطته النظرية لإصلاح الدولة المملوكية والمجتمع الذي كانت تحكمه- كان يتحرك ضمن شرط الواقع، ليس بهدف الوقوع فيه بل للنهوض به؛ فهو يقبل به لكي يمارس ضغطا عليه يتجه به نحو الإصلاح. وقد لاحظ الشيخ محمد أبو زهرة (ت 1974م) أن هذا النهج من التفكير في رعاية المصالح الشرعية كان سمة لذلك العصر، سواء أكان عند ابن تيمية أو في رؤية معاصره نجم الدين الطوفي (ت 716هـ) المتعلقة بتوسيع حجية المصلحة في التشريع الإسلامي.

السبكي وبرنامجه العملي
ألّف ابن تيمية الشامي كتابه عن إصلاح الراعي والرعية في القاهرة، بينما صنّف تاج الدين السبكي المصري كتابه ‘معيد النعم ومبيد النقم‘ في دمشق؛ والأخير هو الكتاب الثاني الذي يمثل الحلقة الأبرز ضمن حلقات المشروع الفقهي لإصلاح الدولة والمجتمع في العصر المملوكي خلال القرن الثامن الهجري.

يختلف ‘معيد النعم‘ عن كتاب ابن تيمية اختلاف المؤلَّف العملي عن صنوه النظري؛ فكتاب ابن تيمية أُلِّف على غرار مصنفات السياسة الشرعية التي تتعرض عادة للوظائف السياسية العامة للدولة، ولا تهتم كثيرا بالمجتمع وما يعج به من مرافق ومِهَن، أما كتاب تاج الدين السبكي فهو كتاب تطبيقي يبحث أسباب انحراف الدولة في القطاعين العام والخاص، برصده للعيوب الوظائفية والإنتاجية السائدة فيهما وتقديم رؤى وبرامج لمعالجتها.

وبالتالي فهذا الكتاب درس في السياسة العملية والبرامجية التي تُقدمها في عصرنا اليوم مراكز الخبرة وبيوت الاستشارة لصنّاع القرار. وهو يقدم لنا قراءة عميقة لطبيعة المجتمع المملوكي في مصر والشام والحجاز، عبر رصده لـ113 وظيفة وحرفة هي قوام حياة هذا المجتمع في تلك اللحظة التاريخية، ويمكن تصنيفها ما بين وظائف إدارية، وأخرى علمائية، وثالثة مرتبطة بالحِرَف والصناعات والتجار وأصحاب رؤوس الأموال.

وقد خاطب السبكي في كل ذلك السلطانَ ونائبه ومساعديهما وقادة الجيوش، والعلماء في المساجد والمتصوفة في الزوايا، وصولا إلى أصحاب المهن المختلفة وحتى الشحاذين في الطرقات. وبالتالي؛ فالكتاب مصدر غني بالمعطيات التي تخدم أعمال المؤرخين والباحثين الاجتماعيين، وكل المعنيين بنظام الدولة والمجتمع حينها، وبكيفية عمل الوظائف القيادية والإدارية في الدولة ونظيرتها الخدمية في المجتمع. ومن المهم أن نلحظ أن الكتاب يندرج ضمن مجال السياسة الشرعية التطبيقية، وهو مجال لا يتلفت إليه الباحثون كثيرا.

استخدم المؤلف مفهوما شرعيا تزكويا وهو خُلُق "الشكر" ليكون خيطا ناظما لملامح منهجه في الإصلاح السياسي والمجتمعي والاقتصادي، رغم أن الكتابة عن "الشكر" مشهورة في كتب الرقائق والتصوف. وما كتبه السبكي عن الشكر في المدخل النظري للكتاب -وفي الخاتمة عن منحة المحنة- مقتبس من كتاب ‘إحياء علوم الدين‘ للغزالي (ت 505هـ) الذي تأثر هو أيضا بنفس المعالجة للشكر التي قدمها أبو طالب المكي (ت 386هـ)؛ حسب ابن تيمية. والجديد في معالجة السبكي لشكر الله هو أنه جعله مدخلا للحديث عن ترميم الواقع.

واللافت أن هذا الانزياح الدلالي في حركة المفاهيم -الذي أجراه السبكي في توظيف مفهوم "الشكر" التزكوي في الحقل السياسي والمجتمعي- كان سمة لذلك العصر. فظهور مصطلح "نائب الفاعل" في الدراسات النحوية -على يد الإمام النحوي ابن مالك الجياني (ت 672هـ)- كان انزياحا دلاليا آخر، قادما هذه المرة من حقل السياسة ليواكب فيما يبدو تضخم سلطات "نائب السلطان".

وكذلك مصطلح "السلطان المختصر" الذي أطلِق على "نائب السلطان" ذي الصلاحيات الواسعة، واستقاه معجم اللغة السياسية حينها من حقل التأليف العلمي وخاصة الفقهي. وهذا الاتساع في صلاحيات "نائب السلطان" هو الذي جعل السبكي -وكذلك ابن تيمية- يفرد له الكثير من التفصيلات في الحديث عن الولايات والصلاحيات، لا سيما إذا عرفنا أن الكثير من السلاطين تولوا الحكم وهم دون سن البلوغ فكان نوابهم هم المتصرفين، وقد شجعهم السبكي على ذلك ليكونوا في المكان الذي يدير منه السلطان الحكم فيباشروا شؤون الرعية.

بين التزكوي والسياسي
افتتح السبكي كتابه بـ"سؤال" وجهه إليه سائل يطلبا منه –وهو الفقيه القاضي- إخباره عن "طريق لمن سُلب نعمة دينية أو دنيوية إذا سلكها عادت إليه ورُدّت عليه"؛ فأجابه بأن عليه ثلاثة أمور: أن يعرف السبب الحقيقي الذي أدى إلى ذهاب النعمة؛ وأن يتوب من الذنب الذي تسبب له في فقدان نعمته؛ ثم أن يعترف بما في محنة فقدانه النعمة من فوائد ليرضى.

لم تقنع هذه الإجابة السائلَ فطلب من السبكي "شرحا مُبِينا مختصرا"، فرأى أن يضع كتابا في جوابه مقتصرا فيه على "النعم الدنيوية إذ كانت محط غرض السائل". لكن السبكي قرر أن ينقل السؤال من حالة الفرد إلى وضعية الدولة والمجتمع، فوسّع من دلالة السؤال عن كيفية استعادة الفرد المصالح الضائعة عليه، إلى كيف تعود الأمة -بكافة نُظُمها- وحكامها إلى النعم والتمكينات التي فقدتها بسبب الانحرافات السلطوية والاجتماعية؟

وقد استخدم السبكي فكرة "الشكر" هنا للقيام بعدة أمور، في مقدمتها أن تصبح ممارسة الوظيفة والمهنة على الوجه الأمثل دينا يُتقرب به إلى الله، باعتبارها شكرا لنعمه على صاحب الوظيفة أو الصنعة، وهذا يرفع من مستوى الاحتراف والإنتاجية بإتقان العمل. وقد كان من دأب ذلك العصر أن الصناعات يتم تلقيها بالسند عن معلميها مثلها في ذلك مثل العلوم الشرعية.

لماذا اختار السبكي "الشكر" وليس "الحمد"؟ الجواب أن الحمد -في أقوى تعريفاته- سلوك قلبي، لا بد من أن يكون هو حال الإنسان سواء كان الفرد في نعمة أم في ابتلاء، أما الشكر فلا يكون إلا عند حضور النعمة. والشكر وصفه القرآن بالعمل ﴿اعْملوا آلَ داودَ شُكراً﴾، وهو رد الفعل اللازم تجاه أي مِنة أو هِبة مست الإنسان، وبالتالي فهو فكرة معيارية يمكن أن تحس وتشاهد. وعندما يسأل فرد أو أمة عن سبب ذهاب نعمة دينية أو دنيوية -كوظيفة أو ولاية أو مال أو سيادة وتمكين- يقال له إن السبب هو "إخلالك بالقيام بما يجب عليك من حقوقها وهو الشكر، فإن كل نعمة لا تشكر جديرة بالزوال".

والخلل الذي يعنيه السبكي في فهم دلالة الشكر هنا هو أن ينصرف أي عامل إلى صنع أفعال خيرية تطوعية من صيام وصدقات وحج، بينما يتجاهل مهام وظيفته نفسها، ويعتبر أن فعل ذلك يؤدي إلى أن "تشكر [الوظيفة] على وجه غير الوجه الذي عليه بُنيت". وضرب لذلك مثلا بنعمة البصر والسمع قائلا: "[لو] تصدّقت بدرهمين شكرا للَّه تعالى على نعمة الأذنين، وهتكتَ كل قبيح سمعته، وأصغيت إلى كل حرام وَعَيته؛ فلستَ من الشاكرين".

ويتحدث عن الشكر العملي للسلطان أو الحاكم فيقول: "إذا ولَّاك اللَّه تعالى أمرا على الخلق فعليك البحث عن الرعية، والعدل بينهم في القضية، والحكم فيهم بالسويّة، ومجانبة الهوى والميل"، و"لو أنك تركت الناس هملًا يأكل بعضهم بعضا وجلست في دارك تصلي وتبكي على ذنوبك لكنت مسيئا على ربك...، فمَلِكُك لم يطلب منك أن تتهجد بالليل ولا أن تصوم الدهر، وإنما يطلب منك ما ذكرناه. فإن ضممت إليه أعمالا أخرى صالحة كان ذلك نورا على نور، وإلا فهذا هو شكر نعمة الولاية التي بها تدوم".

والحقيقة أن السبكي يحاول أن يعالج الازدواجية الشديدة التي كانت سائدة في المجتمع المملوكي، حيث كان الحكام يعتقدون أن بناء المساجد، ومدارس العلم، وزوايا التصوف، وإطعام الفقراء، وإقامة أسبلة الماء؛ كفيل بغفران ذنوب سفك الدماء وهدر الأموال وظلم العباد.

 

المصدر : الجزيرة نت

والحقيقة أن دولة المماليك -التي امتدت من سنة 648هـ إلى سنة 923هـ- خرجت من رحم انتصارات تاريخية لتحكم سلطنات عظيمة بمصر والشام والحجاز، وكل ما تملكه من مؤهلات هو البسالة العسكرية وقوة البأس، مستغلة حالة التراجع الاجتماعي , فكيف تصرف العلماء مع هذا التحدي؟ وكيف فكرت النخبة العلمائية في ذلك العصر؟ وما هي المناهج النظرية والعلمية التي طرحتها لتوظيف القوة المملوكية الصاعدة في الدفع باتجاه تحقيق الإصلاح الشامل؟

 

تصفح أيضا...